«حين تنتقدنا فرنسا نعلم أننا على النهج السليم» مقولة مشهورة للرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين. قالها وبلده يواجه حملة إعلامية غير مسبوقة بعد تأميمه النفط والغاز في فبراير/ شباط 1971. كلام صدقه الناس لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم الإعلام الفرنسي حين كان يحسب الأطفال القتلى في الغارات الجوية على القرى والبلدات زمن حرب الاستقلال على قوائم المتمردين، ويحسبهم ضمن «خسائر العدو».
مضى على رحيل الرجل 39 عاماً، وعلى تاريخ المقولة 46 عاماً، وقد تغيرت الأمور وهُدمت التحصينات ولم يبق الجزائريون على ما كانوا، وصاروا يغرفون مما تتناوله صحافة فرنسا وتصريحات مسؤوليها حول شؤون بلدهم، حتى إنها غدت المصدر الذي يستلهمون منه ما يقولون وما يكتبون في الصحف والمؤلفات وعلى منصات التواصل الاجتماعي والنقاشات العامة. فكيف خسرت الجزائر معركة الثقة أمام فرنسا؟ كيف صار الإعلام الفرنسي والخطاب الفرنسي مؤثراً إلى درجة كسْر الرموز وتثبيط النفوس وتحويلها الى مجرد مُردّد وناقل مقتنع؟
خسرت الجزائر الرهان الإعلامي والمخابراتي منذ ما يقارب أربعة عقود أمام فرنسا، مع أنها كانت اليد العليا قبلها وكسبت معارك كبيرة في السنوات العشر الأولى لاستقلالها. فقد انتصرت في حرب ثانية حين شاركت عام 1968 بقوة عسكرية قادها العقيد سليمان هوفمان الى جانب الحكومة الاتحادية في نيجيريا ضد انفصاليي مقاطعة بيافرا المدعومة خاصة من فرنسا وإسرائيل. وكسبت حرباً استخبارية كبيرة في 1970/71 حين «استولت» على أوراق خطة أعدتها فرنسا لمقاومة قرار محتمل بتأميم المحروقات يكون آخر حلقة في سلسلة عمليات تصفية كل مصالحها الأخرى المالية والاقتصادية والخدمية والعسكرية.

عملت الصحافة الفرنسية في الشأن الجزائري دائماً بروح «المحارب»
واستعملت الجزائر في هذه الحرب سلاحين، سلاح الجاسوسية الذي مكنها من الحصول على تفاصيل الخطة بتوظيف عميلها رشيد تابتي بطل فرنسا السابق في الملاكمة. وسلاح «كسر الأحلاف المناوئة» بتحييد الولايات المتحدة ثم جرّها الى صفها في موقف لم يفهمه الفرنسيون ولا بقية العالم. وكان الموقف ثمرة تحريك «خلية نائمة» من لوبي ثورة التحرير في أميركا وأهم حلقاته مسعود زقار المقرب من عائلة كينيدي، والملياردير ديفد روكفيلر ومحمد يزيد وزير الخارجية في حكومة الثورة والشريف قلال، رجل الظل، الذي ربط علاقات في الأوساط الثقافية والإعلامية وحتى في هوليود وصار أول سفير للجزائر في واشنطن.
ولما بدأ الفرنسيون بتنفيذ مخطط الضغط عند إعلان التأميم برفض تسويق الخمور الجزائرية التي كانت وقتها أهم مصادر العملة الأجنبية للبلاد، وجدوا رداً جاهزاً من شقين، أولهما الاتفاق مع السوفيات على شراء كل المخزون، وثانيهما الشروع سريعاً في التخلص من بساتين عنب الخمور وتحويل الأراضي إلى بساتين فاكهة وحبوب. وبعد أربع سنوات من هذا السقوط المدوي، زار الرئيس فاليري جيسكار ديستان الجزائر عام 1975 ساعياً إلى إيجاد أرضية تفاهم تجعل الجزائريين يتعاملون مع الشركات الفرنسية بنفس القدر من الاهتمام الذي يتعاملون به مع الألمان والإيطاليين واليابانيين والروس وغيرهم.
