(أبو عماد)أثار إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمة للكيان الصهيوني، منقضّاً بذلك على عقود طويلة من السياسة الخارجية الأميركية ومنقلباً على التوافق الأميركي الأوروبي حول التسوية القائمة على «حل الدولتين»، غضباً في الشارع العربي والعواصم الإسلامية ومدن أوروبية كثيرة. شكّل الإعلان ضربة قاسية لمشروع التسوية والمفاوضات، وأثبت عقم الرهان على الإدارة الأميركية وعلى مشروع التسوية الذي تبنته دول ما سمي الاعتدال العربي.

مع ذلك، تبدو الحركة الإسلامية الغائب الأكبر عن الاستفادة من هذا التحوّل الجيواستراتيجي لإعادة إنتاج خطاب يعيد إليها بعض الحضور الذي خسرته في المدة الماضية، وتحديداً منذ اندلاع الثورات في العالم العربي مطلع عام 2011. ورغم أن القضية الفلسطينية أثبتت، مرة جديدة، قدرتها على استنهاض الشارع العربي والإسلامي، ورغم ما يشكله قرار ترامب من إتاحة فرصة للانقضاض على سياسات التسوية والتطبيع والمزيد من ارتماء أنظمة بكاملها في الحضن الأميركي بالكامل، فإن دور الحركة الإسلامية في الوطن العربي ظلّ غائباً.
راهنت الإدارة الأميركية، منذ البداية، على أن ثورات الغضب في الشارع لن تلبث أن تتلاشى، وهو ما عبرت عنه مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، بقولها هازئة إنها «توقعت أن تسقط السماء، ولكنها لا تزال في مكانها». وفي حين يرى البعض أنه من الطبيعي أن تتلاشى مظاهرات الغضب، لأنها لا تعدو كونها مظاهر انفعالية من شأنها أن تخبو، عاجلاً أم آجلاً، فإن ذلك هو نصف الحقيقة، خاصة أن المظاهرات بذاتها أشبه بردود الفعل التي تثبت أن الجسد العربي والإسلامي لا يزال حياً. وتحويل ردود الفعل إلى فعل حقيقي على مستوى التحدي يستلزم خطة واستراتيجية، لا تضعها الشعوب، وإنما تتبناها. في هذه النقطة بالذات، فشلت الحركة الإسلامية مجدداً في تعبئة الفراغ الحيوي.
إن دلّ ذلك على شيء، فإنه يدل على أن الحركة الإسلامية عامة لا تزال تعاني أزماتها التقليدية نفسها، تلك الأزمات التي حملتها منذ حقبة السبعينيات، والتي حكمت رؤيتها وسلوكها السياسي، ولا سيما استنزافها في الصراع الداخلي، ومعضلة السلطة وترتيب الأولويات، وغياب الطرح الاجتماعي النهضوي في خطاب الحركة الإسلامية.
في بداية الصراع ضد المشروع الصهيوني في فلسطين، وتحديداً في الثلاثينيات، لم يكن ثمّة نزاع بين ما هو وطني وما هو ديني؛ تلك مفاهيم تمّ ترسيخها لاحقاً عبر مرحلة من التغريب نتيجة الاستعمار. والدليل على ذلك أن قادة الحركة «الوطنية» الأوائل كانوا من أمثال الشيخ الشهيد عز الدين القسام، ومفتي القدس الشيخ عبد القادر الحسيني، وغيرهما الكثير. بعد نكبة عام 1948، وقيام الدول القطرية في منطقتنا، كإحدى إفرازات سايكس ــ بيكو، ونتيجة التأثر بالهجمة الغربية، بدأ الحديث يدور حول مفاهيم ليست من نتاج واقعنا ولا هي من تاريخنا، مثل: القومية والعلمانية والليبرالية، التي اتصفت بها مرحلة الحرب الباردة في منطقتنا. وفي تلك الحقبة، أغرقت الحركة الإسلامية في صراعات داخلية استنزفت قواها وسيطرت على خطابها وتنظيرها السياسي.
