بما أن الترابط بين السياسة والاقتصاد وثيق إلى درجة أنه لا يمكن الفصل بينهما، ومع بروز استراتيجية دفاع سياسية في الآونة الأخيرة، وأخرى عسكرية تتمثل بثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، بات لزاماً علينا العمل جدياً على تأسيس استراتيجية دفاع اقتصادية تهدف إلى بناء اقتصاد وطني مستقل وقوي، لتتكامل مع منظومة بناء الدولة القادرة والعادلة والمستقلة، والحامية لأبنائها في الاغتراب من الابتزاز السياسي الخارجي والداخلي.
إن طرح استراتيجية دفاعية للاقتصاد يساعد على:
أولاً، تحصين الأمن الاجتماعي.
ثانياً، إقرار قوانين تساعد على الصمود ومواجهة الأزمات.
ثالثاً، استحداث قوانين جاذبة للاستثمار بعيداً عن السياسة.
رابعاً، تثبيت وضع رؤية اقتصادية ثلاثية الأبعاد: قانونية وإنتاجية وطوارئ.
خامساً، تأمين استقلال اقتصادي يساعد على الخروج من الارتهان للدول الأخرى.
سادساً، مواجهة الصراع الاقتصادي مع العدو الإسرائيلي، الذي لا يترك مناسبة لمحاربة المصالح الاقتصادية للمغتربين اللبنانيين في جميع بقاع الأرض، من دون وجود أي رؤية للدولة لحماية هذه المصالح.

تاريخ الأزمات السياسية التي أثرت في الاقتصاد اللبناني

أزمة عام 1958 في عهد الرئيس كميل شمعون، وما تبعها من تداعيات خارجية من تدخل أميركي مباشر، وأخرى داخلية متعلقة بالمطالبة بالإصلاح الإداري والسياسي، الذي كان مطلباً مشروعاً للمعارضة اللبنانية التي كانت تثيره منذ عام 1946.
نجح الاقتصاد في تخطي الأزمة بسبب عوامل عدة، أهمها:
أولاً، المجتمع الاستثماري التجاري.
ثانياً، الاغتراب اللبناني وعلاقاته التجارية العالمية.
ثالثاً، مهارة اليد العاملة اللبنانية، التي توازي مستوى الدول الأوروبية، والطلب العربي الكبير عليها.
رابعاً، السرّية المصرفيّة التي كانت تلعب الدور الأساسي في جذب الأموال والاستثمارات.
النكسة العربية في عام 1967، وصولاً إلى أزمة عام 1969 واتفاق القاهرة، بالإضافة إلى سعي إسرائيل إلى زعزعة أمن لبنان واستقراره، وكان يحتل حينها المرتبة الأولى في العالم العربي في مجال التجارة والسياحة، التي كانت تعَدّ العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، إلى جانب قوانين السرّية المصرفية واستثمار اليد العاملة الماهرة والطاقات العلمية في مجال الصناعة.
وقع الاقتصاد اللبناني في الفخ السياسي حين أُغرق بأموال السلطة الفلسطينية بعدما أقرّ اتفاق القاهرة نقل اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، ما أسَّس للحرب الأهلية في ما بعد.
الحرب الأهلية منذ عام 1975 حتى عام 1990، حيث قُدِّرَت الخسائر المباشرة التي أصابت رأس المال الإنشائي والتجهيزي في القطاعين العام والخاص بنحو 25 مليار دولار أميركي، وما رافقها من انهيار في سعر صرف الليرة اللبنانية في عام 1992، وبناء منظومة مالية جديدة تثبّت سعر الليرة مقابل الدولار.
اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005، وما أحدثه من زلزال سياسي كبير. ولكن لبنان استطاع تخطي الأزمة اقتصادياً ومالياً عبر رفع معدل الفوائد على الودائع بالليرة اللبنانية. العدوان الإسرائيلي في تموز عام 2006، وما نجم عنه من تدمير ممنهج للبنى التحتية والمدن والقرى اللبنانية.
وبرغم قساوة الحرب، فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية، واستطاع الاقتصاد اللبناني تجديد نفسه من خلال ورشة إعادة الإعمار، حيث نجح مشروع «وعد» في إنجاز الإعمار وتحقيق نمو حقيقي على مستوى الوطن.
الأزمة الماليّة العالميّة في عام 2008 التي بدأت في الولايات المتحدة، ثم امتدّت إلى دول العالم لتشمل الدول الأوربية والخليجية، كالانهيار الاقتصادي الذي ضرب دبي مثلاً. كانت بيروت الأكثر دقةً وحذراً، واستطاعت أن تتخطى هذه الأزمة من دون خسائر تذكر، ولعبت حكمة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة دوراً مهماً في تفادي البلاد للأزمة.

