في أية مفاوضات مستقبلية، ستُقايض إيران على مكتسبات حول العالم، خارج الشرق الأوسط. رؤية إيران الجيو-سياسية للعالم ستَنتظم وفق مقاربة جديدة، فلسفية-تكنولوجية: برنامج الفضاء هو الاستراتيجية المقبلة بعد البرنامج النووي، الاستثمار في تفكيكٍ ما بعد حداثي للهويات هو المنهج.
■ ■ ■


«الأركيولوجيا الحواضرية» ومفهوم «الآخَر الفلسفي»
لا تُحيل مدرسةٌ فلسفيةٌ ما إلى الوجود بل إلى مدرسةٍ فلسفيةٍ أخرى، بالأحرى إلى شبكة من المدارس الفلسفية الأخرى. ما نُطلق عليه «الآخَر الفلسفي» هو مفهوم «سوسيري» يَكشف عن نظام داخلي للتأويلات الأنطولوجية المختلفة بمعزل عن حقيقة المأوَّل حدّ اختفائه؛ فالسؤال الفلسفي هو حقل استثمار ولا يَستدعي الإجابة رغم صيغته الاستفهامية.

يَبتعد بنا ذلك عن التفسيرات السيكولوجية والبيئوية لولادة مذهب فلسفي ما، ناهيك عن محاكمة تطابقه مع الواقع الذي يصفه أو اعتباره «طريقة لفهم العالم». بالتالي، في أي لحظة تاريخية تشكِّل مجمَل المدارس الفلسفية على امتداد العالم نظاماً داخلياً من التعارضات والتجاورات تمكِّنها من الوجود بالتزامن؛ إنها تعزِّز بعضها الآخر بالاختلاف والتضاد.
ألمانيا التي تفوّقت
يوماً في خطاب الأعراق هي اليوم موطن أهم أحزاب الخضر

وفق هذه الرؤية الأركيولوجية لعنف التأويل الأنطولوجي، تتبنّى حاضرةٌ ما فلسفةً ما ليس لأنها تلائمها نفسياً أو تلائم جغرافيتَها، بل لأنها تَعتقد أنها ستمكّنها من الانتصار في صراعها مع حاضرة أخرى تتبنّى فلسفةً أخرى (ومع حواضر أخرى تتبنّى فلسفات أخرى). ليس مصادفة أن معظم خريجي الفلسفة في الولايات المتحدة الأميركية براغماتيون وتحليليون، وفي فرنسا وجوديون وبنيويون ومن ثم ما بعد بنيويين؛ وليس مصادفة أن التفلسف الألماني بدأ بالاضمحلال بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يجد أعضاء حلقة فيينا بداً من الهجرة إلى حواضر مقتدرة، خصوصاً بريطانيا والولايات المتحدة. في القرن التاسع عشر كانت المثالية ألمانية والمادية فرنسية والتجريبية بريطانية. والدول الاسكندنافية لم تُنتِج مدارس فلسفية. لا يُولد مذهب فلسفي إلا في حاضرة، حاضرة إمبريالية، ولا يمكن اكتناه الوجود إلا في مكتبتها.
خيار الحاضرة الفلسفي يمكن تسميته «الهوية الفلسفية للأمة»؛ أمرٌ شبيه بالدِين الرسمي للدولة. في حين يَعتبر هايدغر أن الوضوح هو مقتل الفلسفة، كان الأميركي تشارلز بيرس يَكتب «كيف نَجعل أفكارنا واضحة». المقعّر مقابل الواضح هو تجسيد للصراع على الميدان بين برلين ولندن، ولا علاقة له بسيكولوجيات متناقضة بين الأمتَين.
إنهما تياران فلسفيان يولّدان بعضهما بعضاً: الألماني يتّهم الإنكليزي بأنه سطحي ليعزّز هويته الميتافيزيقية الإلماعية، والإنكليزي يتّهم الألماني بأنه غير عقلاني ليعزّز هويته العلمية. للتعبير عن فلسفتهم اختار الأميركيون عبارة مفهومية «الفلسفة التحليلية»، أما للتعبير عن فلسفة ألمانيا وفرنسا، فقد صاغوا عبارة جغرافية «الفلسفة القارية» (لاحقاً ظَهر في الجامعات الأميركية مصطلح جغرافي فلسفي آخر «النظرية الفرنسية»، للدلالة على فوكو، دريدا، ليوتار...). تلقائياً يتمّ إقصاء الفلسفة الأخيرة عن أرض الولايات المتحدة «ليست من هويتنا»، رغم أن مَنْ صاغ العبارة الأخيرة هم أميركيون متعاطفون مع هوسرل وهايدغر.
الفلسفةُ القارية هي آخَر الفلسفةِ التحليلية
لتوضيح فكرة التوزُّع الأركيولوجي الحواضري للمذاهب الفلسفية، فإن الألمان تبنّوا على مدى عقود مفهوم Sonderweg «الطريق الخاص»، وفحواه أن مسار الفكر الألماني مختلف عن «الليبرالية التافهة» لفرنسا وبريطانيا، ويَختلف أيضاً عن الأوتوقراطية الروسية. حتى «الفلسفة للفلسفة» أو «فصل الفلسفة عن الدولة والسياسة» (كما «فصل الدين عن الدولة والسياسة») لا بدّ أن تشكِّل سمةً لحاضرة ترعاها كي تعزّز سلطتها، «نحن الذين نَمنح الفلاسفة استقلالهم بخلاف الحواضر الأخرى».

