«إياكم أن تشاركوا في دمنا».
كلمات وجهتها إلى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ووزير الداخلية أحمد فتفت كانت كافية ليتراجع السنيورة وفريقه ويقدّم خالد قباني نصّه لتسوية قد تتفق مع ميزان القوى في مجلس الوزراء.
كيف حصل ذلك؟

5- مسار الجلسة وسيرة المواقف فيها

«إياكم أن تشاركوا في دمنا» موقف ولّده الحدس، الشعور الباطن أن مجرى النقاش الابتدائي (يقصد به فذلكة رئيس مجلس الوزراء وهوامش الكلام للجوقة من الوزراء المحيطين به، في الجلسة الاستثنائية لمجلس الوزراء 13 تموز 2006)، يكشف عن مواقف تبرر القول الصادر عن رغبة عميقة في توحيد كل القوى لمواجهة العدو، والتحذير من أشكال الخلاف الداخلية وقد بدأت إرهاصاتها الكلامية، تنتقل على أفواه الوزراء الأساسيين والملحقين في ما ينوء به محضر الجلسة، إذا ما فتحت أوراقه للنقد التاريخي.

اللهم احمني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم، يتردد الدعاء في أعماق النفس وقد آلمها سيل الخطب المصوّبة كالسهام إلى القلب، هذه سهام القوم إليكم، أي نوع من الطعنات التي لا تردّ في لحظات يلزم فيها أن يكون الإحساس كافياً بالأمان الداخلي، وفيه بداهة الوحدة الوطنية وبساطة التضامن الحكومي الذي عقب عليه الوزير مروان حمادة بالردّ علي قائلاً: لا يلزمنا أمان القلب فقدان هذا الأمان كان في التدحرج السريع للحرب.
خلاصة كلام الجلسة الاستثنائية، استحق تنويهاً لاحقاً من جورج بوش وقدّم تبريراً لحرب شاملة تحت شعار الدفاع عن الدولة، بعد اختراق المقاومة للخط الأزرق وأسر الجنود الصهاينة. يقول بعض الوزراء، بغضب مفتعل وتهديد غير مباشر، لقد تجاوزتم الخط الأزرق، وهل تعرفون ما يعنيه تجاوز الخط الأزرق، ودخول أرض الغير (لا يعرف إن كان يقصد فلسطين أو كيان الصهاينة) من مواقف دولية، لا تسمح للحكومة أن تنشط في دبلوماسية فعالة لمنع العدوان.
وعليه فقد وجد رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، مستفيداً من شبه المقاطعة الدولية والعربية للرئيس إميل لحود، ومن حصارٍ مضروبٍ على فعالية وزارة الخارجية، أن يبرز كمفاوض وحيد، مطلق اليد واللسان في الحديث على الهاتف مع رؤساء الدول وممثليها الرسميين.
رئيس الحكومة اللبنانية في زمن الحرب، لا يجد تعبيراً أفضل من المصادقة على تقرير أولي لقوّة الأمم المتحدة، باختراق الخط الأزرق، ويجد أن الحرب الشاملة، وقد بدأت كواحدة من أقوى حروب الألفية الثالثة، رداً عسكرياً غير متكافئ على اختراق الخط الأزرق وأسر الجنود الصهاينة.
كانت جملة «إياكم المشاركة في دمنا» كافية ليقدم الوزير قباني تعديلاً على المشروع

