أعلنت الإدارة الأميركية اقتطاع ما يزيد على نصف المساعدة المالية التي تمنحها لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى «الأونروا». إعلان الإدارة الاميركية بتقليص منحة «الأونروا» من ١٢٥ مليون دولار إلى ٦٠ مليون دولار، كان قد سبقه تهديد من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب وممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هيلي بوقف الدعم المالي عن الوكالة حتى عودة الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين.
التهديد بقطع المساعدات جاء على أثر إعلان السلطة الفلسطينية وقف المفاوضات مع إسرائيل بعد قرار الرئيس الأميركي في أواخر الشهر الماضي بشأن القدس. وتعد الولايات المتحدة أحد الممولين الرئيسيين للوكالة بحيث تقدم ما يزيد على ثلث ميزانيتها. وتعتبر المساعدات التي تقدمها مصدراً مهماً لتلبية الحد الأدنى لمتطلبات اللاجئين الصحية والغذائية والتعليمية والخدمات الاجتماعية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المساعدات لم تكن يوماً تكفي لحياة كريمة من دون الجهود التي يبذلها اللاجئون أنفسهم في تعليم أبنائهم والعمل الجاد وتدبير ما أمكن للنهوض من نكبتهم الإنسانية والسياسية والاقتصادية.

غدا التوصل إلى حلّ للصراع وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة ضرباً من المستحيل


من الواضح أن تهديدات الإدارة الأميركية تجاه «الأونروا» سياسية، وقد سبقتها جهود حثيثة بذلها الكونغرس الأميركي، منذ سنوات، للتوقف عن تمويل «الأونروا»، وخاصة بعد تعاظم نفوذ اليمين الجمهوري. ولكن من الخطأ أن نعتبر أن هناك فرقاً جوهرياً بين الجمهوريين والديموقراطيين حينما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وفي ما يتعلق بموقف الحزبين من «الأونروا». فالفرق هو بالشكل والأسلوب فقط لا بالهدف، حيث لم يساند الديموقراطيون يوماً حقوق اللاجئين أو حق العودة. بل إن هدف الدول الاستعمارية، منذ نشأة الوكالة في خمسينيات القرن العشرين، كان لغرض توطين اللاجئين في الدول المضيفة من خلال «التشغيل»، ظناً منهم بأنه مع مرور الزمن سيتخلى الفلسطينيون عن أرضهم ووطنهم بعد استيعابهم في اقتصاد الدول المجاورة.
تعددت الآراء في ما يخص دور وتأثير وكالة الغوث على قضية الشعب الفلسطيني، فهناك من ظن بأنها ستمتص الغضب والطاقة الثورية بتوزيع الفتات والخبز على اللاجئين، وبعضهم رأى أن «الأونروا» هي التي أبقت قضية اللاجئين على قيد الحياة. ولكن أثبت التاريخ أن «الأونروا» فشلت في إخماد فتيل الثورة، كما لم ينس اللاجئون حق العودة رغم مرور الزمن. والأهم في هذا الموضوع أن الوكالة ليست هي بحد ذاتها من أوجد أو حافظ على حق العودة أو أبقاه حياً كما يدّعي الإسرائيليون، بل إن اللاجئين أنفسهم هم من حافظوا على هويتهم الوطنية، وحلم حق العودة، وهم الذين احتضنوا ذكريات الأرض ونقلوها إلى الأجيال اللاحقة. هذا الموقف الرافض للتوطين ولاختزال وتهميش القضية على أنها قضية «إنسانية» فقط، هو الذي يدفع الشعب الفلسطيني لكي يذكّر العالم بأن ««الأونروا لا يمكن حلها من دون حل قضيتهم كما تنص القرارات الأممية.
تتبع إسرائيل سياسة اتبعتها قبلها قوى استعمارية متعجرفة تنظر الى الشعوب بفوقية، فتظن أنها إذا ما أرهبت وجوّعت وبطشت، ستجني اليأس والخنوع. تستغل إسرائيل الوضع العربي البائس وموقف السلطة الفلسطينية المهترئ والهزيل لشن هجمة جديدة على «الأونروا» بهدف إضعافها أكثر، حتى إذا ما حانت اللحظة السياسية المناسبة أقدمت عليها بهدف إنهاء قضية اللاجئين، أي حق العودة وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194.
تعلم إسرائيل أن حق العودة هو الأخطر على وجودها، وهو جوهر القضية الوطنية الفلسطينية. جاء قرار الإدارة الأميركية بخفض المساعدة عوضاً عن قطعها بعد مشورة نتنياهو الذي اقترح عدم قطع المساعدات بشكل كامل، بل باتباع سياسة التقليص رويداً رويداً. طبعاً، ليس بدافع الشفقة من الطرف الإسرائيلي، بل لخشية الكيان الصهيوني من ردة الفعل الفلسطينية، وخاصة اللاجئين، إذا ما تم قطع المعونات الأميركية عنهم كلياً. فإسرائيل، كدولة محتلة، تخشى من أن التخلص من «الأونروا» الآن وقبل حل نهائي سياسي، يفرض عليها من الناحية القانونية ملء الفراغ الذي ستخلفه الوكالة في حال حلها.
تخطط إسرائيل لتحويل اللاجئين إلى ولاية المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، طبعاً بعد نزع صفة «اللاجئ» عن كل من لديه جنسية دولة أجنبية. كما تأمل القضاء على فكرة حق العودة «الجماعي» وتحويله الى حق «فردي» يسمح لصاحبه بالتماس اللجوء في أي مكان في العالم، عدا فلسطين المحتلة، على غرار اللاجئين الفارين من بلادهم. وهذا يتوافق مع المخطط الإسرائيلي لفك الارتباط بين حق العودة وحق الشعب الفلسطيني (في الداخل والشتات) في تقرير المصير (وهنا يمكن القول بأن «أوسلو» رسّخت هذا الشرخ)، ويشمل معظم اللاجئين في الأردن والشتات الذين استحصلوا على جنسية دولة اللجوء. أما البقية من اللاجئين، وبحسب المخطط، فستتكفل المفوضية العامة لشؤون اللاجئين بتوطينهم في دول أجنبية، وربما في أحسن الأحوال تسمح للقليل منهم «بالعودة» إلى غزة أو الضفة الغربية.
وإذا ما نظرنا إلى التغيرات في هيكلية وبرامج «الأونروا» في السنوات الأخيرة، لوجدنا تقلبات وتغييرات تشير إلى إضعافها وتلاشي صوتها وتأثيرها على الساحة الدولية. وهذا تجلى في الاهتمام الزائد في الهيكلية البيروقراطية للأونروا ونقل بعض برامجها الى الدول المضيفة أو مؤسسات أخرى، وفي التشديد على مبدأ «الحيادية» بغرض كبح أي تعبير يؤكد على الهوية الوطنية الفلسطينية والحقوق السياسية والقانونية. مثال على ذلك، منع تعليم تاريخ الشعب الفلسطيني منذ 1948 أو تعليق خريطة فلسطين في مدارس ومكاتب «الأونروا».