الأرض بدل العالم

بناءً على الأركيولوجيا الحواضرية، يمكننا التفكير عالمياً خارج التقليد الأخلاقي ومخاطره الذي تمثّله الكانطية والويلسونية. في مركز هذا التقليد الأخلاقي لتصوُّر العالم يقع اليوم خطابُ البيئةِ المستجدّ؛ تَستولي البيئوية على النصيب الأكبر من الكلام عما هو عالمي. بدأ مفهوم «الأرض» يحتلّ حيزاً من التصورات التي كانت مرتبطة قبلاً بمفهوم «العالم». لقد وُلدت الأرض، بما هي كيان بيولوجي، كموضوع لخطاب سياسي فلسفي.
خطاب البيئة هذا وَرث المؤسسةَ (الأخلاقية/ العلمية) للجنسانية في القرن التاسع عشر؛ وفي حين كان خطاب الجنس والعرق يتراجع، كان خطاب البيئة والأرض يتقدّم. نفس الخطاب المعياري الذي كان يَضبط الممارسة الجنسية، يَضبط اليوم التعاطي مع الأرض (التقشُّف في الملذات/ التقشُّف في استهلاك الموارد). في إعادة موضعة الرابط (البيولوجي/ السياسي) «Biopolitics»، يتمّ الحديث عما يهدِّد الأرض («eco-centrism»)، بدل الحديث عما يهدِّد العرق. هكذا حافظ منطق المخاطر المالثوسي على بنيته في التحوُّل بين الخطابَين، ولكن هذه المرة متقاطعاً مع التيارات غير العقلانية المعادية للتكنولوجيا، وتيارات العدالة الاجتماعية.
للخطاب البيئي تَموضُع حواضري، والحواضر نفسها التي أَنتجت خطاب الجنس والعرق يوماً، تُنتج خطاب البيئة والأرض اليوم. إنه خطاب سياسي وليس تقريراً بسيطاً عن واقع الحال. نَدرس هنا البيئوية، أي الخطاب حول البيئة وليس ما يَجري على البيئة من تغيُّرات. لذلك لم يُنتَج هذا الخطاب في الاتحاد السوفياتي، رغم كونه مادة دعائية ضد الحواضر الرأسمالية الملوِّثة. لم تكن الأحزاب الشيوعية حاضنةَ البيئوية بل اليسار الجديد؛ اليسار الجديد الذي بدأ في الولايات المتحدة كتسوية ما بعد ماكارثية، خاصة في كاليفورنيا وجامعاتها. من المهم ملاحظة كيف شكّلت كاليفورنيا (ضمن الحاضرة الأميركية وشروطها) بوتقة صهرٍ للمفكرين الأوروبيين المتداوَلين في خطاب البيئة واليسار الجديد وما يُعرَف بالاشتراكية الأوروبية. في كاليفورنيا كانت واشنطن تَصوغ آخَريها حول العالم.
لم يعد مفهوم الجغرافيا
مقتصراً على البر والبحر، بل شمل الفضاء أيضاً

