رغم كون علي الديري أحد من نالهم انتقام إسقاط الجنسية من السلطات الحاكمة، فإنّه لم يدر فرضيّة كتابه الجديد «من هو البحريني» حول الهويات والأصول، ولا السكّان الأصليين، رغم سهولة تقديم طرح كهذا، ورغم وجود بيئة خصبة لتلقيه وليثير فيها جدلاً لم يهدأ يوماً.
يقوم كتاب «من هو البحريني؟» على فهم الأساس التاريخي الذي ولد منه «البحريني» المعترف به من «الدولة» والقوى الكبرى في العالم، ومعرفة سياقاته امتداداته ومآلاته. سيكون مخاض هذه الولادة، وتجاوزها لعقدة «الاعتراف»، والتوافق التاريخي عليها بين الجماعات السياسية برعاية السلطة البريطانية، المدخل التلقائي لقراءة تاريخ تأسيس الدولة في البحرين؛ الدولة التي شكّلت في وجهها الحديث بعد عزل البريطانيين حاكم البحرين عيسى بن علي في العام 1923، الإطارَ الجامع الذي أمكن أن يولد هذا البحريني تحت قبّته.

سؤال الهوية والوجود

من أنت؟ وماذا لك في هذا البلد؟ وما صفة وجودك فيها؟ ومن يحكمه؟ وإلى أي عدالة يجب أن تخضع؟ حتى العام 1923، وفي ظل ما سمّاه المقيم السياسي البريطاني «نظام اللا حكم»، لم يكن لهذه الأسئلة أي إجابات، فطرحت بريطانيا سؤالها الأساسي الكبير: من هو البحريني؟ قد يكون سؤال مثل هذا غريباً جداً على أي أمّة، حتى لو كانت تحت نير الاستعمار الذي ربما لم يكن يحاول إلا تنظيم أموره ومصالحه فيها، لكنّه، في البحرين، كان واقعاً وحقيقة اعترف بها الكلّ. جماعات كثيرة ومنقسمة، هويّات متعدّدة، طبقات من الشيوخ والأتباع والمسخّرين، والأهم حكم غير منظّم لا يعترف إلا بأتباع الشيخ، ونار تحت الرماد. جعلت هذه الفوضى سؤال «من هو البحريني؟» شائكاً ومعقّداً ومركّباً على سلطة استعمارية مثل بريطانيا.
لماذا شكّلت مهمّة تعريف البحريني أوّل أساسات الدولة الحديثة وأسئلتها؟ وكيف كان شكل الدولة ومستقبلها بحسب ما رسمه البريطانيون؟ إلى أين انتهى هذا التعريف حينئذ؟ وماذا تمخّض عنه من تحوّل تاريخي كبير؟ ولماذا تملي علينا اللحظة التي نعيشها اليوم، وهي لحظة يوشك فيها مفهوم البحريني أن يفقد معناه الوجودي والتاريخي، أن نعرف كلّ ذلك؟
لماذا كانت تلك الدولة قبل مائة عام أكثر حداثةً وتقدّماً من شكل الدولة اليوم؟ و«لماذا بات يسهل اليوم كسر المواطَنة البحرينية؟»، أين تلك الدولة التي أسّس لها البريطانيون بالقوّة والهيمنة؟ وأين ذهبت وعودها والخط التاريخي المرسوم لها في وثائقهم كنموذج للخليج؟ كيف نظّر البريطانيون لأطروحة المملكة الدستورية منذ نهاية العشرينيات؟ وكيف تم القضاء على هذه الأحلام حين كانت «رغبة المُلك أكبر من رغبة المملكة»؟ كما يقول الكاتب.