معونات مُسيّسة

وقفت الولايات المتحدة الأميركية منذ 1948 موقفاً منحازاً تجاه إسرائيل وضد حق عودة اللاجئين في مسار اتبع سياسة التخلص من قضية اللاجئين وتوطينهم في أماكن لجوئهم، في سبيل حل إحدى المعضلات التي تقف أمام إنهاء النضال الوطني الفلسطيني وقضيته العادلة. ساهمت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في أواخر أربعينيات القرن الماضي في تأسيس «الأونروا»، ورأت الولايات المتحدة في تفسيرها لكلمة «تشغيل» الواردة في اسم الأونروا وولايتها، توطين اللاجئين في بلدان اللجوء. وفي موقف مشابه لموقف الولايات المتحدة، أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية البريطانية أثناء مناقشة برلمانية في نيسان/ أبريل 1951 الى المصلحة الكبرى للاجئين في التوطن في البلدان العربية المضيفة. كما تبنت بريطانيا في وقت مبكر الرؤية الأميركية المهيمنة المتمثلة في «التنمية وإعادة التوطين» لحل معضلة اللاجئين. وكان لاختيار جون بلاندفورد الابن، الذي عمل مستشاراً للرئيس هاري ترومان لمشروع «مارشال» لإعادة إعمار أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، ليكون رئيساً للجنة الاستشارية للأونروا وثاني مديري الوكالة في وقت لاحق، مصلحة لتحقيق الرؤية الأميركية تجاه قضية اللاجئين. وخلال فترة إدارته للأونروا، سعى بلاندفورد إلى الدفع باتجاه إقامة مشاريع «التشغيل» على اعتقاد أنها ستكون «النقيض لحياة المخيمات والبطالة» على حد زعمه. غير أن خطط الإدماج عن طريق «المشاريع الريادية» الواسعة النطاق، ولاحقاً المشاريع الصغيرة، مُنيت بالفشل، إذ لم يكن اللاجئون ولا البلدان العربية المضيفة في ذلك الوقت على استعداد للتنازل عن حق الفلسطينيين في العودة.