لن يكون مستغرَباً أن ألمانيا التي تفوّقت يوماً في خطاب الأعراق والديموغرافيا، هي اليوم موطن أهم أحزاب الخضر في العالم وأكثرها نجاحاً سياسياً. ألمانيا بالذات (وبشكل عام الاتحاد الأوروبي) تَدعم حول العالم أي مشروع صناعي يريد التحوُّل من النفط إلى الطاقة النظيفة؛ الولايات المتحدة ليست لديها مشاريع دعم بيئية مماثلة، هناك حيث الفاشية المنكرة للمحرقة البيئية.
علينا فهم تقدِمات ألمانيا وعدم حماسة الولايات المتحدة لها كبند سياسي لا أخلاقي. الأمر شبيه بتحرير العبيد في القرن التاسع عشر؛ كانت سفن الإمبراطورية البريطانية تَجوب البحار لمنع الإتجار بالعبيد، وفي الوقت نفسه تَخوض حرباً مع الصين لإجبار الأخيرة على فتح أبوابها أمام الأفيون البريطاني المصنَّع في الهند.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحاضرة الألمانية تغطّي أوسع من ألمانيا منفردةً؛ إنها تَشمل المجال الثقافي الألماني عموماً والذي امتدّ تاريخياً على طول خطوط التجارة المسماة «Hanseatic League». هولندا مثلاً تضمّ أهم منظمات البيئة العالمية، والنرويج والسويد والدنمارك من أكثر دول العالم مراعاةً للقيود البيئية وتَشهد قوةً سياسية للخضر.

