خلال الأشهر القليلة الماضية حصلت ثلاثة انتخابات حاسمة وبشكل متزامن تقريباً في ثلاث من العواصم الرأسمالية الكبرى في النظام العالمي المعاصر. الانتخابات التشريعية الألمانية حيث تمت إعادة انتخاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل زعيمة الحزب الديموقراطي المسيحي وقائدة أكبر ائتلاف محافظ داخل البرلمان لفترة رابعة. وبعملية مشابهة حافظ الحزب الحاكم في اليابان على تصدره في انتخابات مجلس النواب الأخيرة.
حيث حاز تحالف الحزب الديموقراطي الليبرالي الحاكم على ثلثي البرلمان (حوالى 311 مقعداً من أصل 465 علماً أن عدد المرشحين كان قد بلغ 1100 مرشح). ليخرج زعيم الحزب شينزو آبي ورئيس الوزراء بموقف سياسي أقوى يسمح له بمتابعة توجهاته بفاعلية وثقة أكبر. وقد مضت بكين العاصمة الرأسمالية الكبرى الأخرى على خطى برلين وطوكيو نفسها. فقد تم تجديد انتخاب شي جين بينغ أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني لولاية جديدة تمتد لخمس سنوات. وبحسب وكالة «شينخوا» الصينية فقد انتخب شي خلال الجلسة الأولى للجنة المركزية للحزب مع الأعضاء الدائمين الستة في المكتب السياسي. ومن الجدير بالذكر أن انتخابه كان شبه محسوم ومؤكد فقد وصل إلى السلطة في نهاية 2012 عبر توافقات وتحالفات سياسية متينة. وصرح شي أن إعادة انتخابه ستكون بمثابة تشجيع يدفعه إلى المضي قدماً في سياساته.
ثلاث عواصم رأسمالية كبرى تخوض انتخابات حاسمة، ولا جديد. فالنظام السياسي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي في هذه المراكز على درجة عالية من الاستقرار بحيث لا يسعه إلا تجديد وإعادة إنتاج نفسه عبر ترسيخ وتمكين نخبه الحاكمة وطبقاته السياسية القائمة.
اللافت هنا أننا نتحدث عن حواضر رأسمالية كبرى ومراكز رئيسية ترسم فعلياً ملامح النظام العالمي المعاصر. إلى حيث تتجه يتجه النظام العالمي، وكما تكون ــ إلى حد كبير ــ يكون. قد قال كيسنجر عن ألمانيا بعد التوحيد على سبيل المثال «اليوم... حيثما تذهب ألمانيا تذهب أوروبا». وقد ذكرت صحيفة «الإيكونيميست» مؤخراً اعترافاً مؤثراً لديبلوماسي بريطاني حيث قال «إذا ما سألت في أي بلد أوروبي عن أي العلاقات تعتبر الأهم بالنسبة لهذا البلد، فإن الجواب حتماً هو العلاقات مع ألمانيا، وإن كان هذا الكلام غالباً ما يقال من بين الأسنان». إن وضع ألمانيا الفعلي في محيطها الأوروبي الغربي موقع «دولة أولى بين دول متكافئة». وينظر الأوروبيون فعلياً إلى برلين باعتبارها المنسق الإقليمي ومركز التطور الأوروبي، حيث تجتمع التكنولوجيا العالية مع اليد العاملة العالية التأهيل وكلها أسس راسخة للزعامة الألمانية الأوروبية والعالمية.