كان الرئيس السنيورة حريصاً على أن يذكر في محادثاته على الهاتف وفي اللقاءات العلنية والسريّة أن الحكومة اللبنانية، لم تكن تعلم، ولا علاقة لها، ولا تتبنى وتعارض الرد غير المتكافئ على ما يسبق وأنكرته أو استنكرته. وهي مسرورة بالتنويه الآتي من الشرق والغرب، بهذا الموقف ساعية إلى تلمّس الأخبار عن مطالبة أميركية وأوروبية بعدم «إيذاء حكومة السنيورة» مفاد هذا القول: إن الحرب يجب أن تشنّ على حزب الله وليس على لبنان، ولكن المشكلة تقوم على أن الحرب بالمعنى العسكري المحض، لا يمكن أن تكون على حزب الله دون أن تكون على لبنان، وهذا ما خلص إليه دولة الرئيس نبيه بري، بالقول: إن الحرب على لبنان والعمليات لا تؤذي حزب الله وحده.
كان الرئيس السنيورة يحرص على القول في مجلس الوزراء، وأمامنا كوزراء ممثلين لحزب الله وحركة أمل أنه على تنسيق دائم في الموقف السياسي والدبلوماسي مع دولة الرئيس نبيه بري... كان يريد أن يحصل على ثقتنا بعد إحساسه العميق بأننا نمارس حيالها شك أبو حامد الغزالي ورينيه ديكارت وإذا كان من حقنا أن نتعامل بحذر وانتباه، ونتعاون بصدق وانفتاح، ونتصرف بحكمة وشجاعة، فإننا، وتحت ستار هذا الشك المبني على اعتبار «المؤمن كيس فطن» والظاهر في عيوننا ومخارج أصوات كلمات الخطب الهادئة، الصادقة الحكيمة، الشجاعة، الساعية أن تكون صدى أصوات بنادق وأقدام المجاهدين، في ثباتهم وأخبار انتصاراتهم ينقلها الوفد العسكري من قيادة الجيش ورئاسة أركانه وجهاز المخابرات في بداية كل جلسة ضاق بها صدر رئيس الحكومة في ما بعد، ليجعل قيادة الجيش خلاف كل الأصول، تنتظر في صالون الاستقبال، ريثما يتدبر أمر تمرير ما يرغب من أمنيات ومحادثات دبلوماسية الغرف السوداء.
كان الحدس، الحاسة الأكثر اشتغالاً في تحصيل الفهم في ما يجري حولنا. كان من الضروري أن تقرأ الخطب ليس في دلالتها اللفظية المباشرة، بل في أبعادها الأخرى، قراءة ما بين السطور الفصل والتركيب، والوصل والربط لإدراك ما تعنيه بيان الجلسة الاستثنائية لمجلس الوزراء 13/تموز/2006 والتي اعترضنا على مضمونها الأساسي وعلى بعض الكلمات والمفاتيح حاملة الرسائل إلى الخارج الإقليمي والدولي.
كنا نريد أن نحافظ على الوحدة الوطنية، على تضامن الحكومة وتماسكها، وهذا ما يمليه الواجب والمنطق والعقلانية والحكمة والصواب والشجاعة في زمن الحرب. وكنا لا نمانع بالقول أن حزب الله قام بعملية أسر الجنود، وأن الحكومة لا علم لها بذلك، وهي لم تقم بهذا الفعل، المقاومة وحدها الفاعل الذي قام بالفعل.
لكننا على يقين أن ما قامت به المقاومة، كان يمثل مصالح الشعب اللبناني، ويعبر عن إرادته. وعليه، لم يكن مقبولاً أن يتطور موقف الحكومة إلى أكثر من إقرار الوقائع من دون الدخول في تفسيرها أو تقييمها.
