نشرت جريدة «المنشار» الساخرة، آخر الأسبوع الماضي «خبراً» مفاده أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيدخل الجزائر من ميناء «سيدي فرج» خلال زيارته التي تبدأ اليوم الأربعاء. الخبر كاذب من صحيفة معروفة بمثل هذه المقالب، لكنه انتشر في غضون ساعات وملأ مواقع التواصل الاجتماعي وتداوله الناس ــ بين مصدّق ومشكك ــ في الشوارع والمقاهي وأماكن العمل وبين العائلات، واتهم كثيرون قيادة بلادهم بالرضوخ لمطالب وإملاءات فرنسا حتى إن بلغت حدّ الإساءة والإهانة.
فهذا المكان الواقع على ساحل الضاحية الغربية للمدينة هو الذي دخل منه الفرنسيون في حملتهم الاستعمارية عام 1830 ولم تواجههم مقاومة لأن السكان انفضّوا من حول الحكام العثمانيين الظالمين. وظل الحديث عن «سيدي فرج» مقروناً بفرنسا نقطة ضعف الجزائريين، رغم أنهم انتصروا في حرب كبيرة دامت ما يزيد على سبع سنوات. ودخول ماكرون من ذلك المكان إحياء لأوجاع وإذلال ينقص من قيمة استقلال البلد. هذه الحادثة تعطي الانطباع عن الحساسية المفرطة في العلاقات بين البلدين، إن على المستوى الرسمي أو الشعبي. ومع أن استقلال الجزائر مرّ عليه أكثر من 55 عاماً، ومعظم المحاربين في البلدين على «شبر» من الانقراض، فإنّ الشدّ والجذب يظلّان ساريين في العلاقات بين الجانبين، وفي كل مرة تحدث «زلة لسان» من هذا الطرف أو ذاك تعيد قوى مؤثرة فيهما إلى السطح موضوع الذاكرة الدامية ليطغى على أي مشروع.
الشد والجذب بين الطرفين بدآ في مفاوضات الاستقلال النهائية مطلع عام 1962 التي أعقبت حرباً مدمرة أنهكتهما معاً. فقد عملت فرنسا بعدما صار الانفصال بين الكيانين حتمياً على الإبقاء على ما يمكن من المزايا في أكبر مستعمراتها وأقدمها وأغناها. وكان أهم ما دافع عنه الوفد الفرنسي الحفاظ على المصالح الاقتصادية ومكانة المستوطنين المالكين، مقروناً بتقديم الدعم اللوجستي والثقافي. حتى إن ورقة استفتاء الاستقلال جاءت بشكل سؤال مفخخ «هل تريد أن تصبح الجزائر دولة مستقلة متعاونة مع فرنسا؟». ولم يمانع الوفد الجزائري لأنه فاوض بناءً على بيان «أول نوفمبر» الذي أعلن انطلاق الثورة في 1954، وأمر بالتعاون مع فرنسا وحتى بقاء مصالحها الاقتصادية والثقافية. فذلك، برأيه، لا ينقص من أهداف ذلك البيان المتمثلة أساساً في خروج الاحتلال وإعلان جمهورية ديموقراطية اجتماعية مستقلة كلياً عن فرنسا. ثم إن البلد الذي خرج من حرب مدمرة دامت سبعة أعوام، وبعد 132 عاماً من الاحتلال الاستيطاني، لا يملك الكادر الذي يسيّر به البلد وهو بحاجة الى الخبرة الفرنسية لسنوات أخرى. لكن بعد الانقلاب الذي قاده العقيد هواري بومدين، قائد أركان الجيش، على الرئيس أحمد بن بلة في 19 يونيو/ حزيران 1965 تم تجاوز اتفاقيات الاستقلال إلى «حرية التصرف» الكاملة للجزائريين بفرض الأمر الواقع. فقد باشرت المجموعة الحاكمة باسم «مجلس الثورة» سلسلة إجراءات متتالية دامت ست سنوات أسفرت عن تصفية الوجود الفرنسي اقتصادياً بتأميم كل المؤسسات في مختلف الفروع وبناء شركات حكومية على