لاحقاً، أدّت هزيمة عام 1967 إلى زعزعة الثقة بالفكرة القومية، وشهد مطلع الثمانينيات، ولا سيما مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، موجة من الصحوة الإسلامية. ورغم الهزيمة، استخدمت الأنظمة الحاكمة أسلوباً بوليسياً أمنياً لإحكام سيطرتها على السلطة وتصفية المعارضين وإبعادهم، ولا سيما ضد الحركة الإسلامية التي ردّت على العنف بعنف مماثل، ورفعت شعار إسقاط الأنظمة. بعبارة أخرى: بات الخطاب السياسي للحركة الإسلامية في المنطقة العربية يتمحور حول السلطة نفسها.
اتصفت تلك المرحلة بالصدام بين أجنحة الحركة الإسلامية الصاعدة والأنظمة الحاكمة في الدول القطرية، وكانت الفكرة المركزية لدى الحركة الإسلامية هي «إقامة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة». وباتت أولوية الحركة الإسلامية إقامة نظام سياسي إسلامي جامع للأمة يمرّ عبر إسقاط الأنظمة القائمة؛ بهذا المعنى، لم تكن قضية فلسطين على رأس أولوياتها رغم العداء الذي تكنّه للكيان الصهيوني. وبذلك تمّ تهميش قضية تحرير فلسطين، أو تأجيلها إلى ما بعد إقامة النظام السياسي الإسلامي الجامع.
مبكراً جداً، أدرك مؤسس حركة «الجهاد الإسلامي» وأمينها العام الأول، الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، مأزق الحركة الإسلامية، فرفع شعار مركزية فلسطين للحركة الإسلامية، مركزاً على ثلاثية: الإسلام وفلسطين والجهاد، ورافضاً للصراع بين الإسلام والوطنية، أو الإسلام والقومية. ثم في التسعينيات، وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نجحت قوى المقاومة في إحراز انتصارات على المشروع الصهيوني، لأسباب عدة لعل أبرزها: رفع شعار تحرير فلسطين، والتقارب بين التيارين الإسلامي والقومي، والابتعاد عن الصراع مع الأنظمة القائمة حول السلطة. وشهدت تلك المدة استقراراً سياسياً، وتراجعاً في حدّة الخلاف على السلطة، ما سمح للحركة الإسلامية بإعادة قراءة علاقاتها وتجاربها السابقة، بعيداً عن الانفعال. نتيجة لذلك، شهدت العديد من الدول استقراراً سياسياً، ولا سيما مصر، وسوريا؛ وعاش العدو الصهيوني مرحلة عصيبة في مواجهة تحدٍّ وجودي فرضته عليه انتصارات المقاومة.
مع تفجّر الثورات العربية عام 2010، وابتداء من 2011، أعادت الولايات المتحدة خلط الأوراق في المنطقة، عبر استغلال جماعات إسلامية مسلحة لزعزعة استقرار المنطقة التي بدا أنها تتمرد على الهيمنة الأميركية والغربية بهدف الالتفاف على الثورات، ما فتح الباب أمام إعادة توريط بعض أجنحة الحركة الإسلامية في الصراع على السلطة. ثم مثلت «داعش» الجانب الأكثر سواداً في المخطط الغربي ــ الصهيوني لتشويه الإسلام في العالم، وتخويف المسلمين أنفسهم من الحكم الإسلامي، ولزعزعة الثقة بالأصول الحضارية للتجربة الإسلامية، نظراً إلى اعتماد داعش على أسوأ ما في الموروث التاريخي وتشويهه.
كذلك، تؤكد تجربة جماعة «الإخوان المسلمون» في مصر أن الإدارة الأميركية تدرك جيداً نقطة الضعف التي تعاني منها الحركات الإسلامية عموماً، وهي السلطة. وبهذا، باتت الحركة الإسلامية، في نظر العالم ولدى فئات واسعة من الشعوب الإسلامية، إما جماعة فاشلة لا تملك المشاريع والمخططات ولا تحسن القيادة السياسية (تجربة «الإخوان»)، وإما حركة دموية عنيفة تستخدم العنف باسم الدين لإكراه الناس (داعش).
في فلسطين نفسها، وقعت حركة «حماس» في فخ السلطة، من بوابة الانتخابات عام 2006. وأخيراً، بدا واضحاً المأزق الذي عاشته الحركة بين كونها حركة تحرر وطني بخلفية إسلامية، أو كونها جزءاً من جماعة «الإخوان»، قبل أن تجبرها التطورات المتلاحقة، ولا سيما بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، على حسم خياراتها.
