شكّل دخول حزب الله إلى سوريا جدلاً لبنانياً واسعاً على خلفية خرق الحزب لمفهوم السيادة الذي يُعتبر واحداً من الأركان الأساسية لقيام الدولة المعاصرة، إلى جانب الركنين الآخرَين الشعب والأرض. فبهذه الأركان الثلاثة تقوم الدولة حائزة على الشروط القانونية والشخصية الاعتبارية التي تُمكّنها من ممارسة مهامها السلطوية بالارتكاز إلى فكرة «أصالة الدولة» وفردانيتها ومحوريتها وحصريتها في «إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال».
بمعنى آخر، فإنّ أصالة الدولة تعني أن لا أصالة لحزب أو طائفة أو أي جماعة في قبال الدولة. الدولة هي صاحبة السلطة العليا المهيمنة على العلاقات الداخلية والخارجية، والقوة المطلقة التي لا تنافسها عليها ولا تتساوى معها أي قوة أخرى.
مؤيدو هذا المفهوم من اللبنانيين يؤكدون على وجود رابط سببي بين ظهور الدولة ونشوئها ومبدأ السيادة المطلقة. الدولة بحسب هؤلاء، هي الإله الكلي بتعاليه، السامي بأفعاله، وبذلك فهي لا تعترف بأي وضع وجودي مستقل للجماعات الملّية والكيانات السياسية، ولا تسمح بأي تصرّف من أي جهة يخلّ بحقوقها المتأصلة في طبيعتها، أو يقلّص مساحة هيمنتها ونفوذها على أراضيها وشعبها، الأمر الذي يضعها في حالة حرب مع كل مكوّن وجماعة تعتزم الاستقلال بمشاريعها وأعمالها وتطلعاتها.
هذا المفهوم الكلاسيكي الجامد المتزمّت هو ما تتمسك به نخبة لبنانية عارضت حالة حزب الله العسكرية سواء في مواجهة «إسرائيل» أو ضد أي جماعة مصنّفة من قبل الدولة بوصفها جماعة إرهابية، فضلاً عن رفضها المطلق تدّخل الحزب في سوريا، فعندما لا تستطيع الدولة اللبنانية أن تحصر السلاح بأجهزتها العسكرية، ولا تقدر على احتكار العنف لنفسها، ولا تملك أن تبسط سلطتها على جميع أراضيها وتضبط الحدود فذلك مؤشر على هشاشتها ويمثّل تهديداً خطيراً على وجودها. صحيح أنّ تلك المقومات السيادية قد لا تتوافر جميعها بنفس النسبة ولكن حزب الله يمسٌّ بالقواعد الناظمة لعمل الأحزاب من خلال تعدّيه على وظائف الدولة وأدوارها. فحين «يعلن الحرب على إسرائيل ساعة يشاء، ويخترق الحدود السورية اللبنانية كما لو أنها غير موجودة»، فهذا لا شكّ يعكس اختلالاً في طبيعة التوازنات الداخلية، وافتقاداً لسلطة عليا قادرة على السيطرة على الفاعلين المحليين خاصة إذا ما توافقت أهدافهم مع أهداف دول خارجية!
وفي مقاربة هذه الإشكالية لا بد من الإشارة إلى أنّ مفهوم السيادة قد طرأت عليه تبدلات فلسفية وتاريخية عميقة، فلم تعد الصورة المطبوعة في الأذهان والذاكرات عن السيادة الشاملة للدولة القومية الأولى مع نهايات القرن السادس عشر محققة على نحو تام لدى الدول المعاصرة، ولا شك أنّ لهذا التغير من الوضعية القديمة إلى الوضعية الحديثة له علاقة قوية بما تمّ الاصطلاح عليه بـــ«الدولة الفاشلة» التي تعاني من سوء توزيع الثروة والفساد والفقر والمحسوبية وهبوط قيمة العملة والبطالة وتدني الخدمات الصحية والتربوية وغياب حكم القانون وترهل القضاء وتسلط النخبة الحاكمة والنزاعات الطائفية وغيرها من المؤشرات التي وضعتها بعض المؤسسات العلمية مقياساً على «فشل الدولة» وتقلّص سيادتها، ولكن السبب الأكبر في تغيّر مفهوم السيادة مرتبط بدرجة أساسية بقيم العولمة وما أنتجته من علاقات وتفاعلات وتناقضات في طبيعة النظام الدولي وأنساقه القديمة. وجعل الدول سواء عبر معاهدات وأحلاف تعاونية فيما بينها، أو عند الانضمام إلى هيئات دولية، أو بسبب الانفجار التكنولوجي الكبير، تفقد ميزتها في السيادة المطلقة سواء ما يرتبط بعلاقاتها الداخلية أو الخارجية. فالأمر حينئذٍ لم يعد قصوراً في الكفايات لدى الدول بل إنّ نفس منظور «السيادة» بدأ يواجه مأزقاً بفعل التطورات المفرطة في مدياتها داخل المجتمعات البشرية وبين الدول. وعليه، باتت حركة الدول وأنشطتها محكومة لقيود محلية وأخرى خارجية فائقة التعقيد، وهذا ما حدّ من مساحة السيادة وأحجامها، ووضع الدول في مواجهة أشكال متعددة من التدخلات الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية لا يمكن ضبطها أو تقدير ردود الفعل إزاءها!