الإنساني والسياسي

تضطلع «الأونروا» بدور سياسي كبير إلى جانب دورها الإنساني، وهي متورطة في السياسة الدولية والإقليمية رغم المبادئ والقرارات المعلنة التي تنص على الحيادية. ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أن المنظمات الإنسانية في معظمها لا تستطيع «النأي بالنفس» حتى لو أرادت ذلك، وتاريخ المفوضية شاهد على هذا وخاصة خلال الحرب الباردة عندما كانت معظم المساعدات توزع على الهاربين أو المعادين للشيوعية. فالدول التي تمول هذه المنظمات تضع أهدافها وشروطها السياسية، وبالتالي يصعب على المنظمات الإنسانية والخيرية أن تتصرف باستقلالية أو حيادية. وظهر تدخّل وكالة الغوث السياسي أحياناً في تصريحات بعض مسؤوليها، والذي أعلن البعض منهم على الملأ موقفهم الموالي لإسرائيل ومعارضتهم لحملات المقاومة الفلسطينية السلمية، في حين انتقد موظفون آخرون سياسات إسرائيل. ويمكن القول: للأونروا أوجه مختلفة، بحيث تؤثر دول ومؤسسات ومكونات مختلفة على الوكالة، في حين تتقاطع أو تتضارب في أجنداتها ومصالحها، بمن فيهم اللاجئون أنفسهم، واللاجئون الموظفون لدى المنظمة، ومنظمة التحرير الفلسطينية/ السلطة الفلسطينية أو حماس، والدول المانحة، والدول العربية المضيفة، وإسرائيل. ومصلحة إسرائيل كانت دوماً في السعي الى توظيف الأونروا لتوطين اللاجئين. ولكن عندما فشلت في تحقيق هذا، بدأت بالتهجم عليها واتهامها في مناسبات عده بالتورط في «الإرهاب».
كل واحد من هؤلاء الفاعلين يسعى إلى جذب الوكالة باتجاه معين وإسناد معانٍ ووظائف معينة لها. وعلى هذا النحو، مثلاً، تبنّت القوى الغربية (وكثير منها من المانحين الرئيسيين لوكالة الأونروا) عموماً الموقف الإسرائيلي إزاء قضية اللاجئين. وعلى النقيض، يعتبر اللاجئون الفلسطينيون، بمن فيهم الواقعون ضمن ولاية «الأونروا»، حقوقهم القانونية والسياسية حقوقاً لا تقبل التفاوض. وهو ما يبين التناقض الطبيعي بين مصالح اللاجئين ومصالح القوى الغربية داخل الوكالة. فبالنسبة إلى الأونروا الرسمية والمؤسساتية، التاريخ يبدأ بعد عام 1948، أي بعدما أصبح الفلسطينيون «لاجئين». أما بالنسبة إلى اللاجئين فتاريخهم يبدأ قبل عام 1948 وهم فلسطينيون قبل أن يكونوا لاجئين. فالأولى هويتهم، والثانية أي «لاجئون» تصنيف قانوني دولي. وقد أسفر إعلان المبادئ واتفاقات أوسلو عن إقصاء لاجئي نكبة عام 1948 لأن الإطار الأميركي ـــ الإسرائيلي الذي ارتكزت عليه هذه الاتفاقات لم يكن قائماً على القانون الدولي، فضلاً عن أنه تجاهل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194. كما كشف برنامج إقرار السلام أن وكالة «الأونروا» ليست في منأى عن الوسط السياسي، وإنما متورطة للغاية في الترتيبات السياسية المحلية والدولية المتغيرة. فالتأييد العلني الذي أبدته «الأونروا» آنذاك لمفاوضات أوسلو السياسية وخططها الهادفة إلى «حل» نفسها، والتي انعكست وتراجعت عنها فقط بسبب فشل اتفاقات أوسلو فشلاً ذريعاً، والخطوات التي اتخذتها لمساعدة السلطة الفلسطينية في بناء مؤسسات «الدولة»، قبل حل مشكلة اللاجئين، كشف مرة أخرى عن الصلات المعقدة بين المجالين الإنساني والسياسي. تواصل «الأونروا» منذ تأسيسها تقديم المساعدات والإغاثة للاجئين، وبعدما غدا التوصل إلى حل للصراع وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ضرباً من المستحيل جراء استمرار إسرائيل في توسعها الاستعماري ببناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية والقدس الشرقية بوتيرة لا هوادة فيها، وتدمير الاقتصاد في غزة بفرض حصار غير قانوني وعمليات القصف المتكررة، وتمزيق الأرض الفلسطينية بجدارٍ فصلٍ يبتلع في طياته وثناياه مزيداً من الأراضي، وانتشار مئات نقاط التفتيش المعيقة للحركة والتنقل، ووجود شبكة طرق مخصصة لليهود فقط، وتزايد القوانين والأنظمة التي تستحيل معها الحياة اليومية الفلسطينية بشكل طبيعي. هذا الجهاز القمعي يزيد من اعتماد اللاجئين على المساعدات الهزيلة التي تقدمها الأونروا، ويحمل في الوقت نفسه المزيدَ من الفلسطينيين على اللجوء والتشرد داخلياً، ولكن أيضاً يزيد من إصرار الشعب الفلسطيني على المقاومة.