كل هذه التطورات أدت إلى نتائج سلبية كثيرة أبرزها: بروز خطاب مذهبي، وتوتر في العلاقة بين التيارين الإسلامي والقومي، وغياب استراتيجية واضحة على مستوى الحركات التحررية للأمة بشقيها القومي والإسلامي. وحدها قوى المقاومة استطاعت أن تحافظ على شيء من استقرارها وثباتها، وإن بدت معزولة عن محيطها. ثم أدى ذلك كله، في سياق المخطط الأميركي الذي اشتركت فيه دول عربية، إلى تهميش قضية فلسطين سياسياً وإعلامياً، ما سمح لإدارة ترامب بإعلان قراره حول القدس، وما تخطط له لتصفية القضية الفلسطينية ضمن ما يسمى صفقة القرن، مستفيدة من الفوضى التي زرعتها الإدارات السابقة في المنطقة.
رغم هذه الإخفاقات التي منيت بها الحركة الإسلامية، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، فإن الرهان لا يزال معقوداً عليها لسبب رئيسي هو أنها تستمد حضورها وشرعيتها من هوية الأمة وحضارتها وجذورها الضاربة في التاريخ، مقابل الخطاب الرسمي الذي يتبنى مشاريع التغريب والتطبيع والانهزام والاستسلام. مع ذلك، وكما سلف القول، لم تستطع الحركة الإسلامية تلبية الحاجة الملحة لخطاب إسلامي بديل يملأ الفراغ في الشارع العربي والإسلامي.
الصورة المشوهة التي يسعى الغرب إلى ترسيخها عن الإسلام والحركات الإسلامية، ولا سيما حركات المقاومة، هي نتيجة لأزمات خطاب الحركة الإسلامية وليست سبباً لهذه الأزمات. والأزمة في عمقها سببها افتقار الخطاب الإسلامي إلى بعد اجتماعي تنموي يحقق نهضة فعلية وحقيقية، ويلبي تطلعات جماهير الأمة في محاربة الفقر والتحرر من التبعية الاقتصادية للغرب وشركاته التي تنهب ثروات الشعوب، على أساس إقامة اقتصاد شعبي مقاوم وعلى أسس الثقافة والقيم الإسلامية ذاتها.
بعبارة أخرى: أمام الحركة الإسلامية مهمة مزدوجة اليوم: الأولى هي السعي لتجاوز أزماتها الفكرية والسياسية، وفي مقدمة ذلك، إيجاد حلول لمسألة الصراع على السلطة، وضرورة احتواء الخطاب المذهبي، وترسيخ أولوية القضية الفلسطينية في خطابها كأولوية قصوى، وإعادة التقارب مع التيار القومي على استراتيجية واضحة. أما الثانية، فهي حاجة الحركة الإسلامية إلى بلورة مشروع اجتماعي إنمائي نهضوي على أساس اقتصاد مقاوم، يسمح باستنهاض طاقات مختلف الفئات الاجتماعية في المنطقة، ما من شأنه تقديم بدائل لاقتصادات النهب والسلب والإفقار التي تزرعها الهيمنة الغربية في بلداننا ومجتمعاتنا.
إعلان ترامب بشأن القدس هو كصفارة انطلاق مشروع تغيير الحدود السياسية والتحالفات في المنطقة، تلبية لمصالح إمبراطوريات عملاقة من الشركات التي باتت تنظر إلى بلدان وقارات بأكملها بؤراً للنهب والسيطرة والهيمنة، وفي مواجهتها، شعوب تعاني أسوأ الظروف المعيشية والتهميش والإفقار والإذلال، كانت بمنزلة الشرارة التي أطلقت الثورات العربية التي سرعان ما تم الانقضاض عليها بثورات مضادة لإخمادها. فهل تلتقط الحركة الإسلامية اللحظة المؤاتية للخروج من أزماتها، وبلورة خطاب نهضوي حقيقي، على أساس تلبية مطالب الشعوب بالحرية والانعتاق من التبعية، ومواجهة مشروع النهب والاستعمار الرأسمالي، وعلى رأسه المشروع الصهيوني في فلسطين؟
* سياسي فلسطيني