من بين الأدبيات والنقد الذي يوجّه الى حالة الرأسمالية اليوم وتشكيلها لحياة الأفراد، هناك فرضيّة تثير، بشكلٍ خاص، قلق العمّال والباحثين: التقادم «الفجائي». الفكرة، هنا، هي أنّه يمكن أن تجد نفسك خارج سوق العمل «فائضاً بشرياً»، وأن مهاراتك لم تعد لها قيمة بشكلٍ لا يمكن التنبؤ به أو توقّيه، وهذا جزءٌ من القلق الدائم الذي يحمله كلّ موظّفٍ أو عاملٍ في عالم اليوم.
انت لا تتقادم هنا بفعل التطوّر الطبيعي للتكنولوجيا ودوراتها، ولأنّك عاندت مثلاً ورفضت تعلّم لغة الكمبيوتر لدى ظهوره، وأصررت على استخدام الآلة الكاتبة (أو عربة الخيل، أو أفلام التصوير القديمة) حتّى اختفت وظيفتك ولم تعد مهاراتك ذات قيمة. عمليّة «الخلخلة» (disruption) التي تعصف بقطاعاتٍ دورياً هذه الأيام، وتغيّر أنماط العمل جذرياً، قد تعني أنك لم ترتكب أيّ خطأ، وانت مثلاً عاملٌ ماهر في مجال التلحيم الصّناعي، ولديك وظيفة راتبها مرتفع وعليها طلب، وانت متدرّبٌ جيّداً على أحدث التقنيّات، ثمّ ينتشر روبوت يقوم بمهمّتك فتغدو من غير عمل، وتصبح كلّ سنوات الخبرة والمهارات التي راكمتها من دون قيمة.

تكنولوجيا جديدة، رأسمالية قديمة

حين يجري الكلام عن الأتمتة وبرامج الذكاء الاصطناعي وتأثيرها على الوظائف في المستقبل، فإنّ «الخديعة الكبرى» في الكثير من التقارير الصحافية هي أنّهم يرونك صورةً لروبوت في مصنع أو مستودع، ويوحون اليك بأنّ هذه التقنيات تمثّل، فحسب، خطراً على وظائف التصنيع والأعمال اليدوية وخطوط الانتاج في آسيا. الحقيقة هي أنّ دور المكننة في تقليص اليد العاملة في الصناعة قد حصل بالفعل، باضطرادٍ منذ السبعينيات، وقد قام (في الغرب، وقريباً في آسيا) بـ«خلخلة» الكثير من الصناعات التي كانت تشغّل تقليدياً أعداداً هائلة من العمّال (من صناعة السيارات الى الحديد والصلب، حيث الانتاج فيها أكبر بكثير مع عدد عمّالٍ متناهٍ في الصغر مقارنة بالماضي). الروبوتات والبرامج «الذكية» ستقوم، في الآتي من السنوات، باستبدال الكثير من الوظائف في قطاع الخدمات والمعرفة، أي «القطاع الحديث» الذي استوعب العمّال بعدما أغلقت المصانع الكبرى في الغرب أبوابها، واعتلى الصدأ المدن الصناعية القديمة: ستختفي الكثير من وظائف البيع بالتجزئة (في المول و«وولمارت» وأمثاله) أمام هيمنة البيع الالكتروني، سائقو الشاحنات والتاكسي لن يعود لهم مكان مع السيارات الذاتية القيادة، ومهام المساعد الشخصي والسكرتير والكثير من وظائف «الدعم» التي تجدها في الشركات القانونية والمالية والطبيّة ستتولّاها برامج «ذكية» ــــ وهذه كلها تقنيات موجودة اليوم أو هي في مراحل التطوير المتقدّمة.