التحولات التي شهدها العالم دفعت الدول
إلى إعادة تعريف
جديد للسيادة


مع ذلك فإنّ الاختبار العملي للدول، كوحدات سياسية، ليس في ما إذا كان المواطنون يدينون بالولاء لها أم لا؟ وهل ما زالت قادرة على تأمين حاجاتهم من السلع الثقافية والاجتماعية وتوفير الأمن والقانون والنظام وبقية الخدمات الأخرى؟ بل في كيفية التعامل مع قدر كبير من التحدّيات السياديّة في عالم شديد الفوضوية والتبدل، وطريقة الاستجابة للمشكلات والأزمات الطارئة التي تحتاج إلى ابتكارات وتوفيقات والتزامات وأحياناً مجازفات لمواجهة تهديد حاضر أو محتمل. لذلك تلجأ الدول اليوم، إلى فكرة التأقلم والتكيّف والمرونة استجابة للتغيّرات في البيئة الدولية في سبيل مواجهة المخاطر الهائلة التي تسبب الاضطراب والانكشاف والتقلب والهشاشة. فالدولة التي تملك إمكانيات واسعة لتطوير آليات عملها التي منها قيام قوى مجتمعية بسد الفراغات، أو التي تبتكر مخرجات إبداعية، ستكون أقدر على امتصاص واستيعاب الصدمات والآثار السلبية للأزمات، والوفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية لتدعيم الدولة وحماية وصمود المجتمع واستقراره. على هذا الأساس إنّ فهم ما طرأ على هوية النظام الدولي القديم وعلاقاته وأنساقه وتوازناته يكتسب أهمية قصوى في تحليل سياقات وقواعد وقوانين وفواعل النظام الجديد الذي من سماته أيضاً صعود القوى غير الدولتية التي كان لها إسهامات فعّالة في بناء المناعة الوطنية للدول في المنطقة وإجهاض الفتن وصد الاعتداءات الخارجية. ولبنان، هو واحد من هذه البلدان الذي خضع لضغوط مستمرة من قبل دول ومنظمات وعلاقات مهيمنة، ولم يكن بإمكانه أن ينأى عن نفسه عن ديناميات الصراعات الإقليمية ولا تحجيم انعكاسها على الاستقرار الداخلي، خصوصاً الحرب التي دارت في سوريا، بالاستناد فقط إلى مبدأ السيادة التقليدي الذي يطلب من أجهزة الدولة العسكرية وحدها القيام بمهمة الدفاع ومواجهة الحركات الإرهابية. وبمعزل عن عجز الدولة اللبنانية عن تقديم خيارات وبدائل حمائية ووقائية فعّالة، فإنّ التحولات التي شهدتها المنطقة وأثّرت على البيئة اللبنانية تتجاوز قدرة الدولة ومؤسساتها على حشد الإمكانيات العسكرية والسياسية لضبط حالة الاضطراب والاحتراب والسيولة والفوضى التي ضربت المنطقة والتي يقول عنها ريتشارد هاس الرئيس الأسبق لمجلس العلاقات الخارجية في وزارة الخارجية الأميركية: «في عالَم الفوضى، يقف الشرق الأوسط منفرداً. فالآن، تَنحَلّ خيوط نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى في قسم كبير من المنطقة». فكان تدّخل حزب الله في سوريا هو لسدّ فراغات القوة التي برزت مع تفكك النظام الإقليمي وضمور قوة الحليف السوري الذي كان يُشكّل حلقة أساسية من حلقات الدعم والإسناد والاستقرار للبنان والمقاومة. صحيح أنّ بنية الدولة تُقاس بمدى وجود تماثل وتقارب وتعاون وتكامل في السياسات بين القوى غير الدولتية والدولة نفسها، وفي الحالة التي ندرسها بين حزب الله والدولة اللبنانية، وهذا ما لم يحصل إلا في معركتي جرود عرسال والقلمون بسبب وجود مسلحي جبهة النصرة وتنظيم داعش الإرهابيين على الحدود وداخل الأراضي اللبنانية، وتوفر الظروف الموضوعية، ووعي صنّاع القرار في لبنان لا سيما رئيس الجمهورية لأهمية المحيط الخارجي على الأمن والاستقرار في الداخل، ولكن هذا السياق الجديد غير المعهود وبفعل التعقيد العالي في الارتباطات بين القوى المحلية والخارجية، قد يبدو متعارضاً مع سيادة الدولة نفسها واستقلاليتها الخاصة، وعدم وجود تناسب بين وقائع التعاون والتشارك المتبادل بين الحزب والدولة والمسؤوليات التي ما تزال مع ذلك ملقاة على كاهل الدولة وحدها دون غيرها.
