بدأ الصراع في فلسطين يأخذ منحىً حاداً، بالذات بعد الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع انتشار ما يمكن أن نطلق عليه «هستيريا» المصالحة الوطنية بين الفصيلين اليمينيين الرئيسيين، بإشراف مصري، وامتداد ذلك ليشمل الفصائل الأخرى التي فقدت الكثير من وزنها في الشارع، تبرز بعض الأسئلة المحورية عن غياب البديل في ظل تغول الأيديولوجيا اليمينية، وطنياً وإقليمياً. وما يلفت النظر في هذا السياق هو الغياب الملحوظ «لليسار» وعدم ارتقائه للدور المنوط به تاريخياً.
هذا الغياب يشير إلى فقدان هذا المكون الأساسي لحركة التحرير الفلسطيني شعبيته، واختزاله من المشهد السياسي لصالح الثنائية السياسية التي تحكم بسلطة «الشرعية» أو بسلطة «الأمر الواقع».
تميّزت التجربة الأوسلوية سياسياً بالحديث عن المفاوضات كأنجع الطرق للوصول إلى حلٍّ سياسي للقضية الفلسطينية على أساس ما اتُّفق على تسميته «حلّ الدولتين»، أي من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة على 22% من أرض فلسطين التاريخية بجوار دولة إسرائيل بعد الاعتراف بها. روجت ثقافة «السلام» التي أنتجها اتفاق أوسلو من خلال سياسة ناعمة إلى «عدم واقعية» المطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى القرى والمدن التي طُهِّروا منها عرقياً عام 1948، وبالتالي اختزال حق تقرير المصير، المكفول دولياً، في الجزء الذي احتل عام 1967 وذلك من خلال الترويج للاستقلال بطريقة ديماغوجية عبر الادعاء بالإجماع فلسطينياً عليها.
دعمت الأحزاب اليسارية خيارات السلطة الوطنية الفلسطينية للوصول إلى حلّ سياسي يؤدي إلى الاستقلال الوطني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وللترويج لهذه الفكرة، جرى ضخّ كمية من الأموال المُسيَّسة في خزينة السلطة الوطنية تضمن شراء الولاءات وتضخيم الجهاز البيروقراطي المرتبط بها. وفي المنحى غير الحكومي، تأسست منظمات أهلية تميزت في ولائها لتنظيمات كانت تحمل أيديولوجيا يسارية. وعلى الرغم من الرصيد الثوري التاريخي الغني لليسار، إلا أن مصالحها تقاطعت مع المصالح الطبقية للنخبة السياسية الأوسلوية، فانصاعت لشروط ممولي المنظمات الأهلية التي بدورها استوظفت القيادات والكوادر اليسارية الفاعلة منها.
تورط اليسار الفلسطيني في مسار أوسلو في الأربعة وعشرين عاماً الماضية وقبِل ضمنياً اتفاقيات أوسلو، على الرغم من ادعائه معارضتها. لم يعارض جزء من أحزاب اليسار اتفاقيات اوسلو، بل إن البعض تبوأ مناصب وزارية تقريباً في كل حكومةٍ تشكلت منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، بالرغم من تبني تلك الحكومات سياسة نيوليبرالية تتعارض مع الحد الأدنى من حقوق الطبقات المسحوقة التي تمثلها تلك الأحزاب. كذلك فعلت أحزاب يسارية أخرى عبر تبنّيها لفكرة «الحل المرحلي» ومن ثم «حل الدولتين» الذي أثبتت التجربة أنه يقوم على أساس الفصل العنصري بين السكان في كيانين منفصلين بناء على هويتهم الإثنية ــ الدينية.
