تُعاني اليونان من أزمة مالية خانقة تهدّد مستقبل منطقة اليورو، هي أزمة الدين الحكومي التي عصفت بالاقتصاد اليوناني منذ 2010. وقد بدأت الشرارة الأولى لأزمة اليونان في عام 2004 حين أعلنت أثينا أنها لم تكن مؤهلة منذ البداية لتكون ضمن المصرف النقدي الأوروبي الموحد واعتراف الحكومة الجديدة في عام 2009 بأن الحكومة السابقة قد زيفت الحسابات القومية وأن الحكومة الحالية تعاني من عجز في الميزانية الأمر الذي زعزع الثقة بالاقتصاد اليوناني وهدّدت استقرار منطقة اليورو.
ومنذ ذلك التاريخ واليونان تعيش أزمات اقتصاد متواصلة ناتجة عن تراكم العجز المالي من جهة وعجز الحكومات اليونانية عن تسديد ديونها في مواعيد استحقاقها من جهة ثانية ما دفع الدائنين (البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) إلى فرض شروط تقشقية على اليونان بهدف تزويدها بحزمات اقتصادية وإصلاحات اقتصادية تهدف إلى خفض العجز بالموازنة العامة والحفاظ على اقتصادها وتجنيبه الإنهيار.
إن المشكلة الأساسية تكمن في قبول اليونان لشروط الاتحاد الأوروبي وهي شروط احتكارية زعزعت الاقتصاد وقلّصت من موارده المالية، إذ أرغمت اليونان على التخلي عن زراعاتها الاستراتيجية المهمّة كالزيتون والحمضيات والتخصص باستبدالها بزراعة الورد والأزهار، لأن زراعة الزيتون والحمضيات من اختصاص إيطاليا وإسبانيا، والماشية من اختصاص هولندا. وبذلك تحت عنوان التخصصية فقدت اليونان قطاعاً حيوياً من قطاعاتها الاقتصادية المهمّة جداً.
إن سلطة الاتحاد الأوروبي على اليونان وفرض شروطها على الدول الأعضاء داخل الاتحاد نابعة من الشراكة الاقتصادية والسياسية بين دول الأعضاء الـ28 والتي تشمل معظم القارة الأوروبية والهادفة لتعزيز التعاون الاقتصادي في ما بين الدول الأعضاء وجعلها مترابطة اقتصادياً تجنّباً لأي صراع محتمل في ما بينها وصولاً إلى الوحدة السياسية التي تحقّقت فعلياً عام 1993، وسمّي الكيان منذ ذلك الوقت الاتحاد الأوروبي، الذي استطاع أن يشكّل سوقاً موحدة ذات عملة مشتركة هي اليورو الذي تبنت استخدامه 18 دولة من دول الـ28 الأعضاء.
في واقع البيانات والأرقام أعلاه نجد أن اليونان لا تشكّل ثقلاً في الاقتصاد الأوروبي والنسب أعلاه متدنية وهي بذلك لا تؤثر في الاقتصاد الأوروبي من حيث الإنتاج وحجم الصادرات. كما أن أحد الشروط المنصوص عنها في قانون الاتحاد الأوروبي وفي الدول الصناعية الكبرى هو ألا تتعدّى نسبة مديونية الدول 60% من الناتج المحلي والواضح أن اليونان تخطّت هذه النسبة لتصل إلى 175% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومن الشروط أيضاً ألا يتعدّى العجز في الميزانية العامة الـ3% من الناتج المحلي والواضح أن عجز الموازنة العامة في اليونان يعادل 12.7% من الناتج المحلي أي ما يفوق 4 أضعاف.
كما أن حجم المديونية يعادل 408 مليارات دولار تبلغ حصة صندوق النقد الدولي 5% منه، وكذلك الحصة الأكبر للصندوق الأوروبي والبالغة 70% من الدين.
وفقاً لهذه النسب يستطيع الصندوق الأوروبي أن يسيطر على المديونية اليونانية إذا أحسنت النوايا لكونه يستحوذ على الحصة الأكبر في الدين.
تعود الأزمة اليونانية إلى أسباب عديدة أهمها:
1 ـ الفساد السياسي والقضائي والإداري (رشوة وعمولات غير مشروعة).
2 ـ تغليب خدمة مصالح رجال الأعمال من قبل الطبقة السياسية الحاكمة على المصلحة العامة.
3 ـ التهرّب الضريبي.
4 ـ عدم اعتماد نظام ضريبي موحد في دول الاتحاد الأوروبي، ما دفع إلى التهرّب الضريبي.
5 ـ سوء إدارة موازنات الدولة.
6 ـ بطالة مقنعة ناتجة عن ورم في عدد الموظفين في القطاع العام ومن دون إنتاجية.
7 ـ ارتفاع نسبة البطالة بشكل كبير وصلت إلى 27%.
8 ـ ارتفاع نسبة الإنفاق على برامج التسلّح 6.5% من حجم الناتج الوطني.