الكثير من وظائف التدقيق والمحاسبة لن تحتاج الى بشرٍ في المستقبل القريب، وعمل ابرام العقود والتصديق عليها ووظيفة «من يحمل الختم» ويوقّع على المعاملات ستستبدل بـ«بلوك تشاين» وعقود اوتوماتيكية. بل إنّ وكالة «بلومبرغ» نشرت تحقيقاً يظهر أنّ الذّكاء الاصطناعي اليوم قادرٌ على القيام بعمل العديد من تجار البورصة والمحللين ومديري الأصول في «وول ستريت» (الذين تُدفع لهم حالياً رواتب عالية جداً) وأنّ شركات البورصة وادارة الأموال بدأت تستبدل الموظفين بهذه البرامج المتقدّمة، بحيث أن 30% من وظائف ادارة الأصول، بحسب «بلومبرغ»، ستُستبدل بروبوتات بحلول عام 2025 (وهذه وتيرة سريعة جداً لـ«انكماش» قطاعٍ وظيفي)، وأن أكثر من 280,000 وظيفة ماليّة (أي 18% من المجموع الحالي) ستختفي من «وول ستريت» بالإجمال، من بيع وشراء الأسهم الى تحليل الـ«داتا». بتعابير أخرى، إن كانت الثورة الصناعية تعني (بتعبير دايفيد لاندِس في كتابه الشهير «بروميثيوس متفلّتاً») نقل الجهد العضلي من البشر الى الآلات، فإنّ ثورة المعلومات ستعني، تدريجياً، نقل العديد من مهام الجهد الفكري الى الآلات ايضاً.
هذه التغييرات، حين تضرب قطاعك المهنيّ، لا تحصل دوماً دفعةً واحدة، بل لها مسارٌ انحداريّ مؤلمٌ ومثيرٌ للكرب. الترجمة مثال: الترجمة الآلية اليوم أصبحت كافية لسدّ أكثر الاحتياجات البسيطة للأفراد، والذكاء الاصطناعي وتراكم الـ«داتا» جعلا البرامج المتفوّقة قابلة للاستخدام في بعض التعاملات الداخليّة للشركات، التي كانت في السابق تحتاج الى توظيف مترجمين. لو تطوّر مستوى الذكاء الصناعي خطوةً اضافية، ستبدأ الترجمة الآلية بالقضم من السّوق الفعلي للمترجمين، وعندها تبدأ الفاقة، ويقلّ الطّلب على الجميع، وينطلق التنافس وخروج «الأضعف» ولعبة الكراسي التي تنقص باستمرار. هناك نصيحة مهنيّة كان يردّدها لنا باستمرارٍ أستاذٌ في الجّامعة، بأن نرحل عن أيّ مجالٍ تبدو عليه بوادر الانحدار: «انت لا تريد أن تجد نفسك في سوق عملٍ يتقلّص» (وها أنذا اليوم، أكتب في الصحافة الورقيّة).
يجب أن نأخذ هذا السؤال خطوةً اضافيّة حتّى نفهم مغزاه وتأثيره الكلّي: في اميركا (حيث توجد احصاءات دقيقة عن العمل والوظائف) يعمل في البيع بالتجزئة أكثر من 15 مليون شخص، أي عشرة في المئة من مجمل الوظائف في البلد، ومثلهم في قطاع المطاعم وخدمات الترفيه، وملايين السائقين، وأكثر من عشرين مليوناً في فئة «خدمات الأعمال». أبناء العمال الصناعيين في الغرب دُفعوا الى هذه الوظائف «المرنة» في قطاع الخدمات، وهم اليوم قد يُدفعون خارجه، لا ندري الى اين. كان لصعود قطاع الخدمات بديلاً عن العمالة الكثيفة على خطوط التجميع أثرٌ هائل على مفهوم العمل والطبقة والتنظيم منذ الستينيات. اختفت الصورة الكلاسيكية عن العمال في المصانع، وأغلبية «الكادحين» الذين يعملون في ظروف متشابهة، وضمن مؤسسات ضخمة تسمح بالتواصل والتنظيم، وتعطيهم هوية «عمّاليّة» واضحة. كانت زميلة ماركسية بريطانية تقول بأسى كيف أن أبناء الطبقة العاملة، حين أصبحوا موظّفين في مدينة لندن، سكرتيراً أو مساعداً لمحام أو بائعاً في متجر، باتوا يرتدون بذلات رسمية بدلاً من ثياب المصنع، ويعملون في مكتبٍ مكيّف بدلاً من مكان الانتاج، فهم أصبحوا بشكلٍ ما «طبقة وسطى» ولم يعودوا «بروليتاريا»، ولم يعد ينطبق عليهم (من النظرة الى الذات الى ضرورات السياسة والنضال) ما كان ينطبق على آبائهم. السّنوات الماضية، وبخاصة منذ الأزمة المالية، وما سيأتي في المستقبل على من هم «تحت»، سيظهر للجميع بوضوحٍ ما إن كانت الرأسمالية قد اختلفت حقّاً مع تغيير أنماط الانتاج وشكل العمل، ولم تعد الرأسمالية التي نعرفها، أم أننا ما زلنا في النّظام نفسه؛ وهو ما سيلمسه ــــ بحقٍّ ــــ من سيصبح «فائضاً بشريّاً» في السوق، أو يتنافس على وظائف أقل وأجورٍ تنخفض باستمرار.