وعليه، فإننا اعترضنا على أن الحكومة لا تتبنى، لأن التبنّي أو عدمه، موقف يقيم الفعل وأسبابه وأهدافه وإذا دقق محقق تاريخي في هذا الاعتراض يجد أنه تعبير صادق عن معارضة صريحة، بتجاوز الحكومة ما اعتادت أن تقوله في مناسبات مشابهة وأننا كنا حريصين على الوحدة الوطنية والتضامن. قلت إن الرئيس فؤاد السنيورة استفاد من شبه المقاطعة الدولية والعربية لرئيس الجمهورية إميل لحود، ومن تراكم الدبلوماسية التقليدية في أروقة ودوائر وزارة الخارجية والمغتربين، ليظهر ممثلاً مطلق الصلاحية في إدارة العملية الدبلوماسية، لكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر، فقد تصدّى الرئيس بري لإدارة دبلوماسية ديناميكية، وفعلت وزارة الخارجية من حراكها التقليدي، وتمركزت سلطة القرار في مجلس الوزراء.
كان وزراء الموالاة أقل المستشارين شأناً عند السنيورة. يعتمد على محمد شطح الذي أضحى وزيراً للمالية، وعلى د. رضوان السيد، وكاتمة أسراره السكرتيرة الإدارية، ابنة شقيقته.
خاطبتها مرة بلطف مقصود، أنت معنا أو مع السنيورة قالت: أنا مع خالي. الخؤولة إذن، صلة الرحم، لا بأس لكن صلة الوطن؟
كان طارق متري وأحمد فتفت مستشارين برتبة وزير، الدكتور طارق متري، للثقافة والدبلوماسية وأحمد فتفت، للأمن والحملات الإعلامية، وكان مايسترو الفريق مروان حمادة، والياس المرّ عازفاً منفرداً على آلة موسيقية مصنوعة في منطقة، ضائعة بين موسكو وواشنطن، والسيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية نايلة معوض، دائمة الاتفاق مع وزير الأشرفية ميشيل فرعون الآخرون صامتون، ناطقون، في الحضور والغياب وآخر المتكلمين وزير الإعلام في قاعة مجلس الوزراء، وفي غرفة الصحافة...
في هذا التوصيف كيف نتدبر الأمر، كنت أعرف أن الحرب، امتداد للسياسة بوسائل أخرى، وأن السياسة فن صناعة الانتصار، وصورته القيمية بصورته الواقعية في الميدان، وأنه عندنا قيادة حكيمة شجاعة عادلة في الميدانين، وأن دورنا أن نضع أمامها صورة الواقع الحقيقية والحقيقة الواقعية. وعليه، كنت أرسل كل يوم 3 تقريرات لسماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله حفظه المولى القائد الحقيقي لحرب تموز في السياسة والحرب، أضع فيها أمامه صورة واقعية حقيقية لما يجري على مستوى مجلس الوزراء والمجالس الوزارية واللقاءات السياسية والدبلوماسية، ومع قراءة ملخصة للمواقف وتحليلها. وهذه الوثائق موجودة في أرشيف حزب الله الرسمي.
قلت تقاتل وأنت في دارة السراي. يجب أن تدخل دخول الواثقين، وتخرج منها خروج الفائزين. الحضور والفطنة والدراية والإحاطة والمتابعة المستمرة. وإظهار المواقف على صورة تامة الوجه والمشاركة من موقع الفعل، في إدارة حرب في ميزانها كل أثقال الوجود.
ومن عمل مثقال ذرة.. وما هذه سوى لحظة يتم وضوءها بالدم ومسعاها بالقرب ومبتغاها النصر أو الشهادة.
كان يمكن أن يصدر نص آخر لو لم يتم الاتفاق على هذا النص.
يفتح تعليق وزير الإعلام غازي العريضي العقل على فهم نص البيان الوزاري، كنقطة اتفاق، في سياق. وأن مجلس الوزراء مستعد لأن يذهب في الائتلاف والاختلاف حتى صدور القرار وقد اعتاد مجلس الوزراء أن يأخذ في زمن السلم قراراته بالتوافق، كيف يستذكر في زمن الحرب إمكان الخلاف.
أمر يكشف أن الحكومة اللبنانية كانت في موقع الشراكة، لكن لماذا وكيف؟ البحث في هذا الأمر، إشكالية جديرة بالجواب..

