الانقسامات التي تحدث في العالم على خلفية صعود اليمين المتطرف وتحوُّلِه إلى قوة مقرِّرة في المجتمعات الغربية عزَّزت من الوجهة الثقافوية التي كان اليسار قد بدأ بالتحوُّل إليها غداة «اكتشافه منافع العولمة». في هذه المرحلة كان تمركُز الثروة يزداد على كلُّ الصّعد، ومعه التفاوت الطبقي الشديد داخل دول المركز وخارجها أيضاً، إلى درجة سمحت ببروز تيارات جديدة على أنقاض الأحزاب الشيوعية القديمة تنادي بمجابهة العولمة الرأسمالية، عبر الدعوة إلى عولمة بديلة قوامُها النقابات والتكتلات البيئية وروابط الفلاحين التي كان «جوزيه بوفيه» رمزاً مطلقاً لها.
لم تستمرّ هذه المجابهة كثيراً، وجوبِهت نشاطاتها بعنفٍ شديد (في سياتل وغيرها) أدّى لاحقاً إلى جانب عوامل أخرى داخلية إلى انفراطها، ليبدأ اليسار (أو تيارات أساسية منه أقلّه) على الأثر وبسبب إدراكه لصعوبة المجابهة الطبقية في إحداث مراجعة ستقوده لاحقاً إلى تبنّي أشكال متفاوتة الحدّة من المواجهة. أحد أهمّ هذه الأشكال والتي تطوَّرت مع الوقت وأصبح خطابها محورياً في حركة مناهضة العولمة هي النضال الثقافوي الذي يعرِّف نفسه بالهوية الثقافية والبيئية والجندرية بدل التعريف الطبقي الذي اعتمدته الحركات البديلة سابقاً، وعلى رأسها منتدى البدائل في بورتو اليغري.

اليسار الأيكولوجي

مع بداية الألفية الثالثة وبروز مشكلة التلوُّث الشديد الناجم عن النشاط الصناعي الكثيف في الدول الرأسمالية الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، ألمانيا... الخ) ازداد نفوذ الأحزاب البيئية داخل اليسار الدولي، وبدأت هذه الأحزاب بالتحوُّل إلى الجسم الأساسي للمعارضة السياسية داخل الدول الصناعية. ساعدها في ذلك خطابها المناهض بشدّة للنمو الاقتصادي الذي تعتمده الدول الرأسمالية في إحداث تراكمها وينجم عنه بالطبع كلّ هذا التلوث، بالإضافة إلى عدم مشاركتها في السلطة إلا بشكل رمزيّ، وفي إطار ائتلافات حكومية تسمح لها بنقل معارضتها لهذا الشكل من النموّ إلى الداخل. وغالباً ما كانت حقائب البيئة تُسنَد إليها عندما يفوز الائتلاف الذي تشارك به في الانتخابات، فضلاً عن وجودها المستمرّ والفاعل داخل الأطر الحكومية القاعدية في البلديات والأرياف والقرى و... الخ. هذا التواجد على قاعدة معارضة السياسات الرأسمالية الخاصّة بالنموّ جعل منها محوراً لأيِّ تحرُّك جديد مناهض للعولمة، على اعتبار أنّ الإطار السابق الذي تشكّل في مؤتمرات بورتو اليغري وسواها كان قد انتهى عملياً. ولأنّ المرحلة كانت تفتقر إلى وجود «تنظيم» يقود المجابهة ضدّ الرأسمالية على الصعيد الدولي تحوَّلت أحزاب الخضر في أوروبا والعالم إلى المكان الذي يجمع كلَّ هذه التناقضات ويقود انطلاقاً من وجوده القويّ داخل المعارضات السياسية والبرلمانات والمجتمعات المحلّية الموجة الجديدة من مناهضة العولمة.