احتكارٌ وقصف

على المستوى الأعمّ، مستوى الشركات الكبرى والدّول والتراكم الرأسمالي، المسألة لا تختلف كثيراً. نشرت مجلة «ايكونوميست» منذ أسابيع تحقيقاً عن ضمور شركات التكنولوجيا الصّاعدة (start-ups)، التي كانت نجوم الاقتصاد العالمي في العقدين الأخيرين، والدليل\ المثال على دينامية الرأسماليّة ومكافأتها للابتكار والإبداع. ما يجري، بحسب الخبراء، هو أننا لن نشهد مارك زوكربرغ أو جيف بيزوس أو بيل غايتس جديداً، يعمل في قبو منزله اليوم على برنامجٍ مبتكر، سيتحوّل في المستقبل الى شركةٍ هائلة. لم تظهر شركات جديدة كبرى منذ «اوبر» قبل عشر سنوات: لقد تمّ «اشباع» القطاع، واستقرّت فيه ماركات هائلة مهيمنة (مثل «فايسبوك» و«أمازون» و«علي بابا») أمسكت بأركانه. والمجالات المستقبلية في سوق التكنولوجيا (من الذكاء الاصطناعي الى القيادة الذاتية الى الحواسيب الكمية) تحتاج ــــ تقول «ايكونوميست» ــــ الى استثماراتٍ وأبحاث هائلة لن تقدر عليها الّا العماليق، ولم يعد دخول السوق يجري ببساطة عبر كتابة برنامجٍ مفيدٍ أو تطبيقٍ لم يفكّر فيه أحد من قبل. هنا ايضاً أمثولة ماركسيّة قديمة عن ميل التنافس الرأسمالي الى خلق الاحتكارات وتوسيعها، سواء كان ذلك في صناعة الفولاذ في القرن التاسع عشر أم في مجال المعلوماتية اليوم.
فيما العامل الغربي يعيش في قلقٍ وخوفِ من الانحدار الطبقي والبطالة، فإنّ الراسمالية في بلادنا تأخذ أشكالاً مختلفة وأكثر عنفاً بكثير. «الخلخلة» التي يخاف منها المواطن العربي هي ليست في أن يستبدله روبوت في مكان العمل، بل تأتي على شاكلة حربٍ أو غزوٍ أو أزمة، تحطّم أسلوب حياته وتقتلع مجتمعه بالكامل. هذه «الخلخلة»، كما في التكنولوجيا، لا يمكن في الغالب توقّعها أو توقّيها؛ اذ لم يمرّ جيلٌ على أكثر أهل هذه البلاد (من الجزائر وليبيا الى سوريا ولبنان والعراق) لم يشهد في حياته إعصاراً من هذا النّوع، يغيّر كلّ شروط حياته أو يهدم ما راكمه وعمل لأجله. إن كان العامل الغربي قد بدأ يفقد الضمانات التي تعطيه حصانةً تجاه عاديات السّوق الخارجي وتغير الأسعار والتنافس العالمي، فإن العربيّ ــــ فوق ذلك ــــ عارٍ تماماً أمام أعاصير السياسة والنظام الدولي، الذي جعل اقليمنا ساحة حرب (القوى الكبرى، من اميركا الى السعودية، تنفق وتستثمر مئات مليارات الدولارات في المنطقة، ولكن على الحروب والتدمير حصراً).