أنقاضها. وكانت الخاتمة بتأميم المحروقات في 24 فبراير/ شباط 1971 وإعلان سياسة التعريب التي ترمي إلى التخلص من هيمنة اللغة الفرنسية. كما تم استرجاع القواعد العسكرية التي كانت تحتفظ بها فرنسا، وأهمها القاعدة البحرية «المرسى الكبير» التي كانت وقتها أهم القواعد العسكرية على المتوسط. وأوقفت السلطات الجديدة العمل في محطة الفضاء الفرنسية «حماقير» في ولاية بشار الواقعة جنوب غرب البلاد. وقبل كل ذلك، أوقفت التجارب النووية والكيميائية منذ عام 1966 كأول إجراء ضد المصالح الفرنسية. وقد نشبت أكبر أزمة بين البلدين منذ الاستقلال عند تأميم النفط والغاز، حيث غادرت كل الإطارات الفرنسية منشآتها لإحداث عجز يجبر الجزائر على التراجع. وأوقفت شركات فرنسية كانت تشرف على تسويق الخمور الجزائرية في أسواق العالم تعاونها، ما تسبّب في حرمان الجزائر من أهم مواردها المالية. ووسط ما يشبه القطيعة بين البلدين، بادر الرئيس جيسكار ديستان الى كسر الجليد وزار الجزائر عام 1975، وأجرى محادثات مباشرة مع الرئيس بومدين وحظي باستقبال شعبي في شوارع العاصمة. لكن بومدين لم يرد الزيارة، وتوفي بعد نحو خمس سنوات. ومع وصول الرئيس الشاذلي بن جديد إلى سدة الحكم، تغيّر الأمر رأساً على عقب. وصارت فرنسا أقرب المقربين، وخاصة بعد وصول فرانسوا ميتران إلى «الإليزيه».
ومن بين أول قرارات حكم الشاذلي، وقف التعاون مع الولايات المتحدة في مجال الطاقة وتوقيع أول العقود مع الفرنسيين. وصنفت هذه القرارات وقتها في البلدين في خانة عودة الأمور إلى الحالة الطبيعية بعد ما ألحق بها حكم هواري بومدين من أضرار. وتمت ملاحقة وسجن العديد من الرجال الذين ساهموا في تهميش الدور الفرنسي. وظلت العلاقات تتطور إلى أن أصيبت الجزائر بخيبة كبرى حين لم تساندها فرنسا في حربها الداخلية على الجماعات المسلحة، بل كانت البلد الأول الذي أوقف نشاط شركاته، وأول من منع بيع السلاح للجيش الجزائري.
في العقد الماضي، كان الرئيس بوتفليقة لا يذكر نظيره الفرنسي جاك شيراك من دون وصفه بالصديق، ولا يذكر المسؤولون الجزائريون فرنسا من دون وصفها بالصديقة. وتبادل الرئيسان الزيارات مرات عدة، وكان البلدان على وشك توقيع «اتفاقية الصداقة وحسن الجوار» التي تفتح الباب «لعلاقات استثنائية تكاملية» بين البلدين. لكن تصويت البرلمان الفرنسي على قانون «تمجيد الاستعمار» مطلع عام 2005 عصف بكل شيء ورفع التوتر الى مستوى لم يسبق أن بلغه. واختار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ذكرى مرور 60 عاماً على مجازر ارتكبها جيش الاحتلال في شرق البلاد خلّفت 45 ألف قتيل في أيام، ليرد بخطاب حماسي عاصف شبّه فيه ممارسات الفرنسيين في بلاده بمحارق النازية. وهو ما كان له رد فعل عنيف سياسياً وإعلامياً في الجانب المقابل، وطالبت أطراف فرنسية ولا سيما اليمين المتطرف بمقاطعة الجزائر كلياً. فيما صار المسؤولون الجزائريون وجزء مهم من المجتمع يطالبون فرنسا بالاعتذار عن جرائمها كشرط للتقارب. لكن نيكولا ساركوزي واجه العاصفة حين كان وزيراً