6- قبول البيان وحده الأقصى

كان الموقف المقبول من قيادة حزب الله في حدّه الأقصى، هو القبول بصيغة القول أن حزب الله من قام بأسر الجنود الصهاينة وأن الحكومة اللبنانية، لم تكن على علم بالعملية ولم تشارك بها وعليه يكون الفصل بين المقاومة الإسلامية والحكومة اللبنانية، هو تبني المقاومة الإسلامية لعملية أسر الجنود الشجاعة، وذلك من دون علم ومشاركة الحكومة اللبنانية. وربما يحمل الحوار حول هذه المسألة في مجلس الوزراء، النقاش إلى مسائل من نوع، عدم تبني الحكومة للعملية، ومعنى ذلك باللغة الدبلوماسية المباشرة عدم موافقتها عليها ويترتب على ذلك، في حده الأقصى أيضاً، أنه لا تتحمل المسؤولية عن العملية، كفعل مباشر.
في مناقشة داخل الحكومة لموقف من نوع نقبل بنسب الفعل إلى المقاومة ورفعه عن مسؤولية الحكومة، يمكن أن يقدم بأشكال وصيغ متعددة، ما يدخل القرار في جوهر الموقف أو يخرجه عنه بالكلية. وعليه فإن ما كنت شديد الحرص عليه، مستفيداً من تجارب عديدة في الحوار السياسي والمفاوضات وتغليب النقاش حول المواقف والإحاطة بها وآثارها، من أن الحوار حول القرار، وفق الموقف الذي تقبل به قيادة الحزب يجب أن لا يتعرض لما يلي:
تقييم الفعل، المقصود أسر الجنود الصهاينة، ومنع توجيه النقد إليه، مثل القول إنه تجاوز للخط الأزرق، ومباشرة في القتال، واعتداء على الآخر هذا من ناحية، من ناحية أخرى يجب أن يكون الموقف من ردة فعل العدو لا صلة له، بمعرفة ومسؤولية الحكومة عن فعل أسر الجنود، بل من مسؤوليتها في الدفاع عن الوطن ورد العدوان، ورفض التهديد والوعيد وعليها أن تدخل في مواجهة سياسية ودبلوماسية كردّ العدوان هي ليست مسؤولة عنه في ما ذكرنا، ولكنها مسؤولة عن الآثار التي يرتبها العدوان على الأرض والشعب، ولذلك طالبتها بأن تأخذ موقفاً وطنياً في الدفاع عن الشعب والوطن.
بعدما سقطت صيغة بيان السنيورة لمعارضتها بشدة من قبلنا والتي تعتبر عملية أسر الجنود التي قام بها حزب الله من دون علم وموافقة الحكومة، غير المسؤولية عنها، تشكل انتهاكاً للخط الأزرق وعملاً حربياً على دولة أخرى، هذه الصيغة كانت تعني مشاركة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وفريقه بدمنا. يعني أننا نواجه حرباً من العدو الخارجي وحرباً أشد إيلاماً من فريق نشاركه في الحكومة اللبنانية. وعليه، كان لا بدّ من رفض هذه الصيغة واعتبارها مشاركة في سفك دمنا، الأمر الذي فهمه من يلزم أن يفهم من المشاركين في مجلس الوزراء، أنها صيغة لن تمر رغم معرفتهم الوثيقة أننا نحرص على أمرين:
1) بقاء الحكومة قوية وفاعلة في زمن الحرب.
2) التضامن الوزاري ما أمكن الأمر حصوله.
والشرط الأساسي لهذين الأمرين أن تكون الحكومة نفسها ليست شريكة في العدوان، وهذه المسألة تفسر بشكل واضح كيف انتهت عليه الأمور، بعد حرب تموز من انسحابنا من حكومة السنيورة واعتبارها حكومة بتراء، والأحداث المتعاقبة موضوع نظرة، لكنها تأتي في السياق نفسه وتفسر، على ما أرجّح، كل التطورات السياسية في الصراع داخل الحكومة إبّان حرب تموز إلى الانسحاب منها بعد الحرب، وقيام أكبر حركة اعتراض شهدها لبنان في اعتصام ساحة البرج وسط العاصمة إلى ما عرفته البلاد من أحداث لاحقة.
ثمة حدس باطني موروث، جعلني أقول ما قلته في تلك الجلسة التاريخية. تذكرت عن الإمام الصادق أنه قال في حدود التقية، إنه مع كل ما للتقية من أهمية إياكم البراءة منا، لم أكن قادراً تحمّل أن تتلو الحكومة فصل البراءة من المقاومة الإسلامية كان ذلك يعني، في لحظة ميتافيزيقية عالية الحضور، أن العالم كله، باطل، وأن هذه سهام القوم إلينا، وقد صارت الحياة مع الظالمين برما.
لا يمكن للسياسة أن تنفصل عن الميتافيزيقيا. وعليه لكل سياسة ميتافيزيقياها القادرة على تفسيرها، حيث يصعب الشرح والتحليل، كطريقة يقوم العقل بها لتبرير صدق الحقيقة...

7- إشكالية صيغة خالد قباني

كانت جملة «إياكم المشاركة في دمنا» كافية ليطلب الوزير خالد قباني الكلام ويقدم تعديلاً على المشروع المقترح، يتراجع فيه عن هذه الشروط، لكنه يبقي على موقف يحمل تقييماً لفعل المقاومة. أحسست أن تنازلات الفريق الآخر بدأت، وأن طوق الحصار بالتهديد والوعيد قد انكسر، وأن الرسالة وصلت إليهم ولكن كنت آمل، بتنازلات إضافية هي في الواقع مكاسب للشعب اللبناني وتراجع عن دفتر الشروط الخارجية.
سبقني الأخ الحاج محمد فنيش للموافقة على مداخلة واقتراحات الوزير خالد قباني كان لا بدّ من الموافقة، مع إحساسٍ يجمع عندي بين إمكانية تحصيل مكاسب أكثر في البيان الحكومي، أو المخاطرة بكل ما حققناه من كسر طوق إملاءات القوى المعادية على الفريق الآخر في مجلس الوزراء. قلت لعل الخير في ما حصل، لكن عرفت منذ تلك اللحظة، أن الصراع داخل الحكومة سيتأرجح بين الحياد المدروس في الحرب، على قاعدة ميزان القوى، وبين المشاركة في فرض شروط القوى المعادية علينا.