قراءة في التاريخ البحرينيّ

تقوم فرضيّة الكتاب على أن مشكلة البحرين التاريخية التي بلغت حد عدم «الاعتراف» بالبحريني، هي أن الدولة لم «تستقلّ» بشخصيتها عن شخص الحاكم، و«ظلَّ هذا الحاكم يقاوم استقلال الدولة، ورفض جميع محاولات إصلاح الدولة من 1904 حتى تمّ عزله في 1923، وأراد أن يكون شخصه الطرف المهيمن في كل شيء». يقدّم الديري قراءة روائية لأحداث الربع الأول من القرن العشرين، ويعيد سردها بشكل ممتع، معتمداً في الأساس على روايات تاريخية تخرج إلى النور للمرة الأولى عن أرشيف الوثائق البريطانية. كان البريطانيون يسجّلون كل شيء، بما فيه حركة عصا الشيخ وفداويته.
فضلاً عن الأرشيف، يعضد الكتاب روايته المتماسكة بكتابين لمؤرّخين عاصرا تلك المرحلة، وكان لأحدهما دور فيها، وهما: ناصر الخيري، صاحب كتاب «قلائد النحرين في تاريخ البحرين»، ومحمد علي التاجر صاحب كتاب «عقد اللآل في تاريخ أوال».
إنَّ الخوض في مواضيع الكتاب لن يكفّ عن إذهال القارئ الذي سيظل يتساءل عن العلاقة بين كل هذه المواضيع وسؤال الكتاب، وهو ما يفكّك الصورة الغريبة التي انعطف بها تاريخ البحرين الحديث في العام 1923، فكيف انبثق كل ما بُني في العشرينات من هذا السؤال تحديداً؟ وكيف تحوّل هذا السؤال إلى سؤال السياسة والجغرافيا والحكم؟
«لم يكن مطروحاً على هؤلاء الذين يعيشون على أرض البحرين فعلاً سؤال «من هو البحريني؟»... في تلك الفترة، لم يكن هناك قانون، ولو كان شكلياً... كان هناك نظام سخرة، تمايزات بين من ينتمي إلى قبيلة وبين من لا ينتمي إلى قبيلة، تمايزات بين من ينتمي إلى جنسية أجنبية وبين المحلي».
مستغلّةً تململ السلطات البريطانية من طريقة إدارة حاكم البلاد، ومحاولاتها السيطرة على الأوضاع والحفاظ على مصالحها، بعد حوادث العام 1904، «خاضت القوى الاجتماعية صراعات ليكون هناك قانون، ولتنشأ عدالة، ولكي يتم الاعتراف بأبناء الوطن بشراً متساوين».
لم يكن هناك حراك واحد تمخّضت عنه نتيجة واحدة. كانت أحداث مركّبة جداً امتدت لأكثر من 30 عاماً وتقاطعت فيها العديد من الظروف. خلال ذلك الوقت، تحرك البريطانيون على أكثر من صعيد، بل وأصدر التاج البريطاني بنفسه مرسوماً مفصلاً خاصاً بالبحرين: مرسوم البحرين الملكي 1913.
حاول البريطانيون عمل الكثير لتنظيم الفوضى في البلاد وضمان الاستمرار من الاستفادة من موقعها ومواردها، بما فيها القوى العاملة فيها، لكنهم اصطدموا بعناد وتصلّف لا يُحتمل من عيسى بن علي. «عارض الحاكم مشروع إنشاء البلدية، وتأسيس المحاكم المدنية، ورفض العرائض الشعبية ومشاريع الإصلاح السياسي. وجدها خلعاً لعظمة شخصه، وتنصيباً لعظمة شخصية اعتبارية (مجلس، مؤسسة، شعب، دولة)». انتهى الأمر بعزل الحاكم عيسى بن علي، وانتهت مهمّة تعريف البحريني إلى صيغ قانونية ومجالس بلدية ومجالس عرفية وإدارات بيروقراطية، شكّلت أول أساسات الدولة الحديثة، وكان ذلك بخطة واضحة قرأ تفاصيلها المقيم السياسي البريطاني بنفسه في خطاب العزل.
هكذا، يقول الكتاب، وُلد تعريف البحريني، ماراً بتأسيس بلديات ومجالس وإدارات، وسنّ قوانين، وتغييرات في هرم السلطة من رأسها إلى عقبها، فضلاً عن إعادة تأسيس النظام القضائي وسلطات الأمن، وما وازى ذلك من إصلاح للنظام الاقتصادي، على رأسه مسح الأراضي، والسيطرة على السوق والميناء والجمارك، وتنظيم بيت الحكم السياسي.

الوثائق البريطانية: مصدر الرواية

يتزامن صدور كتاب «من هو البحريني؟» مع صدور المجلدات الستّ الأولى من الترجمة العربية لسجلّ البحرين في أرشيف الوثائق البريطانية التي كانت مصدر الكتاب وروايته، بحكم اطّلاع المؤلّف عليها قبل صدورها. «لقد جرى تغييب هذا الأرشيف من التاريخ الوطني، وما زالت هذه الوثائق محظورة، وهي عرضة للاجتزاء والتوظيف المغلوط والتزوير، وما كان لهذه الدراسة أن تكون لولا أن توافر لها لأول مرة ترجمة كاملة لهذه الوثائق عبر مشروع مركز أوال للدراسات والتوثيق».
لقد جعل الأرشيف، بوثائقه التي أمكن الاطلاع عليها مترجمةً للمرة الأولى، من رواية الكتاب فتحاً جديداً في أغوار تاريخ هذه البلاد. هنا، ستُسرد معلومات للمرة الأولى، وستكتمل صورة أحداث وقصص تاريخية معينة كانت حلقاتها مفقودة، وسنسمع رواية التاريخ مقروءة على لسان أُصيب به.

(اسم الكتاب: من هو البحريني؟ بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929/ الناشر: مركز أوال للدراسات والتوثيق، لبنان، الطبعة الأولى، 2017/ عدد الصفحات: 372 صفحة)
* باحث وكاتب بحريني