منذ صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة بدأت تظهر أزمة بدائل لدى خصومه وخصوصاً في اليسار. فالبدائل الموجودة لم تكن ترتكز إلى قاعدة شعبية فعلية، وإذا وجدت قاعدة بالفعل لا تكون القيادة فيها للتيارات التي تملك تصوُّرات مغايرة لنمط التراكم الذي أفقر الملايين من الأميركيين.
السياسات في الحزب الديمقراطي الذي يمثّل اليسار رسمياً كانت تلبّي احتياجات النخبة فقط، وتتبنّى وجهة في الاقتصاد تدعم صعود فئات وشرائح طبقية داخل المجتمع الأميركي على حساب أخرى. لم يحصل في كلّ هذه الفترة تصحيح فعلي للتفاوت القائم في الدخل والثروة، وظلّت هنالك شرائح تعاني من التهميش الاقتصادي والاجتماعي حتى بعد قيام بيل كلينتون في أوساط التسعينيات باستعادة جزء من الثروة التي بدّدها ريغان على دعم المصارف وأصحاب الرساميل. هذا الخلل في إدارة الحزب الديمقراطي لعملية توزيع الدخل ظلّ قائماً، وكان أحدَ الأسباب الرئيسية لفقدانه معاقِلَ أساسية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لمصلحة ترامب (الولايات الصناعية تحديداً).

منهج ساندرز

الوحيد الذي تبنّى وجهة نظر مغايرة حول الانحيازات الاقتصادية للحزب كان بيرني ساندرز، ولكنها لم تظهر إلا في الآونة الأخيرة، وبدت أحياناً وكأنها تنافس ترامب على معاودة استقطاب الطبقة العاملة، بعد خسارة كامل تأييدها للسياسات الديمقراطية في الانتخابات الأخيرة. ويبدو أنّ الرجل المحسوب على أقصى اليسار في الحزب الديمقراطي قد أدرك أنّ الأسباب الفعلية لوصول ترامب إلى الرئاسة أبعد من أن تنحصر في شخصه، أو في صعوده المفاجئ داخل الحزب الجمهوري. ولذلك فإنه بخلاف أعضاء ديمقراطيين آخرين داخل مجلس الشيوخ يتبنّى سياسة في معارضة ترامب لا تصوِّب على شخصه بقدر ما تنتقد سياساته. وهو إذ يفعل ذلك، يحرص بذكاء شديد على إظهار تعارُض هذه السياسات مع وعود ترامب الانتخابية بدعم الطبقتين الوسطى والعاملة، عبر استعادة جزء من الدخل الذي فُقِد بخروج الرساميل والصناعات الأميركية من الولايات المتحدة لمصلحة دول أخرى مثل الصين والمكسيك. في الآونة الأخيرة تركّزت مداخلاته داخل الكونغرس على انتقاد السياسة الضريبية الجديدة التي اقترحها الفريق الاقتصادي لترامب وأشرف على تنفيذها زعيم الغالبية الجمهورية في المجلس السيناتور ميتش ماكونيل. الخطة الضريبية تمحورت حول تخفيض الضرائب على الشركات الكبرى، عملاً بالفلسفة الاقتصادية التي يتبنّاها ترامب وتفيد بأن خلق الوظائف واستعادة أجزاء أساسية من الدخل مرتبطان بتخفيض القيود على عمل الشركات وليس العكس، بينما يرى اليسار وعلى رأسه ساندرز أن الضرائب التصاعدية وخصوصاً على الشركات هي الحلّ الوحيد لأزمة التفاوت الطبقي داخل المجتمع الأميركي. هذا الخلاف حول الوجهة الاقتصادية هو الذي ينتج سياسة ويوسّع قاعدة المعارضة الفعلية لهذه الإدارة، وليس التركيز على شخص الرئيس أو عائلته أو حتى على الصراعات داخل الإدارة كما أظهرها لنا كتاب مايكل وولف: «نار وغضب». في كلّ مداخلاته داخل الكونغرس وخارجه يتجنّب ساندرز «منهج وولف» في شخصنة الخلاف مع ترامب، ويفضّل بدلاً من ذلك أن تكون المعارضة له على أساس السياسات، فيثير قضايا غالباً ما يتطرَّق إليها ترامب، ويعمَد إلى إظهار تناقضاتها على لسان الرئيس، وكيف أنّ هذا اليمين الذي يقوده الرجل لا يقدم فعلياً حلولاً لمشاكل الطبقة العاملة بقدر ما يعمِّقها، عبر اتباع سياسات متناقضة وتلفيق حلول لا أساس لها اقتصادياً، وأبرزها خفض الضرائب على الشركات لخلق الوظائف وتحريك الاقتصاد.