بكين اليوم هي ثاني
مركز عالمي للتطور
الرأسمالي الاقتصادي

تقدم اليابان نموذجاً آخر لعملاق رأسمالي مستقر وراسخ. فقد تسلم الحزب الديموقراطي الليبرالي السلطة في البلاد بشكل متواصل تقريباً منذ بداية الخمسينيات. ومن المعروف أن نخبة رجال الحزب وعبر بيروقراطية دولة كفؤة وذات نفوذ قد نظمت ذلك النمو الهائل والناجح الذي حققته البلاد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. حيث تشير أبحاث دولية إلى الدور المنظم والاستراتيجي لأجهزة حكومية يابانية تصنف على أنها مركز النظام، مثل وزارة التجارة الدولية والاستثمار ووزارة المالية وبعض الهيئات الأخرى التي تحكم سيطرتها على الميزانية العامة للبلاد والاقتصاد ككل، وتصوغ تالياً تفصيلات النظام السياسي القائم. لعل السمة الأهم التي تميز النظام السياسي الياباني هي الاستقرار الراسخ. إنها السمة الرئيسية للبنية التنظيمية والإدارية ويطلق عليها في اليابان اسم «جيكوكيوجو» والذي يعني حرفياً «حكم الكبار على يد المسؤولين الصغار». واليوم تصنف اليابان هي الدولة الأكثر دينامية في منطقة شرق آسيا الحساسة عالمياً. ولأكثر من نصف قرن لا زالت اليابان هي «العدسة الرئيسية التي تنظر من خلالها الولايات المتحدة الأميركية من خلالها إلى مصالحها في المنطقة» كما يقول كيسنجر.
يعد النهوض الآسيوي عموماً والصيني خصوصاً من ثوابت علم الجيوبوليتيك للقرن الواحد والعشرين. فإلى شواطئ المحيط الهادئ ينتقل مركز ثقل النشاط الاقتصادي العالمي. والصين باقتصادها العملاق ووتائر نموها غير المألوفة تعد قطباً من أقطاب الرأسمالية المعاصرة ولاعباً رئيسياً في النظام العالمي الجديد. والملفت أن هذا العملاق الرأسمالي لم يستنفذ أسباب وعوامل النمو الداخلية فيه بعد. فمنظومة الإنتاج الصينية تمزج ما بين فهم التكنولوجيا المتطورة وامتلاك «أخلاقيات العمل work ethics» التي تكاد تنافس فيها المنظومات الأوروبية والغربية. بحسب تقديرات البنك الدولي، بكين اليوم هي ثاني مركز عالمي للتطور الرأسمالي الاقتصادي إلى جانب واشنطن وبرلين وطوكيو. وأغلب المحللين الغربيين يشبّهون النهضة الصينية خلال العقدين الماضيين بنهضة الامبراطورية الألمانية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ذلك التقدم الذي أسهم في إعطاء زخم للنمو الرأسمالي العالمي وازدياد استقرار الحواضر الرأسمالية.
المسألة الرئيسية هنا هي التمكن من قراءة ما يكمن وراء الانتخابات الثلاث في العواصم الكبرى الثلاث التي تعد بحق من مراكز الرأسمالية الحديثة. أي معنى يكتسبه استقرار النظم السياسية في هذه المراكز وما علاقة ذلك ببنية الرأسمالية العالمية المعاصرة؟ هنا تكمن الأسئلة، وهنا بالذات تبدو الماركسية (كعلم فهم الرأسمالية) حاضرة أكثر من أي وقت مضى لفهم مشهد على درجة عالية من التعقيد. فحتمية الاستقرار السياسي كنتيجة ضرورية للاستقرار الاقتصادي ــ الاجتماعي الذي تعيشه المراكز الرأسمالية ليس سوى قانون تاريخي عام يحدد اتجاهات تطور وتحرك النظام العالمي القائم. وكما صاغها مهدي عامل في كتابه عن «تمرحل التاريخ»: «حركة البنى الاقتصادية في المراكز الرأسمالية تعمل على إعادة انتاج السيطرة السياسية والأيديولوجية للطبقات المسيطرة». فإن عتلات التغيير في المنظومة العالمية ليست في المراكز (المزدهرة والمحافظة وعالية الاستقرار)، بل في «الحلقات الأضعف» المتخلفة وغير المستقرة والتي تلوح فيها احتمالات تغيرات استراتيجية كبرى. لا يمكن توقع أي جديد تغييري في الحياة السياسية لمثلث القوة الرأسمالي المعاصر المتمثل بشمال أميركا وغرب أوروبا وشرق آسيا. ففي هذه الأقاليم المزدهرة تقبع رؤوس حربة الرأسمالية المعاصرة. أما الأطراف الضعيفة والمضطهدة التي يقوم ازدهار المراكز على أكتافها (الدول الكولونيالية كما يسميها مهدي عامل) ففيها تنفتح آفاق تغييرات كبرى تشمل مستويات الحياة المجتمعية كافة، السياسية والأيديولوجية والاقتصادية.
* كاتب سوري