البيئة والفضاء

حين لا يَنعكس النمو الاقتصادي نمواً في الحيز الجغرافي، علينا توقُّع الخلل. لا يمكن لإقليمٍ ما تحقيق معدلات نمو مرتفعة من خلال آليات داخلية، يَنطبق ذلك في الاقتصاد كما في السياسة.
التوسُّع الجغرافي وظيفته كما اللغة: تأجيل المعنى، الانزياح المستمرّ تفادياً للنكوص باتجاه السؤال الأول. بالمعنى التقني هو تأجيل الكارثة.
برامج الفضاء هي أول ضحايا نهاية الحرب الباردة؛ فالحرب كانت تُجبر القوتَين العظميين على الدفع بتقنيات الفضاء باتجاه تخومها الأبعد. كان على الحرب الباردة أن تستمرّ لفترة أطول ريثما يتمّ تثبيت بنية تحتية فعالة لبرامج الفضاء. على الحركات البيئية أن تَبذل جهداً أكبر في دراسة التاريخ الاجتماعي ــ السياسي لابتكار وانتشار التكنولوجيات.
كون البيئوية قد تقاطعت مع التيارات المعادية للحضارة (counter-culture) فقد ضَغطت، ليس باتجاه الاستثمار في الفضاء من أجل معالجة البيئة على الأرض، بل باتجاه التقشُّف في استهلاك الموارد ومقاربات نكوصية حتى (على اعتبار أن السعي إلى طاقة غير عضلية للفرد هي انتهاكٌ لتوازن الطبيعة).
إنه منطق الاتحاد الأوروبي نفسه (الذي تقوده ألمانيا «الصديقة للبيئة») في مواجهة الأزمة المالية: التقشُّف بدل الانفاق؛ تقتير الطاقة يتسبّب بركود بنيوي على المدى الطويل. وألواح الطاقة الشمسية لن يكون بمقدورها تلبية نمو الطلب على الطاقة إلا من خلال أنظمة تُثبَّت في المدار تَجعل ألواح الطاقة الشمسية على الأرض أكثر فعالية.
حتى لو تحوّلت الصناعة والمدن كلياً إلى الطاقة النظيفة، فإن الطيران المدني (دون العسكري) وسفن التجارة تساهم في 8% تقريباً من الاحترار العالمي؛ المطروح هو تخفيض سرعة سفن التجارة 10% من أجل تقليص استهلاك الوقود. على الأقل منذ «ليسلي وايت» Leslie White كان نمو سرعة المواصلات وكمية الطاقة المتوافرة لكل فرد «per capita» من أهم محددات تقدُّم الحضارة. لا بل هناك مقترح إضافي: استخدام الصناعات المحلية، بحيث تَكتفي كل منطقة بمواردها، من أجل عدم استخدام الطائرات والسفن.
إن عدم ضغط حركات البيئة من أجل تطوير مفاعلات الاندماج النووي، النظيفة بيئياً والأنسب من حيث وفر الطاقة، يَعود إلى الخلفية الإيديولوجية الصوفية المعادية للتكنولوجيا التي تشكّل عصب جمهور هذه الحركات. ومعلوم أن برامج الفضاء يمكنها أن تمدّ مفاعلات الاندماج بالوقود اللازم؛ كما أن برامج السفر بين الدول من خلال تجاوز الغلاف الجوي تخفّض كمية الوقود المطلوبة، وحتى مدة السفر.
في الواقع، التوسُّع الجغرافي باتجاه الفضاء بدأ يلوّثه من خلال حطام الأقمار الاصطناعية. لقد نَتجت كمية كبيرة من الحطام عام 2009 بعد اصطدام قمرَين روسي وأميركي. طبعاً المقترَح البيئوي سيكون تقليص عدد الأقمار الاصطناعية في المدار.
بعض المقاربات يُتوقَّع أن تحقِّق الهدف المطلوب منها في أفضل الأحوال. لكن هناك مقاربات، وعلى هامش مسعاها لتحقيق الهدف، فإنها تَخلق مؤسسات وديناميات علمية وتكنولوجية واقتصادية يَفوق وزنُها الهدفَ نفسه. الهدف يجب أن يُفهَم كمسار استثماري، وليس كمكان يجب الوصول إليه. إنه الفارق بين المقاربة البيئوية التقشُّفية والمقاربة البيئوية الفضائية.

