عندما كان متظاهرو الثورة المصرية يتساقطون قتلى برصاص النظام، بدأت أركان النظام بإلقاء مسؤولية قتل المتظاهرين على «طرف ثالث» مجهول، لم يتم القبض عليه إلى اليوم. وبرغم أن مقولة «الطرف الثالث» هذه أصبحت من فرط ركاكتها مادة للسخرية على الطريقة المصرية، إلا أنها ليست براءة اختراع مسجلة للنظام المصري، فلقد عشنا عقوداً من الزمن تحت تهديد «طرف ثالث» على مستوى العالم، يقتل ويغتال ويتآمر من دون أن يكشف أحد هويته إلا بعد حوالى نصف قرن من العمليات القذرة.في الثالث من أيار/ مايو 1944، تجمعت مظاهرة في ساحة سينتاغما في العاصمة اليونانية أثينا، احتجاجاً على التدخل البريطاني في السياسة اليونانية. وعلى أحد الجوانب، اصطف عدد من الرجال المسلحين متخذين وضعية الاستعداد. وفجأة، انطلق الرصاص على المتظاهرين، فحصد أرواح 25 شخصاً وجرح 148 شخصاً آخر. وفي 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961، تظاهر 40 ألف جزائري في باريس، فصدر أمر بسحق المظاهرة، وكانت النتيجة مجزرة راح ضحيتها مئات القتلى. في الثاني من آب/ أغسطس 1980، فجّرت قنبلة في محطة السكة الحديد في مدينة بولونيا الإيطالية، راح ضحيتها 85 شخصاً وجرح مائتان. وفي التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1985، اقتحم السوق الكبير لمدينة ألست البلجيكية ثلاثة رجال مقنعين، وبدأوا بإطلاق النار على كل شيء يتحرك، والنتيجة: مقتل ثمانية أشخاص وجرح آخرين.

برغم أن أحداً لم يحاكم على أي من هذه الجرائم الجماعية، إلا أن السمات المشتركة بينها تشير بإصبع الاتهام إلى مجرم بعينه. فجميع هذه العمليات استهدفت أناساً مدنيين وغير مستعدين لمفاجأة دموية كهذه، وجميعها استخدمت القتل العشوائي. وفي كل البلدان التي ارتكبت فيها هذه العمليات كانت توجد أحزاب شيوعية قوية أو تقترب من الفوز في الانتخابات، وجميعها ــ فيما عدا بلجيكا ــ كانت ضحية لانقلابات أو محاولات انقلاب. بكلمة أخرى، كل هذه العمليات هي من تنفيذ «الطرف الثالث» العالمي، المدعو شبكة «Stay-Behind». إنها الجيوش السرية لحلف شمالي الأطلسي، تلك القوات التي كانت موجودة في 16 دولة من الحلف وأربع دول «محايدة» (كالسويد وسويسرا) طوال حقبة الحرب الباردة. كانت هذه القوات تتخذ في كل بلد اسماً مشفّراً، لكن الاسم الأصلي لها هو «Stay-Behind»، بمعنى البقاء في الخطوط الخلفية للعدو لتخريبه من الداخل. هذه الشبكة هي موضوع كتاب الباحث السويسري دانييل غانسر «جيوش الناتو السرية – العملية غلاديو والإرهاب في أوروبا الغربية»، والذي كان في الأصل أطروحته لنيل الدكتوراه. قضى غانسر أكثر من عشر سنوات في دراسة هذه الشبكة، فجاء الكتاب حافلاً بالحقائق والأدلة والتفاصيل والأسماء: من اليونان وإسبانيا والبرتغال إلى الدانمارك والنرويج والسويد، على سبيل المثال لا الحصر.
بعد الحرب العالمية الثانية، غيّر المعسكر الغربي بسرعة هوية العدو، وصار العدو الجديد هو الشيوعية. وفي عهد الرئيس الأميركي، هاري ترومان، أدى تصاعد العداء للشيوعية والتوجس من السوفيات، إلى فكرة الحرب السرية، استلهاماً للتكتيك الذي استخدمه الحلفاء ضد القوات الألمانية: التخريب في ما وراء خطوط العدو. أُنشئت الجيوش السرية بقرار من سياسيين من أعلى المناصب ومسؤولين في الحكومات الأوروبية بالاتفاق مع المخابرات الأميركية والبريطانية، والمخابرات العسكرية لحلف «الأطلسي». فحوى هذا القرار هو أن الاتحاد السوفياتي والشيوعية هما التهديد الأكبر ويجب أن يظلا بعيدين عن أوروبا الغربية. فتولّت المخابرات الأميركية والبريطانية تأسيس القوات، وقامت بتدريب وتهيئة الجنود لمهمة تشخيص الشيوعيين والتحضير لحرب عصابات ضد القوات السوفياتية التي كان «الأطلسي» يحسب أنها ستغزو أوروبا الغربية. وعندما لم يحصل أي غزو سوفياتي، واصلت الشبكة نشاطاتها التخريبية التي تضمنت إرهاب الدولة، المراقبة، الدعاية الموجّهة، الاغتيالات، وأعمال أخرى في أوروبا. وكُلّفت هذه القوّات بمهام تقوية حركات المعارضة، والقيام بأعمال تخريب، وإخلاء الطيارين الذين يسقطون في أرض العدو، وكذلك جمع المعلومات لحكومات المنفى التي ترعاها الولايات المتحدة أو حلفاؤها. أما السلاح والمتفجرات والمعدات العسكرية، فقد أخفيت في أماكن مختلفة في الغابات والمخابئ.

