ليس هنالك في الإعلام الحديث ما يخلصه من الاعتماد على المثال لشرح القضايا الكبرى. قد يعتمد على الطفلة الفلسطينية البطلة، عهد التميمي، كي يوصل رسالة مفادها أن هذا الشعب لا يزال ينجب المزيد من المقاومين، والأطفال الذين يرضعون فكرها، ويتعرضون لإجرام المحتل في الاعتقال وغيره. مسؤولية الإعلام تقع في حيز تغطية المثال، وتقديم الشروحات التي تذكّر الجمهور بعمومية الظاهرة.
مسؤولية الجمهور تكمن في استيعاب المثال كظاهرة حية، جماعية، ويومية. فقصة عهد التميمي هي قصة أطفال فلسطينيين كثر، وقصة الاعتقال هي حدث يومي في حياة الشعب الفلسطيني. أن تحيا ظاهرة، وتتفاعل كيمياء جسدك معها يختلف عن أن تحيا المثال، كقصة لها بداية، ولها نهاية، ومع نهايتها يضمحل الشعور بالظاهرة الأوسع. يخطئ الإعلام كثيراً عندما يعجز عن عرض الأمثلة بشكل مستمر، وينتظر حدثاً مدوياً كي يتمكن من خلاله التعبير عن المأساة الكبرى، والمقاومة الكبرى أيضاً. مهمة الانتقاء العشوائي في فلسطين، تحديداً، ليست مهمة صعبة. لو ركزنا جيداً لأمكن – كل يوم – أن نلتقط مثالاً لطفل مقاوم، أو معتقل جديد، أو شاب يخطط لعملية مقاومة ضد المحتل، أو مجموعة تقضي ليلاً طويلاً تتشاور في آليات تشكيل تنظيم جديد. هذا هو نمط عيش الفلسطيني، والمثال يخرج منه، وليس العكس.
الاستثناء واحتكار المثال سلطة معنوية تؤجج عواطف قوية ولكنها خاطفة. تراكم الأمثلة والتذكير بالعام، وحده يبقي الشعور المطلوب بالقلق والحنق مستمراً!
في أواخر الصيف الماضي، اعتقلت سلطات الاحتلال طارق مطر، شاب فلسطيني يعمل مدرساً في إحدى المدارس. تدهم قوات الاحتلال بيته، فلا يجدونه، ويتصلون به للمجيء، فيغلق هاتفه لمدة يوم واحد، يقضي فيها المتطلبات اللازمة لدخول السجن، يراجع الأطباء، يحظى بمزيد من الوقت مع أصدقائه ورفاقه، ومن ثم يسلم نفسه.
تلقيت منه اتصالاً هاتفياً خاطفاً من سجنه في النقب، فيسأل: «هل ثمة جهود لتطوير موقع إلكتروني للشباب العرب؟». فأجيبه «لا تكترث الآن، كيف حالك أنت؟». فيجيب «لا بأس، أتأمل بما يكفي، وأحاول الحفاظ على لياقتي البدنية، وأقرأ قدر الإمكان».
كم كنا نُعجب بمحاولات دوبريه لتلطيف حالة السجن، ولكنْ ثمة نموذج لشاب عربي على مقربة منا، لم يحتج إلى تشويه العالم الخارجي كي يصمد في العالم الداخلي (السجن)، بل تمكن من الحفاظ على ذهن معافى في ما يخص العالمين معاً. من منا سيكتب ذلك؟
بعد شهور من اعتقاله، استقبلنا زميله فارس الشوملي في الأردن، وحدثنا عن تجربة الشباب الفلسطيني في المقاومة؛ اختتم حديثه بعنوان عريض تأتلف المجموعة عليه: ما يجمعنا هو أن العمل المقاوم هو الأولوية الأولى. أي أن الكفاح أهم من فرصة عمل ذهبية أو فرصة استثمار تدرّ المزيد من الدخل، وأهم من كل أوهام الخلاص الفردي، ولذلك هو أحياناً أهم من حليب أولادك. تعابير فارس اكتنزت سياسة عمل المجموعة، فهي لا تعرف لوناً واحداً للمواجهة، هي مستعدة لكل شيء، ولا تضع رأسها مجاناً بين فكي الذئب. مجموعة تنخرط في التوعية والثقافة والعمل اليومي المباشر، والندوات والمحاضرات والاعتصامات، والعمل الزراعي المنتج، وصولاً إلى المواجهة المباشرة. مجموعة تُغرق فضاءات الـ«podcast»، والتقارير المصورة، والمقالات الفكرية الطويلة، والتحريض الدائم لأبناء شعبها على الفعل المقاوم المباشر.
قد تعاني سنغافورة أو هونغ كونغ من العثور على أيقونة وطنية أو جامعة، حيث تحمل المركبات والقطارات السريعة في الصباح جيوشاً من الموظفين إلى أماكن عملهم وتعيدهم في المساء إلى بيوتهم، في انتظار فجر اليوم الذي يليه. أما في فلسطين، فالحال مختلفة، والانتقاء العشوائي للمثال مهمة ممكنة. من البطلة عهد إلى أحمد جرار، طارق وفارس وآخرين لا نعرفهم، ثمة معتقلون ومطاردون جدد، وثمة مقاومون جدد دائماً.
* كاتب أردني