الأزمات المتوقعة في الأعوام المقبلة على الاقتصاد اللبناني

أولاً، العقوبات الاقتصادية الأميركية المتوقعة في بداية عام 2018، التي يمكن أن تتخذ أشكالاً عدة، من المالية إلى التجارية، أو حتى عقوبات ذكية في أسوأ سيناريو قد يحصل.
ثانياً، العقوبات العربية المتوقعة، والتهديد بترحيل اللبنانيين من بعض الدول الخليجية. وهي ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها لبنان لهذا النوع من التهديد، حيث لا تزال أزمة عام 1967 مع السعودية حاضرة في الأذهان، بالإضافة إلى أزمة المبعدين في السنوات الأخيرة من الإمارات والبحرين والكويت والسعودية.
ثالثاً، ضعف في التصنيف من خلال خلق مشاكل سياسية تحول دون إقرار الموازنات.

خطة المواجهة والتحضير لمستقبل أفضل

بداية، لا بد من الإشارة إلى أن المواجهة الاقتصادية تحتاج إلى تكاتف سياسي وأداء مؤسساتي دستوري وقضائي ومالي واجتماعي متكامل.
أما الخطة، فتكون على النحو الآتي:
أولاً، إيجاد أسواق جديدة مستفيدين من الانتشار اللبناني في أفريقيا والبرازيل وكندا وأوستراليا وأوروبا وإيران وأذربيجان وتركمانستان وأرمينيا وطاجيكستان وكازاخستان وسلطنة عمان والجزائر وقطر ومصر وتونس.
ثانياً، تنظيم ملف النفط والغاز والبتّ به سريعاً، ودراسة كيفية الاستفادة منه لتحقيق الاستثمار والنمو وخلق فرص العمل. مع العلم أن الولايات المتحدة تحاول جاهدة السيطرة على هذا الملف بنحو كامل نظراً لأهميته.

العقوبات الاقتصادية الأميركية على لبنان يمكن أن تتخذ أشكالاً عدة

ثالثاً، قيام وزارات الخارجية والمغتربين والمالية والعدل بتشكيل هيئة حقوقية ومالية للدفاع عن حقوق مواطنيها يوجه أي اعتداء خارجي، خاصة في موضوع العقوبات المالية، والعمل على تشكيل لوبي لبناني وطني داخل الولايات المتحدة يعمل بتوجهات الرئاسة والحكومة اللبنانية.
رابعاً، تشكيل المجلس الاقتصادي اللبناني ــ الأفريقي، ودراسة الأوضاع الاقتصادية في إفريقيا عن كثب، حيث للّبنانيين بصمة كبيرة في هذه القارة.
خامساً، الاستفادة من البعد الاقتصادي الاستراتيجي في ملف الإعمار السوري، خصوصاً أن باستطاعة لبنان الانتفاع من الكثير من الفرص في هذا المجال.
سادساً، التزام المواعيد الدستورية لإقرار الموازنات، والعمل على إنشاء شبكة أمان مالية واجتماعية وصناعية وزراعية.
سابعاً، وضع قوانين تشجيعية للاستثمار وتطوير البنى التحتية، انطلاقاً من القاعدة الاقتصادية الذهبية: «استثمار، إنتاج، فرص عمل، نمو»، ما يساعد على خلق وإنشاء طبقة وسطى اجتماعية قادرة على تجاوز الأزمات.
ثامناً، وضع رؤية اقتصادية تعتمد على معالجة ثغرات الميزان التجاري، وإعادة الثقة بالإنتاج اللبناني من خلال خفض كلفة الإنتاج وحمايته بالقوانين والترشيد الصحيح، وصولاً إلى الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي.
تاسعاً، إنشاء مركز أبحاث لوضع خطة علمية اقتصادية لدراسة التحول العالمي إلى الاقتصاد المعرفي والاقتصاد الرقمي، الذي يعتبر التحدي الاقتصادي الجديد للعالم في السنوات المقبلة.
ختاماً، كما أن السياسة لا تحتمل الفراغ، فإنّ الاقتصاد لا يحتمل الارتهان والتأخر في التخطيط. لذا لا بد من المباشرة فوراً بتطبيق استراتيجية دفاع اقتصادية رائدة، تزهو بلبنان نحو الأفضل وتحميه مستقبلاً من أي انتكاسة أو تهديد.
* خبير وباحث اقتصادي