يفضح الكتاب
الكذبة التي صدقها كثيرون والمسماة
«حياد السويد»

كان العداء للشيوعية شرطاً للعضوية في فرق «Stay-Behind» التي تألفت من متطرفين يمينيين وفاشيين، وغالباً من أولئك الذي قاتلوا الى جانب هتلر أثناء الحرب، فقد نشطت الولايات المتحدة في داخل ألمانيا لتجنيد عدد من قدامى النازيين للحملة الجديدة. في فرنسا كان الحزب الشيوعي في أوج قوته بعد الحرب مباشرة بحيث إنه صعد مع الاشتراكيين الى السلطة. لكن كانت هناك قوى معارضة لهذا الصعود أو خائفة منه، ظلت نشيطة لعقود تالية. شكلت هذه القوى خلايا داخل جهاز الشرطة، والجيش، والمخابرات، ولعبت دوراً خطيراً في السياسة الفرنسية. وموطن الخطورة هو أن هذه الخلايا لم يكن ولاؤها لفرنسا وإنما لقيادة حلف «الأطلسي»، ولمصالحه، واستراتيجيته. وعندما أعاد الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، بعد انتصارات النيوليبرالية التي اجتاحت أوروبا، ربط فرنسا بحلف «الأطلسي» عام 2009، أي بعد أربعة عقود، بدا ذلك نتيجة منطقية للعمل المتواصل الطويل للشبكة السرية.
أما عن خارج أوروبا، فيقتبس الكتاب من وثيقة للبنتاغون تفاصيل عن الهجمات الإرهابية. من بين ما جاء في التقرير: «تستخدم هذه الاستراتيجية حتى خارج أوروبا. خلال الثمانينيات قتلت فرق الموت اليمينية، المدربة والمجهزة من قبل الولايات المتحدة، عشرات الألوف من الناس في أميركا الوسطى». وفي هذا السياق يبرز اسم «العملية نورث وود»، وهو عنوان خطة سرية أميركية لتنفيذ عمليات إرهابية في مدينة ميامي يقتل فيها مواطنون أميركيون وإلصاقها بالرئيس الكوبي فيديل كاسترو وذلك لتسويغ غزو أميركي لكوبا. مثال آخر: في خضم انشغال العالم بالحرب الأميركية على فيتنام، قام البنتاغون بتدريب جيوش الغستابو الأندونيسية، فحصدت أرواح ما بين مليون ومليوني إنسان، «أي تقريباً كل النخبة الثقافية الأندونيسية» – يقول غانسر.