تقاطُع النضالات

لم يرَ الإطار الجديد ضرورةً لحصر النضال ضدّ الرأسمالية في البعد الطبقي، ونظر إليه على أنه أحد أسباب هزيمة الطور السابق من المواجهة، وهو ما قاده إلى توسيع مروحة النضال، بحيث تشمل أشكالاً أخرى لم يكن يُسمح لها سابقاً بالبروز كما يجب. هكذا، شهدنا في هذه المرحلة صعوداً للحركات النسوية التي ترى أنّ الرأسمالية تستهدفها بقدر استهدافها للطبقات العاملة والشعبية إن لم يكن أكثر، وهي بذلك تضع للمواجهة تعريفاً جندرياً لا يقلُّ خطورةً في رأيها عن التعريف الطبقي الذي ترتديه عادةً. التقاطُع في النضال يضع الجندر هنا إلى جانب الطبقة وليس في مواجهتها، وهو ما قاد لاحقاً إلى تغيير في أشكال النضال ذاتها بحيث تستوعب كلّ التعريفات الممكنة بدءاً بالطبقة مروراً بالبيئة والجندر وليس انتهاءً بالحقوق الجنسية. التغيير في الحركة لم يقتصر على توسيع مروحة المواجهة وإحداث تقاطعات بين أطرافها بل طال أيضاً بنية الحركة نفسها، حيث تراجع مع صعود الثقافوية كوجهة رئيسية للنضال نفوذ اليسار المطالب بأولوية الصراع الطبقي داخلها لمصلحة التيارات الأخرى المنادية بحقوق النساء والمثليين والأقلّيات العرقية واللاجئين و... الخ. فصارت الحركة على ضوء هذا التحوُّل أقرب إلى يسار الوسط، وبدأ التداخل يحصل بين أجندتها المناهِضة للعولمة شكلياً ونمط صراعها الذي كان يقود بسبب تمحوره حول الهوية إلى تقاطُعات مع أحزاب وقوى رأسمالية لا ترَ ضيراً في مناهضة العنف الجنسي أو العنصرية أو التغيّر المناخي طالما أنّ ذلك لا يمسّ بمصالحها الأساسية، أو بنمط التراكم الذي تقوده.

أيُّ معارَضة للعولمة

لم يشكّل هذا التحوُّل أزمةً للحركة قبل عام 2008، ولكن بعد وقوع الأزمة المالية في ذلك العام وبروز العامل الطبقي كسبب أساسي في حدوثها استعادت القطّاعات الراديكالية نفوذها داخلها، وشهدنا بعد ذلك بثلاث سنوات حراك الميادين الذي عمّ العالم على ضوء التحرُّكات المناهضة للرأسمالية التي شهدتها الولايات المتحدة في عام 2011. ثمة تحوُّل أساسي حدث حينها على الرغم من انقطاعه لاحقاً بسبب انحسار موجة «احتلّوا» بعد أشهر وهو معاودة اليسار التركيز على مناهضة التراكم الرأسمالي كوجهة أساسية للصراع ضدّ العولمة، لأنّ هذا التراكم هو المحرِّك الرئيسي للرأسمالية، وهو الذي يقود توسُّعها عبر العالم، ويضعها بسبب هذا التوسُّع في مواجهة كلّ الفئات والهويات المهمَّشة الأخرى إلى جانب الطبقات العاملة والفقيرة. وأكبر دليل على ذلك هو صعود «اليمين البديل» في الولايات المتحدة على خلفية الشعارات التي أطلقها ترامب في جولة الانتخابات الماضية، والتي ركّزت بشكل أساسي -أقلّه من جهة الخطاب- على مسؤولية العولمة بشكلها الحالي عن إفقار فئات واسعة من الطبقة العاملة الأميركية. وهو ما دفع بهذه الفئات التي تأثّرت بخطابه إلى انتخابه رئيساً لكي ينفِّذ وعوده لها بجعل القيادة الأميركية للعولمة أكثر عدالة وإنصافاً لها. ليس ثمّة معارَضة للعولمة هنا كما يدعو اليسار، ولكن هذه الفئات التي خسرت وظائفها وأعمالها شعرت بسبب نمط التراكم السابق بأنها مهمَّشة، وبدا أنَّ تهميشها يتقاطع إلى حدٍّ ما مع فحوى الخطاب التقليدي المناهِض للعولمة. والمشكلة أنّ القطاعات اليسارية التي تقود النضال التقاطعي في العالم وتنظِّر له هي الأعلى صوتاً في رفض هذا الشكل من التقاطع، على الرغم من أنّ له أسبابه الموضوعية وحدوده التي تنتهي بانتهاء ظاهرة اليمين الجديد، سواءً كانت بقيادة ترامب أو سواه. وعلى الأرجح فإنّ رفض التعامل مع هذه الظاهرة- أقلّه لناحية معرفتها وفهم أسبابها- من جانب اليسار الثقافوي يعود إلى طبيعته التي كانت سبباً أساسياً ليس فقط لشيوع «سياسات الهوية» كبديل محتمَل وممكن، بل أيضاً لتعريف الصراع مع الرأسمالية بها بدلاً من تعريفه بالطبقات الاجتماعية وصراعها.
* كاتب سوري