أيُّ معارضة لترامب؟

يعرف ساندرز من خلال منهجه في العمل أنّ صعود هذه الإدارة مرتكز إلى معارضتها لنمط التراكم السابق الذي أفقر الطبقة العاملة وأفقدها وظائفها ومكتسباتها، ولذلك فهو لا ينساق بسهولة وراء نمط الاعتراض السائد على إدارة ترامب. تفضيله أن تكون المعارضة السياسية للإدارة مرتكزة إلى بدائل اقتصادية نابع من فهمٍ عميق لطبيعة التحوُّلات التي حصلت داخل المجتمع الأميركي في العقود الثلاثة الأخيرة، وقادت إلى صعود هذا النوع من اليمين الذي يصعب مجابهته سياسياً أو ثقافياً. ثمّة من يقول بأنّ المعركة مع هؤلاء على أساس ثقافوي أو بالاعتماد على عامل الهوية سواءً كانت عرقية أو جنسية أو جندرية ستقود إلى خسارات متتالية، وستصعّب على اليسار استعادة الشرائح الطبقية التي خسرها بسبب تمحوُر نضالاته حول عامل واحد هو الهوية. وقد ظهر ذلك جلياً في أحداث شارلوتسفيل التي خيضت على هذا الأساس، وحاول فيها اليسار الاستعانة بأجهزة الدولة (القضاء تحديداً) لتكون عوناً له في مواجهة النازيين، ولكن في النهاية لم يحصل شيء، لا بل ازداد أنصار ترامب من الطبقة العاملة اقتناعاً بعجز اليسار عن فهم التحوّلات الطبقية الحاصلة، وبانزلاقه أكثر فأكثر إلى مقاربة ستجعله لاحقاً أقلية ثقافوية داخل مجتمع يسوده الصراع الطبقي على نحو كامل. في مقابل هذه المقاربة التي تسود أوساط اليسار ثمّة منهج يعتمده ساندرز وهو لا يرتكز فقط إلى المعارضة الاقتصادية لسياسات ترامب، بل يدعم أيضاً المجموعات المناهضة للفاشية مثل «آنتيفا» في نضالها للحفاظ على حقوق ومكتسبات الأقلّيات العرقية والجندرية والجنسية. ولكنه دعم يقوم على التفريق بين الإدارة اليمينية التي يقودها ترامب والقاعدة الاجتماعية العريضة التي تؤيده، والتي يمكن معاودة استقطابها في حال فهمت التيارات الرئيسية في اليسار طبيعة هذه القوى التي تتصرف أحياناً كجماعة يمينية متطرفة كما حصل في شارلوتسفيل، ولكن حين تصوِّت وتختار ممثليها الرئيسيين تفعل ذلك استناداً إلى مصالحها الاقتصادية. فَهمُ هذه المصالح جيداً وكيف تقود هذه القوى في مفاصل الصراع الرئيسية هو الذي يفضي إلى المطابقة بين المعركة وأدواتها فلا يحصل خَلط بين الإدارة وجمهورها، أو بين هوية المجموعات (وهي على الأغلب متخيَّلة أو نتاج سردية ليبرالية) والطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها. حالياً ليس ثمّة تمييز كبير بينها، ولذلك يحصل هذا الخلط، ويُقاد الصراع عبر أدوات غير مطابقة لواقعه الفعلي، وهو ما يقود إلى نتائج خاطئة بالضرورة، عبر الاصطفاف خلف أجهزة الدولة العميقة في صراعها مع إدارة ترامب، على أمل أن يقود إضعافه أو إقالته إلى انحسار الموجة اليمينية التي قادته إلى الرئاسة. هذا الوهم هو الذي يوحّد مختلف المجموعات المعارِضة لترامب باستثناءات قليلة بينها تيار بيرني ساندرز داخل الحزب الديمقراطي، وهو الذي يصعِّب -في الوقت نفسه- أكثر فأكثر معاودة اليسار استقطاب الطبقات العاملة والفقيرة التي خسرها لمصلحة ترامب في الانتخابات الأخيرة.
* كاتب سوري