إيطاليا

أول بلد أصبح مركزاً لهذه الحملة هو إيطاليا، حيث اتخذت الشبكة هناك الاسم المشفر «غلاديو» (السيف). وعلى الرغم من إحاطة هذه الشبكة بأعلى درجات السرية، إلا أنه في النهاية تسرّبت بعض الأقاويل عن وجودها. لكن في عام 1990، انكشف أمر «العملية غلاديو» في إيطاليا انكشافاً مدوياً، ما شكّل فضيحة كبرى على المستوى الحكومي. حيث بدأت وسائل الإعلام تكشف أسماء السياسيين والدول المتورطة، وتوالت الفضائح. في البدء صدرت اعترافات من الزعيم الإيطالي ورئيس الحزب الديمقراطي المسيحي جوليو أندريوتي (الذي كانت «السي آي إيه» قد أسست حزبه). واعترف بعض السياسيين بتورطهم مع «غلاديو»، فيما تهرّب آخرون من الموضوع. لاحقاً، قادت التحقيقات إلى فضح جميع الوسائل التي استخدمتها الشبكة، من نشر الدعاية الموجهة، ومراقبة وتسجيل المجموعات المعارضة وسحقها بعنف، وممارسة التعذيب، وتدبير الانقلابات، وارتكاب الأعمال الإرهابية. كانت تلك الجرائم والمجازر والتفجيرات والعمليات العسكرية تُنظّم وتُرعى وتُدْعم من قبل أشخاص من داخل المؤسسات الرسمية الإيطالية، وأشخاص مرتبطين بوكالة المخابرات المركزية الأميركية. وكما جاء في تقرير لجنة التحقيق في البرلمان الإيطالي حول شبكة غلاديو (عام 2000)، فقد تم تدريب أفراد الشبكة في جزر بعيدة في البحر المتوسط، وفي منطقة جبلية يصعب الوصول إليها ضمن غابات الأردين، أو في مراكز تدريب القوات الخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة، وزُوّدوا بالأسلحة والمتفجرات وبمعدّات عالية التقنية، أُخفيت جميعها في مخازن سرية في أنحاء أوروبا.

السويد

في الفصل المتعلق بالسويد، يفضح الكتاب الكذبة التي صدقها كثيرون حول العالم والمسماة «حياد السويد». في عام 1991 كشف عن وجود فرع سويدي لجيوش «الأطلسي» السرية تموله وكالة المخابرات الأميركية. كانت شبكة «الأطلسي» السويدية قد تشكلت في البداية من عناصر من النازيين السويديين والمعادين للشيوعية، بالاشتراك مع فرع سري من قيادة أركان الجيش السويدي. وقام رئيس الحكومة وقتها، تاج إرلاندر، بتدشين المشروع عام 1945 وكان موافقاً على كل تفاصيله، لكن من دون أخذ موافقة البرلمان. في الخمسينيات، جرت غربلة النازيين السويديين وتم اختيار مجموعة منهم شكلت شبكة «الأطلسي» بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية. وبالطبع كانت تلك الخطوة بالغة الحساسية من زاوية السياسة الأمنية، نظراً الى أن السويد، رسمياً، تسوق نفسها تحت شعار «عدم الانحياز في زمن السلم، الحياد في زمن الحرب»! بلغت هذه الشبكة أوج نشاطها ما بين الخمسينيات والستينيات وكانت تضم ما بين ثلاثة ـ أربعة آلاف شخص. عندما أصبح أولوف بالمه رئيساً للحكومة، بدأ فصل جديد لمنظمة «Stay-Behind».

تبيّن أن هذه الجيوش
كانت بحد ذاتها
مصدراً للإرهاب
كان بالمه، الاشتراكي الديموقراطي ذو الشعبية الواسعة، معارضاً بشدة لحرب الولايات المتحدة ضد فيتنام ثم ضد نيكاراغوا، واتخذ مساراً مضاداً للعسكرة. ويقال أنه كان عازماً على غلق شبكة «Stay-Behind» وإنهاء التعاون مع «الأطلسي». كان بالمه يفكر جدياً في جعل منطقة دول الشمال خالية من السلاح النووي. في صيف 1985، دعاه غورباتشوف لزيارة موسكو لمناقشة خطة السلام الإسكندنافي، فقبل بالمه الدعوة، وهو ما أثار قلقاً كبيراً لدى الإدارة الأميركية وحلف «الأطلسي»، فالخطة المذكورة كانت تطمح الى خروج الدانمارك والنرويج من حلف «الأطلسي»، وإنهاء عسكرة فنلندا. لكن بالمه اغتيل قبل موعد زيارته لموسكو بثلاثة أشهر، ودلائل كثيرة تشير إلى تورط جيوش «الأطلسي» السرية في جريمة الاغتيال.