«مَنْ يَحكمُ الفضاءَ، يحكم الأرض» كرؤية جيو-سياسية

لم يعد مفهوم الجغرافيا مقتصراً على البر والبحر، بل شمل الفضاء أيضاً؛ وهناك حالياً اقتصادٌ كامل قائم على الفضاء. باتت الاتصالات والجيوش وعلوم الفيزياء والطب والجيولوجيا تَعتمد بشكل متزايد على الأقمار الاصطناعية، ناهيك عن الاستثمارات المقبلة في مجالات الطاقة والمواد الخام. «مَنْ يَحكم الفضاء، يحكم الأرض» هي مقاربة تولّد مجموعة من الديناميات السياسية والتكنولوجية، تفوق أهميتُها إثباتَ صدقها المخبري (عكس الاختزالية الماكندرية).
وحين نتحدث عن رؤية جيوسياسية جديدة، فإننا نتحدث بالضرورة عن حاضرة فتية حين تَخوض المفاوضات أو الحروب فإنها تَنظر إلى هذا الفضاء باعتباره هدفها الرئيسي المعلَن، والذي تحت عنوانه تتحقّق باقي الأهداف.
خلال خمسة عشر عاماً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي كانت الولايات المتحدة اللاعب شبه الوحيد في العالم. كان بإمكانها خلال هذه الفترة أن تَرفع شعار استشكاف الفضاء من أجل البيئة ومستقبل البشرية، فتُجبر الدول على دفع الأموال لها من أجل هذا «الهدف السامي»، فتموّل شركاتها، وبإمكانها شنّ حروب ضد الدول الغنية بالموارد تحت نفس الهدف السامي. كان سيُكتَب للولايات المتحدة مسعاها التقدّمي وتُغفَر لها خطاياها الجانبية. نابليون بونابارت خَسر المعركة في الميدان، لكنه بقي علامة إيجابية في التأريخ الحديث؛ السبب أنه خاض حروبه تحت مسميات تقدّمية (قيم الدستور والجمهورية)، حتى لو كانت الغايات الفعلية لحروبه هي غير ذلك.
قد لا يتحقّق هدف الفضاء الذي تضعه الحاضرة الجديدة، لكن المسعى سيَفتح حقلاً من الإمكانات. لم يتحقّق وعد العلوم الإنسانية بإنجاز علم للإنسان شبيه في تماسكه تماسكَ الفيزياء والرياضيات، لكن ذلك لا يَعني فشل العلوم الإنسانية: إنها تجربة في غاية الغنى، فَتحت من الآفاق ما يَفوق التشبُّه بالفيزياء والرياضيات أهميةً.
بهذا المعنى، البرنامج النووي الإيراني مقاربةٌ وليس هدفاً. إنها مقاربةٌ تحدِّث البنية العلمية ــ الاجتماعية لإيران بشكل ممنهج، حتى لو لم يتحقّق الهدف، وهو بناء المفاعل. وكذلك الأمر مع هذا المقال، إنه لا يسعى إلى الإقناع بقدر ما هو تفعيل للسجال وفق مقاربات جديدة.
بعد أن كان الفضاء مجالاً تقنياً بحتاً، علينا أن نَجعل منه موضوعاً لخطاب فلسفي سياسي بالترابط مع البيئوية. ستكون هناك حاضرة تشجّع على الاستثمار في الفضاء وأخرى تَعتبره غير مجدٍ، وستكون لكلٍّ منهما «إثباتاته العلمية» (Arcadian v Imperial Ecologies).