9 ـ تفشي الفساد في المصارف اليونانية.
10 ـ سوء إدارة المصارف اليونانية عن طريق منح ديون إلى رجال الأعمال من دون استيفاء شروط المنح.
11 ـ عدم الشفافية في المبادلات المالية، التجارية والاستثمارية.
أبرز المحاولات التي لجأت إليها الحكومة اليونانية لمواجهة أزمتها:
ـ لجأت الحكومة اليونانية لمواجهة أزمتها وبطلب من الاتحاد الأوروبي إلى خصخصة العديد من منشآتها الحكومية وبيع عدد من جزرها لكنها لم تجدِ نفعاً.

يستطيع الصندوق الأوروبي أن يسيطر على المديونية اليونانية إذا أحسن النيات


كما لجأت إلى زيادة الضرائب على القيمة المضافة وعلى الطاقة والسلع الكمالية والغذائية وتخفيض في الأجور وحرمان العاملين من الامتيازات على أجورهم وجمدت رواتب المتقاعدين، الأمر الذي قاد إلى إضعاف القدرة الشرائية لدى المواطنين وتراجع للطلب والاستثمارات وبالتالي تراجع حادّ في معدلات النمو الاقتصادي.
ـ طالبت اليونان من صندوق النقد الدولي تأجيل سداد قرض بقيمة 1.7 مليار دولار مستحق للصندوق حتى تشرين الثاني المقبل والملفت أن وزراء مالية اليورو رفضوا طلب أثينا بتمديد حزمة الإنقاذ المالي.
ـ اقترحت الحكومة اليونانية إقرار حزمة إنقاذ جديدة لمدة عامين اعتماداً على موارد آلية للاستقرار الأوروبي بهدف تغطية كامل الاحتياجات المالية لليونان مع إجراء عملية متزامنة لإعادة هيكلة ديون البلاد المتراكمة.
ـ سارعت الحكومة اليونانية إلى إغلاق سوق أثينا للأوراق المالية وكافّة المصارف وحتى ATM مراكز السحب الآلي من 29/6/2015 إلى 6/7/2015 للحدّ من سحب المودعين لأموالهم حماية للنظام المالي اليوناني.
أمام الواقع الصعب الذي تتخبّط به اليونان وسياسة التقشف التي اعتمدتها المرهقة للشعب اليوناني وكل المحاولات الأخرى الهادفة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه نجد أن أوروبا غير قادرة على انتشال اليونان من أزمته الصعبة التي قد تهدّد منطقة اليورو وهي تدرك مدى خطورة إانهيار الاقتصاد اليوناني على اقتصاده وعلى استقرار اليورو ولكن لن يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يصلح ما أفسدته السياسات الملتوية والفساد والرشاوة و... وأن احتمال خروج اليونان من منطقة اليورو أصبح يشكل 50% وفقاً للتصنيف الائتماني ستاندرد آند يورز، خصوصاً أن ثقة المستثمرين في سندات الخزينة للدول الأوروبية المتعثرة باتت شبه معدومة ونسبة المخاطر أصبحت كبيرة جداً لذا نجد أن ارتفاع الفوائد على سنوات الخزينة لجذب المستثمرين في ظلّ الظروف الاقتصادية العالمية الصعبة أصبح أمراً متعثراً وبالتالي حتماً سوف يفاقم مشكلة المديونية في هذه الدول الأمر الذي يهدّد استقرار منطقة اليورو ويهدّد بخروج بعض الدول منه لا سيما اليونان ويبقى السؤال المطروح بشدّة هل من تآمر على اليورو لإضعافه عبر دفع بعض الدول إلى التخلي عنه والعودة إلى العملة الأصلية لتلك الدول وبالتالي عودة الاستقلالية المالية لها. أمام التحديات الكبرى التي تحيط الاتحاد الأوروبي والأزمات التي تتخبط بها العديد من دول الاتحاد نجد أن خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي حالياً ليس في صالح أوروبا كثيراً لأن خروجها لن يلزم اليونان بتسديد ما عليها من ديون، كما أن خروجها من الاتحاد قد يدفعها إلى طلب المساعدة من روسيا وهذا يشكّل انتصاراً لروسيا باحتضان حليف سياسي جديد من الاتحاد الأوروبي كما أن خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي يدفع بالصين إلى تقديم مساعدات اقتصادية لليونان لإخراجها من أزمتها الأمر الذي يضع الصين في مرتبة أعلى كقوة اقتصادية عالمية.
يبقى الرهان كبيراً أمام التخبّط السياسي والاقتصادي والمالي الذي تتخبّط به منطقة اليورو والذي قد يؤدي إلى تدمير الاتحاد الأوروبي كمنظومة سياسية اقتصادية ونقدية من بوابة اليونان وأزمة الديون السيادية.
* المركز الاقتصادي والاجتماعي للدراسات الاستراتيجية