خاتمة

في روايته الشهيرة «عالمٌ جديدٌ شجاع»، تخيّل الدوس هَكسلي عالماً أوصلته نظريات التنظيم والعقلانية والمثالية الى حالة توتاليتارية. أخذ هَكسلي يومها تقنيات الانتاج السائدة في عصره والعلوم «الجديدة» (الفوردية وعلم النفس) الى مداها الأقصى، ليكتب عن مجتمعٍ تحكمه فكرة «خط الانتاج» (من الولادة الى العمل والموت)، وتستخدم السلطة فيه كل الوسائل لتأمين رضوخ الناس ومنعهم من الشّعور بالألم (سواء عبر تطبيق نظريات فرويد عليهم أو عبر ضخّ العقاقير فيهم). المجتمع الحديث في عُرف هَكسلي كان يوازي المصنع وخطّ التجميع، وهو اعتبرها المرحلة «الأعلى» ــــ وربما الأخيرة ــــ في تطوّر الرأسماليّة. لم يتخيّل الكثير من المنظّرين يومها الأشكال الجديدة التي يمكن أن تعبر اليها الرأسمالية الحديثة من دون أن يتغيّر جوهرها (ما بعد الفوردية، الانتاج المرن، الخ)، وإن تغيّر شكل العمل ونظام الانتاج.
ولكنّ الأساس هو أنّ الرأسمالية والنيوليبرالية ليست مجرّد «نظام اقتصادي» أو «ايديولوجيا»، بل هي في الوقت ذاته نظامٌ سياسي يسمح لهذا النمط بالهيمنة ويسهّل له اختراق المجتمع؛ والعنصر الأوّل الذي يحدّد شكل الرأسمالية اليوم وفي المستقبل هو النّظام السياسي الذي يخدمها وتخدمه. يكتب الاقتصادي الألماني ولفغانغ ستريك أنّ سبب هيمنة النيوليبراليّة (التي ستؤدّي، في رأيه، الى نهاية الرِأسمالية كما نعرفها) هو سياسيّ ايضاً، مختصره أن النيوليبرالية قد تمكّنت من القضاء على جميع أعدائها في العالم، وسدّت الباب على أيّ بدائل كان من الممكن أن تشكّل وزناً مقابلاً لها، يبطئها أو يخفّف من وطأتها. المجتمع، حتى في الدول المتقدّمة، يُقسم اليوم بحسب ستريك الى شعبين: «شعب دولةٍ» أو «اهل البلد» من ناحية، و«أهل السوق» الذين يستفيدون من النيوليبرالية والعولمة من ناحيةٍ أخرى، والفئتان تعيشان في عالمين مختلفين تماماً، والفارق في ظروف حياتهما يشبه الفوارق بين الطبقات في اوروبا في القرن التاسع عشر، وهو يزداد باضطراد ولن يكون من الممكن استيعابه أو كبحه.
بتعابير أخرى، فإن نجاح الرأسمالية وعولمتها وانتشارها كايديولوجيا وحيدة هو ما قد يوصل الى نهايتها عند ستريك. ستريك، بالمناسبة، ليس يسارياً جذرياً أو ماركسياً متحمساً، بل هو باحث في الاقتصاد السياسي متأثر بالمدرسة المؤسسية الجديدة، وأسلافها كفيبير وشومبيتر، وكان ــ كالكثيرين في مجاله ومن جيله، مثل سوزان سونتاغ وجون زايسمان وغيرهما ــ يعمل مستشاراً لدى الحكومات الغربية وينظّر لتنظيم اقتصادياتها وصيانة نموها وتنافسيتها حتى أعلن، قبل سنوات، يأسه وتنبّأ بأن النظام الحالي لن يُصلح ولن يستمرّ. في مقالٍ في «نيو ليفت ريفيو» من عام 2014، يعترف ستريك بأنّ الشروحات المعاصرة للجمود الاقتصادي القائم «تقترب بشكلٍ مذهل… من النظريات الماركسية عن ضعف الاستهلاك في السبعينيات والثمانينيات» وإن كان من يصيغها، هذه المرة، ليبراليون. الأمر المثير في هذه الحكاية هو أنّه، على تعدّد النظريات التفسيرية البديلة التي خرجت منذ الحرب العالمية الثانية (سواء ارتكزت على الاقتصاد أو الثقافة او الفلسفة الاوروبية الجديدة)، فإنّ ماركس يعود دوماً الى المقدّمة حين «يجدّ الجدّ»؛ كلّما ابتعدنا عنه عاد شبحه ليقرّعنا ويصحّح ما غفلنا عنه.