وسجّلت فرنسا أول اختراق واضح في الجزائر غداة تشييع الرئيس هواري بومدين، حين شككت وسائل إعلامها في تاريخ وفاته وأعلنت أنه ــ ربما ــ توفي قبل السابع والعشرين من كانون الأول، لكن تأخر الإعلان الرسمي عن شغور المنصب لصراعات بين الفرقاء حول من سيخلفه، ثم أطلقت الوصفة السحرية لفك اللغز بأن ذكّرت بما قالت إنه تقليد في الدول الاشتراكية، حيث توكل مهمة تأبين الرئيس للشخص الذي سيخلفه. وعليه، فإن قراءة بوتفليقة وزير الخارجية للبيان يعني أن الاتفاق وقع في أعلى هرم السلطة وأن الأمر استتب ليكون هو الرئيس المقبل. ومع أن ما صدر عن وسائل الإعلام الفرنسية غير بريء وغير مؤسس، ويبدو حتى في شكله كما لو أنه صدر عن جهة واحدة، إلا أنه أشبع عطش الجزائريين للمعلومة بعد التكتم الطويل لوسائل الإعلام عن طبيعة مرض الرجل والادعاء بأنه يتعافى، مع أن المرض كان ينخر جسده حتى أماته. واندفع الناس الى الحديث عن الخلافة مبكراً بين مؤيد لهذا ومعارض لذاك. وفجأة صار كرسي الرئاسة موضوع نزاع تسبب في أكبر أزمة عاشتها الجزائر منذ استقلالها قبل 16 عاماً.
بعد عشر سنوات من هذا الاختراق الإعلامي المخابراتي الفرنسي الأول، جاءت الغزوة الكبرى حين غطت قنوات التلفزيون والصحف الفرنسية على مدار الساعة أحداث العنف التي شهدتها الجزائر في مطلع أكتوبر تشرين الأول 1988. يحكي سكان أحياء مرتفعات العاصمة الذين يلتقطون القنوات الفرنسية بانبهار لزملائهم من الأحياء الأخرى عما تبثه هذه القنوات وكيف أعطت فرصة التعبير للجميع، وينقلون محتوى تصريحات نارية مناهضة للسلطة يدلي بها يومياً لهذه القنوات الشاب علي بن حاج، الأستاذ في مدرسة إعدادية وأحد أهم رموز التيار المتشدد في الإسلام السياسي. وهو سلوك غير معروف في الجزائر، لا انتقاد ولا معارضة فيها. فقناة التلفزيون الرسمية الوحيدة تجتهد فقط في إيجاد صيغ لشجب المتظاهرين وتبرير تصرفات قوى الأمن ضدهم. حكايات أسالت لعاب الجميع على إعلام يعطيهم الحقائق، حتى أثمر فكرة تثبيت الهوائيات المقعرة الجماعية لالتقاط هذه القنوات والتمتع بإعلام حقيقي يشفي الغليل. كانت تلك الأحداث السبب الرئيسي الذي أدخل القنوات الفرنسية الى عدد كبير من بيوت الجزائريين، وخاصة في المدن الكبرى.
وعملت الصحافة الفرنسية في الشأن الجزائري دائماً بروح «المحارب»، روح «النقيب آلان ليجيه» الذي أبدع في إثارة فتنة في أهم معاقل العمل الثوري المسلح بالعاصمة ومنطقة القبائل عام 1957 أدت الى تصفية العشرات من خيرة الثوار بعد زرع تقارير كاذبة تدعي تورطهم في التخابر معه. وتجديداً لهذه الروح، كانت المخابرات والصحافة في فرنسا أول من أطلق السؤال «من يقتل من في الجزائر؟» في أوج الأزمة الأمنية في تسعينيات القرن الماضي لتزرع الشكوك في طبيعة وانتماء وأهداف جرائم التفجيرات الكبرى في المدن والمجازر الجماعية في القرى والبلدات الريفية. وحتى تلك التي تبنتها الجماعات الإسلامية المسلحة في بيانات شاهدها العالم، شكك فيها الفرنسيون، بل وشككوا حتى في مصدر تلك البيانات. «من يقتل من» ليس مجرد سؤال إذاً، هو سلاح يبرئ الجماعات الإرهابية ويؤسس للافكر واللاعقل. حتى صار مدرسة قائمة بذاتها تجده في الصحافة وفي المؤلفات وفي النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي، بل وحتى في خطاب بعض أساتذة الجامعات. وفي خريف 1997 أنتجت المخابرات الفرنسية سلسلة «تحقيقات» نشرتها صحيفة «نوفيل أوبسرفاتور» بقلم الصحافي فانسان جوفير Vincent Jauvert تتحدث عن «قنبلة» عمرها عشرات السنين ظلت خفية داخل جسد السياسة الجزائرية، وكشفت لأول مرة أن «فرنسا واصلت تجاربها الكيماوية سراً في الصحراء الجزائرية إلى غاية عام 1978»، أي سنة وفاة الرئيس بومدين. والمعروف أن كل التجارب النووية والكيماوية الفرنسية في الجزائر توقفت تماماً عام 1966. كما كان مبرمجاً في اتفاقيات الاستقلال التي أعطت للفرنسيين مهلة خمس سنوات لإيجاد بديل من مواقع التجارب