■ ■ ■


أولوية العالم على الإقليم

مثال على الآخَرية الحواضرية في الفلسفة هو المسعى الإيراني (ومن قبله الصيني) لإيجاد علوم إنسانية جديدة، تكون بديلةً من العلوم الإنسانية «الغربية». بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، لم يُنجز خطاب «الإنسانيات البديلة» هدفَه، ولكنه خَلق ما هو أكثر أهمية، حقلاً حيوياً من الإشكاليات.
تُعَدّ إيران من أكثر الدول إصداراً للكتب الفلسفية. العناية بالعلوم التجريدية جزء من الهوية القومية هناك. اتجاه الإصدارات بمعظمها ميتافيزيقي، مع ميل واضح إلى استدعاء الفلسفة الألمانية بالذات؛ حالياً هايدغر وهابرماس. من اللافت أن المؤسسة الدينية الرسمية المحافظة في إيران، ممثّلة بجامعة المصطفى، تُنظِّم مؤتمراً حول هرمنيوطيقا النص الديني، وحديث مركّز عن شلايرماخر وديلثي وحتى المثالية. تَجدر الإشارة إلى أن ألمانيا تميّزت عن فرنسا وبريطانيا بأن معظم إصداراتها الأكاديمية كانت ثيولوجية حتى أواخر القرن التاسع عشر. بالتأكيد كان الملا صدرا ليقول الكثير اليوم عن البيئة والفضاء.
لكن على إيران أن تَقصر تفاعلها مع ألمانيا على الفلسفة ووفق خطوات حذرة؛ لأنه يبدو أنه حتى في الرؤية الجيو-سياسية هناك بعض التشابهات الإشكالية: قوة ذات طموح عالمي لكن مستنزَفة في إقليمها.
أمام إيران نموذجان: بريطانيا وألمانيا
رغم بعض المحاولات الألمانية للاستعمار حول العالم، إلا أن الاتجاه الرئيسي كان منذ بسمارك قارياً؛ هو الذي توهّم أن صراع القوى الاستعمارية في الخارج سيُكسبه القارة الأوروبية.
عام 1890، وَقّعت ألمانيا وبريطانيا اتفاقية بموجبها تسلّم بريطانيا جزيرة هليغولاند الاستراتيجية في بحر الشمال لألمانيا، مقابل تسليم ألمانيا زنجبار في شرق أفريقيا لبريطانيا. بالنسبة لبريطانيا، المكتسبات حول العالم لها الأولوية على المكتسبات في الإقليم. ألمانيا التي لم تُعطِ الأولوية للعالم قبل الإقليم (وخسرتهما سويةً)، هي مركز الحركات البيئوية التي لا تُعطي الأولوية للفضاء قبل الأرض.
اليوم وبعد أن بات واضحاً أن الهدف من الحروب المتنقلة في الشرق الأوسط هو استنزاف إيران وحلفائها بشرياً واقتصادياً، ستَمنح إيران الأولوية للاستثمار حول العالم، خارج الشرق الأوسط، وستَضع في أقصى تصوُّرها برامجَ الفضاء. هكذا يصبح الفضاءُ ناظمَ عملها السياسي، كما كانت القدس ناظمة مشاريع إيران الإقليمية خلال الثلاثين عاماً الماضية، وهو ما وَفّر عليها متاهات جانبية كتلك التي ضاع فيها الإخوان المسلمين. بالمناسبة، فإن برنامج إيران الفضائي أنجح من برنامجها النووي، رغم تركيز الإعلام على الثاني.
سيكون التفاوض على الملف النووي أو الإسرائيلي أو غيره منتظماً وفق مقاربة جديدة. ستَفتح إيران مزيداً من الملفات التفاوضية حول العالم، وحين تؤسِّس نقطةً أمنية جديدة في شرق أفريقيا أو أميركا اللاتينية، ستكون وظيفتها خلق مشاريع سياسية تَصلح للتفاوض المستقبلي. هذا النوع من التخطيط هو فعلياً حكرٌ على الولايات المتحدة ومن قبلها بريطانيا وفرنسا. هناك مذاهب إسلامية اختلقها الاستعمار في القرن التاسع عشر أو منحها القوة للانتشار، وداخل بعض المذاهب اختلق الاستعمار طقوساً؛ الاتحاد السوفياتي، رغم كل إمكاناته، لم تكن لديه هذه الدينامية.
مارست الإمبراطورية البريطانية فنّ تقسيم الإثنيات وحكمها، والتحدّي أمام إيران اليوم هو تحويل هذه الممارسة إلى منهج علمي يَعتمد على أدوات ما بعد الحداثة لتفكيك الهويات وإعادة صياغتها. ما كان فناً سيُصبح علماً؛ كان فوكو قد أشار إلى الكيفية التي تحوّل فيها فن الممارسة الجنسية «ars erotica» إلى علم «scientiasexualis»، ليصبح آلية للضبط السياسي.