8- في ميزان القوى والانقلاب الأبيض على قصر بعبدا

لا يشارك كل الوزراء في كل نقاش، كان الوزراء الأخصائيون، لا يتدخلون في مناقشة الموضوعات السياسية المحضة ويكتفون بمتابعة ملفات وزاراتهم، تلك حال الزملاء من وزراء المالية والاقتصاد، وشؤون المهجرين وآخرين وتلك خاصية موجودة في كل حكومات العالم، لكنها تأخذ في لبنان شكل المتابعات الوظيفيّة، حيث يحيط الوزير بوظائف وزارته ويكتفي بمتابعة مشاريعها على جدول الأعمال، وينأى بنفسه ما أمكن عن المناقشات السياسية إلّا ما يلزم من الثناء على قولٍ أو التدخل في تهدئة الحوار، بين الفواصل عالية التوتر، ولكن المشكلة في الوزراء الذين يتولون حقائب ذات أبعاد سياسية والذين يظهرون مثل المثقفين الملحقين بسياسة التيارات الأساسية داخل الحكومة، فيما تبرز أدوار عالية القيمة لوزراء، يتقنون مهامهم ويحيطون بوظائف وزاراتهم ويشاركون بفعالية في الحوار السياسي.
وكان الصديق معالي وزير البيئة يعقوب الصراف واحداً من الوزراء النادرين في الدفاع عن قناعاته السياسية، والمشاركة الفاعلة داخل الحكومة ليصح القول فيه، كان أمة في رجل، لبنان يفخر برجالٍ من هذه الجبلة الوطنيّة المأخوذة من أعالي جبل صنين...
ويلفت في مراحل الصراع السياسي الصعبة، توافر حالات الانقلاب على الخط السياسي، والحلف السياسي، والفرار من تحمل المسؤولية، ووسوسة الشيطان للنفس الأمّارة، أنها، قادرة في اللحظة عالية التوتر، على اقتناص الفرص، والوصول إلى أغراضها بصرف النظر عن أخلاقية الطرق والأساليب. تلك كانت واحدة، من عناصر تغير الأغلبية العددية داخل مجلس الوزراء بانقلاب وزراء أساسيين على فخامة رئيس الجمهورية إميل لحود، وانتقالهم من موقع سياسي إلى موقع آخر، في ما لو حافظ هؤلاء الوزراء على مواقفهم وصدقوا مع كتلهم وصمدوا في وجه الإغراءات والوسوسات.
ميزان القوى داخل الحكومة، محافظاً على توازنه بالنسبة لجعل كل قرار يخص أمور البلاد والعباد العليا، يخضع لأطروحة التفاهم والتوافق والمشاركة اللبنانية وأعرافها وتقاليدها وأحكامها الشهيرة.
ما نقصده في هذا المحل هو ميزان القوى على مستوى النصاب داخل مجلس الوزراء، وهو ذو طابع قانوني، لكنه ميزان قوى شكلي، لا يعكس ميزان القوى الحقيقي في البلاد. وعليه، فقد دفعنا نتيجة ما يمكن تسميته «الانقلاب السافر على قصر بعبدا» أثماناً عالية وأهمها في مسألتين:
1) الإشكاليات الكبرى حول المحكمة الدولية، وما وقّعه وزير العدل شارل رزق من بروتوكولات واتفاقيات بشأنها، والمسألة تحتاج إلى بحث مستقل.
2) موضوع استقالتنا من الحكومة واستمرارها حكومة بتراء، رغم الحركة غير المسبوقة، للشارع الوطني، في الاعتصام والتظاهر في مواجهة حلف الحكومة، وتلقي بعض الوزراء مساعدات وهبات من الخارج أدخلت عنصر المال في كسر معادلة الأعراف اللبنانية والتي لم تهتز في أوقات صعبة وكانت أقوى من محاولة شراء ذمم أصحابها.