للداخلية، ومرشحاً للرئاسة خلال زيارة للجزائر برفض دبلوماسي لبق «لا يمكن محاسبة الأبناء والأحفاد عن أفعال الآباء والأجداد»، ودعا الجزائريين «إلى النظر إلى الأمام وترك الذاكرة والتاريخ للمؤرخين». وشهدت العلاقات نكسة جديدة على وقع اعتقال الدبلوماسي محمد زيان حسني، كبير رجال البروتوكول في وزارة الخارجية الجزائرية، حين كان في زيارة خاصة لمرسيليا عام 2008، وجرى استنطاقه ومحاكمته وسجنه في ظروف مهينة بتهمة الضلوع في قضية اغتيال الحقوقي الجزائري علي مسيلي عام 1987 في باريس. ومنها توقف الحديث تماماً عن الصداقة، وتحولت العلاقات من الجانب الفرنسي إلى مجرد أرقام. فالمهم هو الفوز بأهم الصفقات المربحة وأن تبقى فرنسا أكبر مورد للسلع إلى مستعمرتها السابقة، فيما لا يتجاوز طموح الجانب الجزائري تسهيل تنقل الأشخاص بين البلدين والحصول على الإقامة في فرنسا. وحين جاء فرانسوا هولاند إلى الرئاسة، انتعشت آمال أنصار الصداقة في الجزائر، وزحفوا خلف كلمة «اعتذار»، لكن هولاند لم يفعل، واكتفى بالأسف لضحايا حقبة الاحتلال. وساءت العلاقة مجدداً بفعل تسلسل أحداث؛ بينها تفتيش وزراء جزائريين في مطار «أورلي» بشكل مهين عام 2015، آخرهم حميد قرين وزير الإعلام وقتها، واستدعت وزارة الخارجية السفير الفرنسي وحمّلته احتجاجاً رسمياً إلى سلطات بلاده. لكن هذا الخلاف لم يكن ليستمر طويلاً على اعتبار أن المسؤولين الجزائريين عموماً بحاجة إلى وجود فرنسا في حياتهم. لكن بعد شهور من قضية تفتيش الوزراء، ضربت جريدة «لو موند» هذه المرة رأس هرم السلطة في الجزائر حين نشرت نتائج تحقيقات ما سمي «أوراق بنما» وأدرجت صورة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة «خطأً» بين صور المتورطين في الفضيحة، بعد عام من حصول الجريدة ذاتها على أموال طائلة من الجزائر لقاء نشر حوارات مع المسؤولين وتحقيقات تلمّع فترة حكم بوتفليقة بمناسبة الذكرى الستين لاندلاع حرب الاستقلال. وتطلّب ترميم العلاقات زيارات متكررة لرئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس للجزائر ولقاء الرئيس بوتفليقة والمسؤولين، لكن العلاقات ظلت متوترة. وعقد المسؤولون أو قطاع من المسؤولين الجزائريين الأمل على الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون الذي زار بلدهم والتقاهم خلال حملته الانتخابية، كما دأب من سبقوه. لكن ماذا سيبحث ماكرون في بلد أشرف هو شخصياً على عزله عن ملفات السلام في محيطه في ليبيا. ولم يشفع لها فتح مجالها الجوي للطائرات الحربية الفرنسية لتنفيذ عمليات قتالية في مالي؟ ماذا ستحقق زيارته ومعظم الجزائريين على يقين أن فرنسا لا يمكن أن تكون منصفة ولا متعاملاً جيّداً أو حتى تاجراً مؤتمناً... فقد ألف الناس منها سلعاً مغشوشة على منوال ورشة سيارات «رينو» التي تبيع نحو 40 ألف سيارة سنوياً حصراً في الجزائر ولا يسمح بتسويقها خارجها، فيما أقامت في المغرب مصنعاً لنحو 400 ألف سيارة موجهة للتسويق الخارجي؟ ماذا سيبحث ماكرون وقد أُحرقت كل الأوراق؟
* إعلامي جزائري