أثّرت فترة ما بعد أوسلو على أحزاب اليسار التي شهدت تحولات اجتماعية وثقافية تمثلت في غياب واضح لأدوات التحليل الطبقي المستمدة من النهج الماركسي التي تستند عليها أدبيات التنظيمات اليسارية باعتبارها أهم أدوات التحليل لدور العلاقات الاقتصادية ـ الاجتماعية. انخرط اليسار في علاقة تبنّت سياسة التبعية الاقتصادية بالكامل للاقتصاد الإسرائيلي الذي يرنو إلى تغيير الوعي وإنتاج قيم وانماط سلوك سياسية وأخلاقية مختلفة.
ساهم التراجع في سياسة النقد التي ميّزت اليسار الفلسطيني تاريخياً، في تبني تلك القيادات سياسات اقتصادية - اجتماعية مغرقة في نيوليبراليتها نتيجة لتماهي مصالح القوى اليسارية مع القوى الطبقية المهيمنة على صناعة القرار الفلسطيني وتغييب البعد الطبقي في تحليل العلاقات الاجتماعية السائدة. غياب ما كان يسمى «بالبعد الاجتماعي» في تحليل العلاقة مع المستعمِر ساهم في حالة التماهي التي تمر بها البرجوازية الفلسطينية المهيمنة مع المنظومة الاستعمارية والتي أصبحت تتحلى بطابع بنيوي. ومع تحوّل مهام البرجوازية الوطنية إلى وسيط سياسي مع النظام الاستعماري، تراجعت المهام النضالية الاجتماعية لليسار كونه أصبح مرتبطاً بمصالح الطبقة المهيمنة على كل من السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

اختارت العديد من القيادات اليسارية الانحياز الطبقي للفئة الحاكمة

أصبح اليسار الفلسطيني جزءاً من النخبة الفلسطينية المتكيفة مع الواقع الاستعماري ما-بعد-الأوسلوي وما أنتجه هذا الواقع من وعي زائف غلب المصالح الفردانية الاستهلاكية على حساب الطبقات الكادحة التي يفترض أن اليسار يمثلها. وبدلاً من مراجعة قوى اليسار لسياساتها والأسباب التي أدت إلى هزيمتها في انتخابات المجلس التشريعي في عام 2006 من خلال عملية نقد ذاتي ضرورية، انخرطت أكثر في السعي للحصول على امتيازات أخرى.
بالرغم من بعض المواقف المعارضة التي تمارسها الأحزاب اليسارية، إلا أنها تبقى في إطار شكلي ولم تتطور إلى خطواتٍ عمليةٍ تخلق تحدياً ملموساً للواقع الذي أحدثته الاتفاقيات. فالأجندة السياسية الاقتصادية النيوليبرالية المغرقة في يمينيتها التي تبنتها السلطة الوطنية الفلسطينية، لم تحث اليسار الفلسطيني على اتخاذ موقفٍ عمليٍ ضاغطٍ على السلطة الوطنية ومواقفها المتكررة المتنكرة لحق اللاجئين بالعودة، أو موقفها الثابت من التنسيق الأمني «المقدس».
ساهم أوسلو في تفريغ اليسار من مضمونه وبرنامجه الثوري وحال دون التقدم ببرنامج نضالي عملي يتحدى الأيديولوجيا النيوليبرالية السائدة، ويدافع عن حقوق الطبقات الشعبية الكادحة التي أيد العديد من مناصريها التيارات اليمينية الدينية كما أظهرت نتائج انتخابات 2006، وقبلها انتخابات المجالس البلدية، وآخرها انتخابات مجلس طلاب جامعة بيرزيت 2017، والتي هي أكثر جامعات فلسطين ليبرالية وعلمانية.
من المؤكد أن اليسار الفلسطيني لم يرتق، في هذه المرحلة المحورية، إلى مستوى المهمة التاريخية الملقاة على عاتقه والتي يجب أن تتخذ من المقاومة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أعمدة للنضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والمساواة. قد يكون العجز في تخطي الوضع الراهن أو تحديه، والتكيف مع الوقائع الجديدة هو نتاج العبء الثقيل لميراث الحقبة القديمة التي ما زالت تكتم أنفاسه. ولكن لا بد هنا لليسار الفلسطيني أن يراجع تجربته ويتعلم من التجارب والخبرات والدروس الأممية، بالذات من يسار أميركا اللاتينية ومن الحركات الاجتماعية البارزة في الغرب ودول العالم النامي من جنوب أفريقيا إلى الهند.