9- هل يمكن شرح ديالكتيك الحوار داخل مجلس الوزراء؟

يمكن شرح ديالكتيك الحوار أو مساره داخل مجلس الوزراء بصرف النظر عن جدارة موضوعه، ورغم أن الموضوعات تتفاوت ما يكون في جدول الأعمال عادة موضوع رئيسي يستحق أن نشرح ديالكتيك الحوار حوله.
في حال ترأس رئيس الجمهورية الجلسة يفتتحها بفذلكة عامة ويعطي لرئيس الحكومة ليطرح ما يعتبره الموضوع الأساسي في جدول الأعمال، ويكون هذا الموضوع قد أشبع نقاشاً في اللقاءات السابقة بين مجموع القوى السياسية، ووصل جلّ المواقف إلى وسائل الإعلام.
يبدأ رئيس الحكومة السنيورة الحوار بطريقة هجومية لا تخلو من الحدّة وإظهار الخصومة، وحين يطلب الوزراء الكلام يعطى أولاً لفريقه إذا كان رئيساً للجلسة وفي هذه الحال يتناوب الفريق الوزاري على الكلام ويفيض في شرح آراء رئيس الحكومة ويثني عليها مما يشكّل تكتلاً يشن هجوماً متناسقاً، لكنه لا يخلو من فجوات قاتلة ومواضع ضعف يمكن اختراقها وتبيان تهافتها.
تذكرني طريقة مواجهة هذه الكتلة من الآراء المتدفقة حول موقف واحد بضرورة البحث عن أفضل الطرق لتبيان تهافت الخصم في الحجاج وأهمها ما يجمع بين الأسلوب السقراطي في محاورة السفسطائيين، والأسلوب البرهاني في مواجهة أصحاب الجدل المتهافت وعليه تكون الطريقة المناسبة هي التالية:
مواجهة الموقف بالموقف المباشر والصريح، وهذا يشكل عنصر الصدمة التي تخرق جدار الهجوم الكلامي المرتبك. تخرقه وتوقفه عند حدوده الواقعية وتشبه فعالية الرعادة عند سقراط، كان الأخ الحاج محمد فنيش يقوم بهذا الدور وعليه كنت أتابع الأمر بمواصلة الاختراق وتفكيك الآراء، وبيان تهافتها، تم تقديم شرح وافٍ لموقفنا الذي يتحول إلى الموضوع الأساسي في الحوار، كان فريقنا الوزاري يتابع عملية الخرق والتفكيك وعادة ما يحصل التراجع عن طريق الفريق الآخر يقوم به خالد قباني مرة، وغازي العريضي مرات أخرى، يحاولان الوصول إلى معادلة تركيبية، أو ما يعرف بالحل الوسط، وما أدعوه بالمحصّلة الواقعية. وعليه، يعود لنا أن نرتب هذه المحصّلة ونعيد تمحيصها ونضعها على سكة القرار أو على صندوقة التصويت عندما الأمر يستلزم التصويت وهو مرجع نادر في مجلس الوزراء.
ما الذي يعنيه هذا التكتيك في الديالكتيك الحواري، يعني أننا نحوّل الموقف لصالحنا، لأن الذي يطرح عادة، يكون فيه من المواقف المشتركة المتحصلة في الحوار خارج مجلس الوزراء، وما يحصل داخل مجلس الوزراء، يكون بتحقيق مكاسب إضافية، هذه المكاسب تكون لصالحنا، لأن الذي يقدم التنازلات هو الطرف الآخر، مهما حاول في البداية رفع سقف مطالبه أو إظهار التشدد في مواقفه. إنه ديالكتيك هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وتبيان المقاصد ثم تبيان تهافت آراء الخصم وإظهار بيان الحق والحقيقة، والوصول في تحصيله إلى ما يسمح به على وجه العموم ميزان القوى السياسي.
وقد ساهم هذا التكتيك في النقاش للوصول إلى نتائج عامة تمثل صورة عن واقعٍ معطى استمر فعله زمناً وصورة عن واقع حيويّ دينامي مقاوم يسعى إلى تغييره على الدوام. وعليه، فإن جلسة 13 تموز 2006 الاستثنائية والتاريخية فعلاً تمثل صورة واقعية عن ميزان قوى واقعي. كان حزب الله وحلفاؤه وفريقهم السياسي هم الغالب الذي هزم العدو الصهيوني وحمى لبنان ونصر فلسطين وعزّ العرب والمسلمين وأحرار العالم.
* كاتب، وزير لبناني سابق