■ ■ ■


تسعى إيران فعلياً إلى الاستثمار في الداخل الأميركي، ولكن وفق أجندات قديمة. لو كانت إيران قوةً كبرى، لكان بإمكانها استغلال أحداث بالتيمور؛ ولكن نظراً لمحدودية الموارد، ستَبذل إيران جهداً أكبر في رسم خريطة للتوترات التي يمكن الاستثمار فيها بفعالية أكبر وتكاليف أقل.
حتى لو كانت إيران قوة عظمى، إن هزيمة الطرف الآخَر عسكرياً هي دائماً موقتة؛ المهم هو تفكيك نسيج سرده وإعادة صياغته. ليس هناك باحث جدي يَنفي الأثر الإيجابي الحضاري للعرب في إسبانيا، لكن الإمبراطورية العثمانية (ذات المقاربة العسكرية البحتة) لم تَترك في أوروبا الشرقية سوى الأحقاد التي يُعاد تفجيرها لاحقاً.
عام 2011، أَطلقت إيران قناة فضائية لأميركا اللاتينية «HispanTV»، وهي بانتظار تبلور خطاب جديد غير العداء لأميركا ونشر التشيُّع. في المكسيك، وهي ليست بلداً محاذياً للولايات المتحدة بل متداخلاً معها، هناك حروب مخدرات حصدت أكثر من مئة ألف قتيل. نظراً لفساد مؤسستَي الجيش والشرطة فإن مجموعات أهلية «Auto-defencia» حَملت السلاح لمحاربة العصابات، مدعومين من التجار المحليين الذين أرهقتهم الخوات التي تَفرضها العصابات.
يمكن لإيران تمويل وتسليح إحدى مجموعات الدفاع الذاتي (المحبوبة من قِبَل الشعب) لمواجهة عصابات المخدرات، بحيث يصبح لديها حليف مسلّح على حدود الولايات المتحدة ذا شرعية شعبية، نوع من «حزب الله» في المكسيك (لدى إيران مسبقاً نشاط أمني وحتى عسكري محدود في أميركا اللاتينية). طبعاً، هذه المجموعة المسلحة يجب أن تكون لديها رؤية للمكسيك ولأميركا اللاتينية، وهو ما أشرنا إليه في دراسة «تفكيك وإعادة تركيب الغرب»: على أميركا اللاتينية أن تصبح العاصمة الجديدة للغرب بعد واشنطن. الاستثمار في المكسيك، هو استثمار داخل الولايات المتحدة.
يمكن لإيران مقايضة أمن إسرائيل (أو غيرها) بمكتسبات خارج الشرق الأوسط؛ كمثال، المقايضة على الأسهم أو الهيكل الإداري لشركة تَعمل في حقل الفضاء ومتمركزة في الولايات المتحدة أو شرق آسيا.
التفاوض سيكون مع الأشكيناز (من أصول روسية بالذات) وإقصاءٌ تدريجيٌّ للسفارديم الذين مَنحوا إسرائيل الشرعية الدينية من دون مبرر بعد أن عاشوا في الشرق الأوسط قروناً في حال أفضل من كل الأقليات الأخرى. يشكِّل الروس حقلاً استثمارياً في الكثير من التقاطعات؛ يُتيح لنا ذلك الدخول طرفاً في الصراع الداخلي الإسرائيلي، وحتى التجنيد الأمني بين الإسرائيليين.
ملف اللاجئين الفلسطينيين يجب أن يُثمَّر بمكتسبات استراتيجية. سورينام في أميركا الجنوبية تعدّ خارج النسيج العرقي الثقافي للقارة الأميركية عموماً. هم يتكلمون الهولندية، وتعود جذورهم في الغالب إلى جنوب شرقي آسيا، وهو ما جعل عشرين بالمئة من السكان مسلمين. طبعاً، عدم وجود بلد مسلم في قارة كبيرة كأميركا هو خلل استراتيجي بالمعايير كافة. إذا نُقِل اللاجئون الفلسطينيون إلى هناك سيكون ذلك استثماراً استراتيجياً في القارة الأميركية، في الأشكيناز الروس وفي الفلسطينيين. بالمناسبة، سورينام بلد غني بالموارد، ويقع على حدود غويانا الفرنسية، مركز إطلاق برامج الفضاء الأوروبية؛ الفضاء مجدداً.
الأشكيناز الروس لهم ميزة أخرى، وهي أن جزءاً متعلقاً بهم يَنتمون إلى طائفة السابوتنيك؛ وهم روس أرثوذكس تحوّلوا بدءاً من القرن الثامن عشر إلى اليهودية، وشَكّلوا جزءاً من الطليعة الصهيونية.
في شرق آسيا، تراقب إيران بقلق تطوّر العلاقات الصينية الإسرائيلية، وهو ما يحتّم صياغة مقاربة جديدة. إذا كان قطع العلاقات بين الصين وإسرائيل يبدو صعباً، فقد تَستثمر إيران بالضبط في هذه العلاقات المستجدة.
هناك تعاطف وإعجاب صيني باليهود، ضمن الصورة النمطية «المبدع المضطهد». دَخلت إسرائيل إلى الصين من خلال التكنولوجيا، العسكرية بالذات، وبدأت تَستثمر في الوعي التاريخي الصيني.
بما أن الصينيين باتوا معجبين باليهود، فإن نشر اليهودية في الصين من خلال السابوتنيك (كونهم متحولين إلى اليهودية بدورهم) سيمكِّن الصين من ادعاء وراثة الولايات المتحدة حضارياً وليس فقط اقتصادياً، وسيَقسم الغرب إلى غرب كاثوليكي ــ بروتستانتي وغرب يهودي. الصين في الواقع تَبحث عن دينامية ثقافية فكرية لوجودها في العالم، على الأقل لتجاوز «أزمة الإبداع» التي تعانيها في الحقل الاقتصادي.
في فرنسا، مساعي إيران لتشييع المغاربة لم تجرِ بالسهولة المفترَضة؛ المقاربة التبشيرية محدودة الفعالية إذا لم تَقترن بمشروع سياسي يَستثمر في التاريخ والثقافة الفرنسيتَين. يمكن دعوة الكنيسة الإنجيلية البرازيلية إلى تحويل المغاربة في فرنسا إلى البروتستانتية؛ لن يؤدي ذلك إلى دينامية مغاربية مختلفة داخل فرنسا فحسب، بل أيضاً سيُعيد إحياء الهوغونوت الفرنسيين «Huguenot» الذين احتلّوا الجزء الأكبر من جنوب فرنسا، وبالتالي إحياء التوتُّر التاريخي بين شمال وجنوب فرنسا. هكذا يصبح المغاربة ممثلي الهوية الوطنية لجنوب فرنسا وليسوا غرباء. سيكون ذلك أيضاً استثماراً في البرازيل، ومدخلاً لها للعب دور في «أوروبا».
هذه المرة حين تَذهب إيران إلى أي مفاوضات، سيَصطحب وفدُها خريطة الأرض ومدارها، مبتعدين عن المقاربة الألمانية للعالم. قد تَضغط إيران في الميدان لإجبار الحكومات على تلزيمها جوانب من برامج الفضاء (مثلاً الحق الحصري في إطلاق الأقمار الاصطناعية الخاصة بالبحث العلمي، أو جانباً من المحطة الفضائية الدولية). بالتالي ليس بالضرورة أن تَبني إيران مشروعها الفضائي المستقلّ، بل الضغط من أجل السيطرة على مفاصل الشركات المعنية بالفضاء (الأمر نفسه مع البرنامج النووي).