إنّ التحولات السريعة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة دفعت الدول إلى إعادة تعريف جديد للسيادة، فهذا المفهوم الذي تعرض لكثير من الالتفاف على قيمه وحدوده بدوافع منها الإيجابي ومنها السلبي، ما عاد بالإمكان التعامل معه وفق صيغة نهائية ناجزة خصوصاً مع وجود محركات للتغيير تؤثر بصورة جذرية ومستمرة على السياسة والجغرافية والثقافة... ويعني ذلك أنّ تحقيق الدول لمصالحها يفترض تدابير وطنية على قدر كبير من التنوع والمرونة وطرح رؤى جديدة لتجسير الهوة بين النظرية التي هي في الأساس غير ناجزة والواقع المتحرك. وفي لبنان يجب أن تقرّ النخبة المتمسكة بمبدأ سيادة الدولة المهيمنة على كل شيء، أنّ هذا المبدأ ليس مبدأً فوقياً لا يخضع لإجراءات التعديل والتطويع والتكييف، وإنما مفهوم معياري يعكس رؤية شعب يسعى في المقام الأول للحفاظ على وجوده، وتعزيز مصالحه المتعلقة بالأمن والاستقرار والانتظام العام، وهذا يتطلب أحياناً هوامش وتوافقات على إدارة استخدام العنف في ظروف محددة، وسياقات خاصة في توظيف القوة عبر فاعل محليّ تغدو معه ممارسة القوة ورقة رابحة أقل كلفة وتعقيداً فيما لو كانت الدولة ذاتها هي من تلجأ إليها. وبإزاء التحديات الراهنة التي يعيشها لبنان وتعقد القضايا داخله ومن حوله فإنّ قدرة السلطة اللبنانية على استعمال سيادتها تدنت بشكل كبير، وإمكانيتها للتدخل لضبط التفاعلات الداخلية أو الحد من آثار الأزمة السورية مع التشقق الذي طال معظم طبقات النظام الإقليمي كانت ستكون معدومة لو لم يشارك حزب الله ويصنع المعادلات ويتخذ الخطوات المساندة لها. ولا شك أنّ أهم ما يمكن الاستفادة منه من خلال التجربة السورية هي في استخدام استراتيجية مرنة من قبل المسؤولين في السلطة وتطوير قدرات ومهارات تواصلية وتشاركية مع قوى المجتمع وعلى رأسها حزب الله لضمان مصلحة شعب يواجه بشتى أنواع التهديد السياسي والعسكري والهوياتي! وليكن التعاون بين السلطة والقوى المحلية الفاعلة بنيوياً مؤسسياً لمواجهة التنوع الكبير في الضغوط والمصالح الداخلية والخارجية. فهل ينجح اللبنانيون قبل النقاش الذي لا طائل له في الظروف الراهنة حول حصرية السلاح، وحول السلطة التي تعاني من نقصٍ في سيادتها جراء ذلك، بتحويل الجهد الحقيقي للبحث في عملية إدارة السلاح نحو العدو المشترك. فكما تتعاون الدول فيما بينها وتنسّق جهودها لتحقيق أهداف ومصالح مشتركة، يجب على السلطة اللبنانية أن تلتفت إلى الداخل وليكون الاعتماد المتبادل بينها وبين القوى المحلية ضمن وجهة نظر رشيدة مستنيرة ولو تمّ التوسع في القوانين وكسر التقاليد، فليس هناك وصفة ناجزة لمواجهة التهديدات سوى القوة المتمحضة بالحق إلى أبعد مدى!
* أستاذ جامعي