والورشات. ما نشرته «نوفيل أوبسرفاتور» تشوبه عيوب مهنية كبيرة، فهو خال من عناصر التحقيق الرئيسية في موضوع تاريخي فلا تضمن عقداً بين الجانبين لهذا النشاط ولا بيانات قديمة جزائرية أو فرنسية ولا وثائق. اعتمد أساساً على تصريحات أدلى بها أصحابها من عسكريين وإداريين فرنسيين في زمن الكتابة والنشر وصور وخريطة الموقع القديم الذي كانت تمارس فيه التجارب خلال فترة الاحتلال والسنوات الخمس التي تلتها. وليس العيب المهني فقط هو الذي يشوب مقالات «نوفيل أوبسرفاتور» بل أيضاً ثمة عيوب سياسية وأمنية؛ أهمها أن «التحقيقات» أفادت بأن التجارب سرية وتجرى بتواطؤ من السلطة العليا للبلد وتقصد الرئيس بومدين، ثم ربطت بغباء بين وقف هذه التجارب وتاريخ وفاته. وهو قصد مفضوح لكسر هيبة الرجل الذي يعتبر حتى الآن في الوجدان الشعبي أهم رؤساء الجزائر لما شهدته البلاد زمانه من شموخ وعزة وإنجازات. ومع وضوح القصور المهني والسياسي في التحقيقات، إلا أن عدداً كبيراً من المثقفين والإعلاميين والعامة ناقشوا الموضوع كحقيقة مطلقة، من دون أن يلجأوا إلى توظيف العقل. فكيف لنظام أمّم كل المصالح الفرنسية الكبرى الاقتصادية والعسكرية وأبعد حتى تأثير اللغة بسن قانون التعريب أن يبقي على مرفق كيماوي تافه يلطخ منجزاته؟ كيف لرجل قاد حرباً ثانية على فرنسا بين 1966 و1971 واستخدم كل الوسائل ووصل الى حد إعدام بساتين العنب التي تنتج خموراً تشكل أكبر مدخول للبلاد من العملة الصعبة، فقط لأن الفرنسيين حاولوا استخدام هذا المنتوج المهم في حرب اقتصادية عقب تأميم النفط والغاز؟ لا حاجة إلى العقل ما دام الإعلام الفرنسي هو الذي قال: فكأنما الوحي نزل وبلغ الرسالة في وضح النهار. وهو النهج الذي تبناه حتى كتّاب يفترض أن يستندوا الى وثائق لا إلى قصاصات صحفية، من بينهم الأستاذ الجامعي والباحث نوفل إبراهيمي المقيم في فرنسا، الذي ردد في أحد كتبه ما نشرته الصحيفة الفرنسية كما لو أنه حقيقة. واستند إليها أيضاً الجنرال رشيد بن يلس وهو أحد كبار العسكريين في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، وقد مدد في مذكراته التي صدرت أخيراً زمن التجارب الكيماوية الى عام 1986، ربما كان لذلك قصد توريط فترة حكم الرئيس بن جديد الذي اختلف معه منذ الانتفاضة العارمة التي عرفتها البلاد في أكتوبر 1988.
لقد تضافرت عوامل وكبرت ككرة الثلج عبر العقود وجعلت الجزائريين عموماً في وضع هش للغاية نتيجة غياب عنصر الثقة بينهم وبين إعلامهم وقيادتهم، حتى صار كل ما يقوله الفرنسيون من مسؤولين وصحافة بشأنهم صادقاً ولو ثبت كذبه، وما يقوله المسؤولون الجزائريون بهتاناً حتى إن ثبت صدقه. وامتدت هذه الحالة لتطال تاريخ ثورة التحرير. فقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي ونشرت الصحف في السنوات الأخيرة تقارير من صنع المخابرات الفرنسية أعدت للرد على مطالبة الجزائريين بالاعتذار عن جرائم الاستعمار، تفيد بأن سلوك الثوار الجزائريين كان همجياً وأنهم كانوا يقتلون الأطفال والنساء ويبيدون قرى بكاملها. هي تقارير تعطي الانطباع بأن ما جرى في الجزائر في خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي مواجهة بين «ظالمين». ويخشى أن تصدر عن فرنسا غداً مقالات وتصريحات تفيد بأن المخابرات الفرنسية هي التي أشعلت الثورة وأن العربي بن المهيدي وديدوش مراد ومحمد بوضياف ومصطفى بن بوالعيد ورابح بيطاط وهم الستة الذين أشرفوا على إشعالها مجرد عملاء لمصالحها ليلتقط الناس «المعلومة» ويحتفظوا بها في الذاكرة لنقلها الى الأجيال في غياب إعلام حقيقي ومحترف في بلدهم. لكن المفارقة العجيبة أن الصحافة الفرنسية عموماً لم يكن لها التأثير في الشارع الجزائري سابقاً، مع أن معظم القراء كانوا يتلقون المعلومة بالفرنسية، وصارت لها مكانة كبيرة اليوم حيث الأغلبية الساحقة من الجزائريين تكوّنوا في مدارس معربة تضخ في شرايين اصطناعية مستوردة من فرنسا.
* كاتب جزائري