■ ■ ■


اليابان هي المصنِّع الأكبر للروبوتات في العالم؛ لكن حين نَقرأ في فلسفة التكنولوجيا لن نَجد أسماء يابانية. لاحقاً عند كتابة التاريخ سيكون آيزاك آزيموف هو أكثر مَنْ يَرتبط اسمه بالروبوتات وليس أي شخص أو شركة يابانية؛ آزيموف الأميركي الروسي الذي وَضع عشر قواعد نظرية لاستبعاد هيمنة الروبوتات على البشر.
لعقد تقريباً سَيطرت شركة نوكيا الفنلندية على سوق الهواتف المحمولة حول العالم؛ بعد أن تقلّصت الشركة، يمكن التساؤل عما إذا تَركت نوكيا إرثاً فنلندياً في العالم، أو حتى في فنلندا نفسها؟
حصل ذلك منذ أكثر من ألفَي عام: هناك إجماع على أن عناصر ديموقراطية كانت تُمارَس لدى الفينيقيين، ولكنهم لم يَكتبوا حول ذلك، ولم يَخلقوا سجالاً فلسفياً حولها، ولذلك كان مفهوم الديموقراطية من نصيب اليونانيين.
هكذا فإن السجال في طهران حول المقاربة المطروحة هنا قد يكون أكثر إنتاجاً حضارياً من الاندفاع إلى تطبيقها مباشرةً. ليس المهم الإنجاز فقط، بل شروط كتابته وتأريخه، أي نظام ظهوره واختفائه وتعالقاته. حتى الآن ليس أمامنا سوى أن ندوِّن تجربةَ وجودنا؛ بهذا المعنى، مَنْ يَكتب التاريخ هو المنتصر، وليس العكس.
* باحث لبناني