على وقع احتضار الحراك: عندما يختبئ حزب خلف «هاشتاغ»

  • 0
  • ض
  • ض

بكل أسف وبواقعية مؤلمة، نحن الشعب اللبناني، أمام مشهد نهايات الحراك المدني. ذاك الحلم الصغير يتهاوى أمام عدسات الإعلام بعدما تصدع في دواخل الكثيرين. في لغة السلطة وتعميماتها ومن يدور في فلكها، مباشرةً أو مداورةً، وُصِف رواد الحراك بمصطلحات مثل: عملاء سفارات، مشاغبين، عاطلين من العمل، طالبي شهرة وجاه، حاقدين طبقياً ومناطقياً وثقافياً على رواد النهضة اللبنانية العالمية، بعضهم حاقد بظروف خاصة و«يفشفش» بالحراك، شذاذ آفاق، مدمنين، قليلي الأدب في تعاملهم مع كبار القوم، علمانيين رافضي الأديان ومعتقداتها، هاتيك صورة الصيغة اللبنانية العظيمة... وغير ذلك الكثير. في حين كانت الضفة الأخرى على موعد مع صيغ تمجيد للحراك على طريقة مبالغات احمد سعيد في حرب عام 1967. فكان الاعلام المدافع عن تلك الفئة يصفهم بأرقى الصفات، فهم مثال الأخلاق والشهامة والشجاعة والمواجهة، كل الوطن والمواطنين يصطف خلفهم، وهم مجموعات شبابية دفعها حب الوطن للنزول الى الشارع وكانت الجماهير بانتظارهم، لولا بعض الهنّات لكانوا الآن في المراكز الأولى للدولة، هم من سيحارب الفساد المستشري بأدوات سحرية، وكل ذلك مترافق مع عبارات التكبير والتهليل والتمجيد لتصل الى حدود الوصف الشعري. إذاً، وبموضوعية مطلقة ومن قبيل التنظير والتفكير والتشهير بكلا الطرفين من منظار الواقعية، فإن تلك المبالغات قد أحبطت الحراك وأهله والمترقبين: نشطاء الحراك ليسوا عملاء ولا هم بملائكة. وانطلاقاً من الواقعية والتفكير بعقلٍ بارد، أن كل ما أقدمت عليه السلطة بأدواتها وإعلامها وأفعالها، سابقاً ولاحقاً، هو أمر أكثر من طبيعي، لا بل إنه من غير الطبيعي أن لا تواجه حراكاً ومجتمعاً يلفظها ويحاول وضع حدٍ لكل جرائمها. فهل يُعقل أن تنزل أيها المناضل الى الشارع ولا تتوقع خراطيم السلطة ورصاصاتها ومندسيها، وأنت أيها الفايسبوكي الغارق في الانقلاب السوبراني ألا تتوقع أن يرد عليك جلاوزة المافيات عندما تقرب من دائرتهم الفاسدة ولو ببضعة كلمات؟ لذا اللوم، أو السؤال، يجب أن يوجّه الى من نظّر ورسم خطط هذا التحرك، الى من ظن أن بضع عشرات من الشبان يمكن أن تشكل حالة انقلابية على نظام يتمتع بكل القدرة والأدوات على إحباط أي مس به. وأكثر الملامة تقع على من رفض مد اليد الى الجميع، وذهب أكثر فأكثر الى سياسة التعجرف والتكبر في التنظيم والتحشيد والتشاور في مقاربة القضايا واستسهل حلم اسقاط المافيا الحاكمة. ولنطرح السؤال بطريقة معاكسة، ماذا لو أعلنت السلطة البيان التالي: يا أصحاب الحراك، يا ثوار لبنان أيها الغيارى على الوطن تعالوا وتسلموا السلطة، ولتبدأ الحلول مثلاً في ملف النفايات، فماذا أنتم فاعلون؟ لا بل هي أقدمت بشكل أو بآخر على فعلٍ مشابه عندما رمى الوزير أكرم شهيب الكرة في ملعب الثوار، وقال أجيبوني على مشروع الحل الذي تقدمت به. وافتراضياً، على طريقة عدد من أهل الحراك، هل أنتم مستعدون لحل القضايا الكبرى التي تضرب لبنان؟ وكيف ستقدمون الحلول العقلانية بعيداً عن الشعارات والمبالغات؟ وأكثر، هل يمكن للثورة أن تنتصر فقط عبر هاشتاغ على مواقع التواصل الاجتماعي؟ أو عبر تحويل تحركاتها الى كرنفال فرح متنقل ولا تتوقع مواجهات وعنف ودماء ودموع؟ هل يمكن للثورة أن تنتصر وهي لا تعرف القيادة الفعلية والحقيقية لها؟ هل يمكن للثورة أن تربح من دون أن تضع نصب عينيها اجتراح الحلول وسبر أغوار العلم والمعرفة في كيفية إدارة شؤون الناس والأزمات؟ ألم تتعلم هذه الانتلجانسيا من تجارب سابقة ومثال تجربة الرئيس سليم الحص في حكومة عام 1998، كيف سقطت كل شعارات مكافحة الفساد أمام التحشيد المذهبي؟ كيف يمكن لثورة أن تنجح في بلد مثل لبنان ولا تأخذ بعين الاعتبار الواقع الديمغرافي والشعبي والحساسيات المفرطة لكل مكوناته، شئنا أم أبينا، ولم تتعامل معها إلا على قاعدة الإلغاء والرفض والشتم؟ وماذا كانت لتفعل معظمها لولا سقطة خطاب «أبو رخوصة» التاريخي لممثل التجار في بيروت؟ وبمعرض الحديث عن الحراك، فهل سمع أحد عن دور عقلاني ما للأحزاب فيه؟ يمينيةً أو يسارية أو تلك الخلاسية والهلامية؟ ماذا تقدم الآن هذه الأحزاب غير خطابات التصفيق والتهييص والعناوين الفاقدة للمضمون العملي؟ وأكثر، لا بد من التساؤل عن دور الأحزاب اللبنانية في الحياة العامة، أو بشكلٍ أدق أين هياكل الأحزاب من مقاربة القضايا والاشكاليات التي تواجه المجتمع وتؤرق مواطنيه؟ طبعاً عدا عن الاحتفالات الفلكلورية الخطابية الفارغة والمدفوعة عبر وسائل الاعلام، او للحرتقات الصغيرة في معمعة التطاحن السياسي المحلي الفارغ من كل مضمون تنموي؟ مثلاً كم دراسة علمية تقدمت بها الأحزاب في قضايا تصيب المواطنين بشكل مباشر؟ وهل يُعقل أن بلداً مثل لبنان فيه عشرات الأحزاب المرخصة رسمياً ومئات النشطاء السياسيين وآلاف الجمعيات المتنوعة، أهلية ومخابراتية وتنموية، وعشرات آلاف الطامحين للمراكز والعمل العام ولا تُقدم فيه دراسة حقيقية وجدية مثلاً عن النقل؟ أو فرز النفايات؟ أو كيفية تنمية الزراعة والصناعة الوطنية؟ هل بحث أحدٌ منها عن نتائج التصحر والزحف العمراني المترافق مع الضغط على الموارد وارتفاع مستوى الفقر على التغيرات الديمغرافية وازدياد منسوب التوتر بأشكاله في المجتمع؟ هل يُعقل أن تقوم ثورة في لبنان وتغفل عن العناوين الرئيسية لما يجري في المنطق حولنا ولبنان كيان مفتوح على كل الخارج؟ كيف تتلاشى الأفكار والابداعات أمام الأزمات باستثناء ما تقدمه مافيات السلطة وما فيها من أبواب ارتزاق ونهب تخدم هذه الطبقة؟ ألم يحن الوقت لكي تُطرح على بساط البحث أدوار هذه الأحزاب ومشاريعها وبرامجها الفعلية عدا عن الشعارات؟ وهل جفت منابع الأفكار والرؤى البعيدة التي يمكنها أن تساهم في حل الكثير من الإشكاليات والأزمات؟ والاعتقاد السائد أنها تحمل حلول للكثير من القضايا، وهي المستندة الى ايديولوجيات عريقة؟ وبخلاصة سريعة، ولو كانت مؤلمة، أن ما تقدم حتى الآن الى لعب دور في الحيز اللبناني العام من حراك وتجمعات ونشطاء، بشخوصهم ومن يقف خلفهم معنوياً ومادياً، لم يختلف مضمونه عن السلطة الحاكمة والتي هي سبب البلاء. فالقضايا المطروحة تحتاج الى سعة أفق في مقاربتها، ولا تكون الثورة بوضع صور السياسيين على أكوام النفايات وتحميل شخص وزير البيئة فقط مسؤولية ما حدث... من العار أن تبقى الحياة السياسية اللبنانية في دائرة الشعارات الفارغة. من يتحمل المسؤولية غير الأحزاب، على كلا الجانبين الموالي والمعارض، لكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق أهل الإيديولوجيات. * صحافي لبناني

0 تعليق

التعليقات