محاولات التصفية

تقليص المساعدات من قبل الولايات المتحدة الأميركية سينعكس على الخدمات التي تقدمها «الأونروا» وعلى مدى استجابتها للمتطلبات الأساسية للاجئين ونداءات الطوارئ التي تستنفد أحياناً ما يفوق قدرتها على التحمل. هذا التقليص سيفاقم أيضاً من أعباء واستقرار الدول المضيفة للاجئين كالأردن ولبنان، في حين سيهدد بأوضاع كارثية على قطاع غزة المحاصر، والذي بحسب تقارير الأمم المتحدة أصبح مكاناً «غير صالح للعيش». إلا أن وجود «الأونروا» في المناخ السياسي الراهن هو أمر جوهري، وهو مؤشر يدل على المسؤولية الدولية تجاه اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة. لقد تعايشت الوكالة مع اللاجئين لما يقارب من سبعة عقود، وهي حاضنةٌ لذاكرتهم وتحتفظ بآلاف الوثائق التي تشهد على فاجعة الفلسطينيين التاريخية، وينظر اللاجئون الى الأونروا على اعتبار أنها رمز لحقوقهم، ومصدر رزق للكثيرين من بين أفقرهم. ينبغي للفلسطينيين حماية هذا التراث كي لا تختطف الوكالة، هويتها ومهمتها، على يد مَن تسبب بالأساس في لجوئهم وتشردهم. إن قرار الإدارة الأميركية هو بمثابة عقاب للاجئين لتمسكهم بثوابتهم وحقوقهم الوطنية، وعلى المجتمع الدولي والدول المانحة التحرك وتحمل المسؤولية وإنقاذ «الأونروا» وخمسة ملايين لاجئ وأكثر من كارثة إنسانية محتملة. وقد أثبت الشعب الفلسطيني في كل مراحل نضاله أنه لن يستسلم للمؤامرات الدولية ولا للبطش الإسرائيلي، ولن يتخلى عن حق العودة التي كانت وستظل المسألة المركزية في حركه التحرر الوطني الفلسطيني.
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. إن تاريخ الشعوب يشهد على أن الكرامة والحرية والعدل تقهر الجوع والاستعمار. ألم تقف فتاة صغيرة اسمها عهد مرفوعة الرأس أمام جندي إسرائيلي مختبئ وراء أسلحته الفتاكة فصفعته صفعة العصر! بغض النظر عما سيكون عليه مصير الوكالة، لا خوف على شعب زال من عيون أطفاله لون الخوف.
* محلّلة سياساتية في «الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية»، وأستاذة مشاركة في جامعة ويسترن أونتاريو ــ كندا