ديموقراطية مزيفة

برغم أن البرلمان الأوروبي طلب معرفة الحقيقة عن الجيوش السرية، فإن «الأطلسي» ظل يقابل كل الأسئلة بالصمت. ولهذا يحتوي كتاب غانسر على قلة من الشهود وكثرة من الأدلة الملموسة. فمادة العمل مبنية على اعترافات سياسية، وعلى وثائق أجهزة المخابرات، وشهادات من داخل شبكة «العملية غلاديو»، ومذكرات عملاء «السي آي أيه»، وبحث استقصائي. عندما بُدئ بتفكيك شبكة الجيوش السرية، تبين أنها لم تكن مجرد «إجراء احترازي» بوجه غزو سوفياتي محتمل، وإنما كانت بحد ذاتها مصدراً للإرهاب. فعندما لم يحدث أي غزو سوفياتي، راحت هذه الجيوش تكافح اليسار المحلي والأحزاب الشيوعية الوطنية، التي كانت قوية في إيطاليا وفرنسا واليونان وبلجيكا. فانطلقت أعمال الإرهاب والعنف لتخويف الناس وتسويد صفحة الشيوعيين عند الانتخابات. بعض قليل من أمثلة كثيرة: في إيطاليا (1972) قتل عدد من رجال الشرطة بواسطة سيارة مفخخة، واتهمت منظمة الألوية الحمراء بالوقوف وراء العملية وشنت حملة اعتقالات ضد الشيوعيين. فيما بعد سينكشف أن «غلاديو» هي التي نفذت العملية. في اليونان ساعدت الجيوش السرية في تنفيذ الانقلاب العسكري اليميني سنة 1967. وفي سنة 1969، قام الفرع البرتغالي لهذه الجيوش باغتيال قائد جبهة تحرير موزمبيق. في تركيا استخدمت الجيوش السرية كفرق موت نظامية ضد الأكراد. وكل هذا، وغيره الكثير، معناه أن هذه الشبكة كانت تنشط خارج النظام الديموقراطي لدول أوروبا، للتلاعب بالديموقراطية، بل ولمكافحة الديموقراطية نفسها وزعزعتها في بعض البلدان عن طريق أعمال الإرهاب والتعذيب والقتل. لكن لماذا؟ ــ يجيب دانييل غانسر: لأن الإدارات في الولايات المتحدة وبريطانيا، كانت تخشى من أن فوز الشيوعيين المحتمل في الانتخابات، سيجعلهم يكشفون للسوفيات الأسرار العسكرية ويخربون حلف «الأطلسي» من الداخل.
الكتاب دراسة موضوعية كما ينبغي لأطروحة دكتوراه أن تكون، غير أن الحقائق التي يتضمنها تشكل نقداً لاذعاً للديموقراطيات الأوروبية. ففي ظل هذا النظام الديموقراطي، كانت تجري عمليات القتل الجماعي والاغتيال السياسي. ويقدم الكتاب وصفاً للسلطة التي امتلكتها الولايات المتحدة و«الأطلسي» في أوروبا أثناء الحرب الباردة، وللسيادة المنقوصة لدول أوروبا. الكتاب صادم لأولئك الذين يصدقون الديموقراطية الغربية. فالحقائق الواردة فيه لا تتحدث عن قوات عسكرية رسمية لحلف «الأطلسي» موجودة في دول أوروبية، وإنما عن قوات سرية لا تعلم بها برلمانات تلك الدول ولا شعوبها. قوات لها أجنداتها الخاصة وتنفذ عمليات من دون أخذ موافقة تلك الدول، بل وأحياناً تقلب حكوماتها وتقتل رؤساءها، كما في حالة أولوف بالمه. الكتاب يقول ــ ببساطة ــ إنه ما إن تبدأ الدولة عضويتها أو تعاونها مع حلف «الأطلسي» حتى تفقد سيادتها.