إن تفريغ اليسار من تراثه الثوري وتخليه عن دوره التمثيلي للطبقات الشعبية الكادحة التي تدفع ثمناً باهظاً نتاج عملية نيولبرلة الاقتصاد الفلسطيني، يدفع بتلك الطبقة إلى التكيف مجبورة مع أطر أخرى. فبدلاً من التصدي للتوحش الرأسمالي الطفيلي نيابة عن الطبقات الاجتماعية المهمشة، بالذات في المخيمات الفلسطينية، فإن العديد من القيادات اليسارية اختارت الانحياز الطبقي للفئة الحاكمة بشكل عام. وفي هذا السياق، يخضع اليسار حالياً لثنائية الأمر الواقع، أي ثنائية فتح وحماس، من باب أهمية الحفاظ على الثوابت والوحدة وحماية أبناء الشعب الفلسطيني، ومن دون اتخاذ أي خطوات عملية تتحدى من يضعف هذه الثوابت ويساهم في معاقبة الشعب بمكوناته الثلاث، بالذات سكان القطاع المحاصر.
في حين يرى الخطاب السياسي السائد في فلسطين اتفاق أوسلو، ومؤسسة السلطة الفلسطينية النابعة عنه، على أنهما المسار السياسي الوحيد المؤدي إلى دولة فلسطينية؛ الا أن هذا التحليل ينكر قدرة الشعب الفلسطيني على خلق واقع موضوعي جديد، ويعتمد، بدلاً من ذلك، على معونات الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والأنظمة العربية للوصول إلى هذه الدولة السراب.
يبدو أن اليسار الفلسطيني أصبح في أمسّ الحاجة لتقديم تحليل جدلي للواقع الحالي في فلسطين، وبرنامج بديل والبحث عن أدوات نضالية مناسبة بعيداً عن الشعارات التي تتناسب مع مراحل تاريخية سابقة. يستطيع المرء أن يفهم عجز التيارات الدينية اليمينية عن طرح بديل ثوري، لعجزها الفكري وبنيتها الأيديولوجية الإقصائية. ولكن، على القوى الديمقراطية أن تكون قادرة على طرح هكذا بديل، بعيداً عن مكاتب السلطة والأجهزة والمؤسسات الأهلية.
ينبغي لليسار الفلسطيني أن يوجه طاقاته لمحاربة نتائج اتفاقيات أوسلو النيوليبرالية، وان يعيد تجميع قواه في جبهة موحدة على أساس برنامج اجتماعي تنموي. كما يجب الاستفادة من تجربة انتخابات المجلس التشريعي 2006 والبناء عليها. ومحاربة اتفاقيات أوسلو وملاحقها الاقتصادية وبرامجها الاجتماعية التي أدت إلى زيادة نسب الفقر والبطالة بدرجة غير مسبوقة. وإذا لم يكن اليسار الفلسطيني قادراً على تطوير برنامج ثوري بديل وهيكلته والتخلص من خرافة حل الدولتين وتطوير برامج اجتماعية تتخطى المصالح الطبقية الضيقة لقياداتها التي استسلمت لمواقع تحد من قدرتها على الإبداع النقدي الخلاق، فالأجدر به أن يعلن فشل مشروعه السياسي وبرنامجه الأيديولوجي.
(يستند جزء من هذه الورقة إلى مقالة نشرت برعاية مؤسسة روزا لوكسمبرغ في فلسطين)
* محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وأستاذ جامعي في جامعة الأقصى ــ غزة