التندُّر حول ما يقوم به دونالد ترامب على صعيد السياسات داخل الولايات المتحدة وخارجها لن يساعد في توفير قاعدة مستقرّة لنقدها، وسيضعنا باستمرار أمام احتمال فقدان فرصة كبيرة لفهم التحوُّلات التي أتت باليمين البديل الذي يمثِّله الرجل إلى الرئاسة. هذه الفرصة هي نفسها التي تتيحها مراقبة مسار العولمة أثناء قيادته للولايات المتحدة، وكيف أصبح محكوماً بقواعد جديدة نتيجةً للسياسة الحمائية التي يتبعها الرجل والتي تطرح تعديلات كبيرة على اتفاقات التجارة الحرّة التي أرستها العولمة.
التغيُّر هنا لا يبدو بسيطاً - وإن لم يكن جذرياً أو قريباً من طروحات اليسار- لأنه لا يطرح تصوُّرات فوقية فقط عن العملية، بل يضعها في سياق أوسع يشمل الطبقات الاجتماعية الأميركية التي وعد الرجل قبيل انتخابه بإنصافها عبر جعلها تستفيد أكثر من ثمار العولمة. الربط بين الأمرين هو ما يضفي هذه الأهمية على طروحات ترامب الخاصّة بتعديل مسار العولمة، ويجعل في الوقت نفسه تركيزَ خصومه في أقصى اليسار- بيرني ساندرز تحديداً - منصبّاً على الفصل بينهما، عبر شروحات متكررّة تضع إصلاحات ترامب الاقتصادية في سياق خدمة الأغنياء لا الفقراء والطبقة الوسطى كما يقترح هو.


الاعتماد على القاعدة الاجتماعية

وخوف ساندرز مبرَّر هنا لأنّ القاعدة الجماهيرية التي يعوِّل ترامب على دعمها سواءً في اقتراحاته الخاصّة بتعديل اتفاقات التجارة الحرّة لمصلحة الولايات المتحدة أو في إصلاحاته الداخلية الخاصّة بالاقتطاع الضريبي هي ذاتها التي تصوِّت لليسار حين يكون ثمّة مشروع اقتصادي لجعل تمثيلها السياسي متناسباً مع حصّتها من الدخل والثروة. هذه المرّة لم يستطع اليسار استقطاب هذه الشريحة، فذهبت معظم أصواتها إلى ترامب، وعلى الرغم من انخفاض شعبيته في استطلاعات الرأي إلا أنها لا تزال تسانده لأنه يدعم في رأيها وجهةً للتراكم تصبُّ في مصلحة توسيع حصتّها من الدخل عبر إجراءات مثل الإصلاح الضريبي وتعديل نظام الهجرة في الداخل وجعل التنافس التجاري مع الشركاء الاقتصاديين للولايات المتحدة أكثر تنافسيةً وعدلاً في الخارج. في مداخلاته أمام الكونغرس يحاول بيرني ساندرز دائماً تفنيد هذه الوجهة في الإصلاح، وهو إذ يفعل ذلك يعرف أنه ليس ثمّة فرصة كبيرة لاستعادة هذه الشرائح قريباً إلا أنه يثابر على المحاولة ظناً منه بأنّ تصحيح التصوُّر الذي وصلها عن الإصلاح هو المدخل ليس فقط لاستعادتها بالمعنى السياسي والانتخابي بل أيضاً للتشكيك بشرعية تمثيل ترامب لها كونه أتى على خلفية دعمها المطلق له في الانتخابات الأخيرة.


معارَضة الإصلاحات والعولمة معاً

بعد إقرار قانون الإصلاح الضريبي ادّعى ترامب في أكثر من مناسبة بأنّ حصّة الطبقة الوسطى من الدخل قد ازدادت على خلفية حصول اقتطاعات ضريبية كبيرة في القانون لمصلحتها، فحصل أفرادها على فرص عمل أكثر، وزادت الشركات -التي حصلت على التخفيضات الضريبية- بالإضافة إلى التوظيف من العلاوات لموظّفيها المنتمين بأغلبيتهم إلى هذه الطبقة. قُدِّمت هذه الإصلاحات سواءً في خطاب حال الاتحاد أو في مناسبات أخرى على لسان مسؤولين وأعضاء كونغرس من الحزب الجمهوري بوصفها ليس فقط ثمرة إعادة توزيع للدخل بل أيضاً نتاج استعادة الرساميل الأميركية من الخارج بعد تصحيح الميزان التجاري في الكثير من الاتفاقيات لمصلحة الولايات المتحدة. وهذا يطرح تحدياً أمام اليسار الذي يمثِّله بيرني ساندرز، إذ بخلاف التصوُّر المتين الذي يمتلكه الرجل لنقض سياسات الإصلاح الداخلية لا يبدو أنه بصدد تقديم تصوُّر بديل أو مضادّ عن السياسة التي يقترحها ترامب لتعديل مسار العولمة، أو لنقل ربطها بعد جعلها أكثر تنافسية بالإصلاح الداخلي، سواءً عبر توسيع السوق وخلق الوظائف أو من خلال «توزيع الدخل» وجعل الأولوية في الإنتاج للشركات الأميركية. عدم امتلاك اليسار لتصوُّر واضح عن هذا الربط يضعف من حججه في نقد سياسات ترامب الاقتصادية، ويضع الأخير حتى لو كان يدعم الأثرياء والشركات الكبرى عبر الاقتطاعات الضريبية في موقع أفضل، كونه لا يَعِد الطبقتين الوسطى والعاملة بوظائف وفرص عمل فحسب، بل يضع نفسه أيضاً مكان اليسار في مجابهة العولمة التي أفقرت هؤلاء وأفقدتهم وظائفهم ومكتسباتهم.

خاتمة

هذا يعطيه شرعيةً أكبر ويصعِّب على خصومه فرصة خوض مواجهة متكافئة معه، لجهة الدعم الداخلي. فكيف إذا كان الخصوم يعتمدون في المواجهة على مؤسّسات الدولة التي تناصبها الطبقات العاملة العداء كونها انحازت منذ البداية ضدّ مرشحها إلى الرئاسة، ولم تعطِه حتّى الوقت لتنفيذ برنامجه الذي يَعِد فيه بإنصاف هؤلاء، وجعل تمثيلهم داخل المؤسّسات أكثرَ عدالةً من أيِّ وقتٍ مضى. وهي إلى ذلك شريكةٌ في حصول الخلل الذي أدّى إلى تهميشهم اقتصادياً عبر دعم مؤسّسات العولمة التي أفقرتهم، والتي وعد ترامب بجعلها أكثرَ عدالةً وإنصافاً للطبقات الوسطى والعاملة. التموضُع إلى جانب المؤسّسات هنا يضعف موقع اليسار ويجعله شريكاً في صراعٍ لا يعنيه. وهو فضلاً عن ذلك لا يحسِّن من فرص إسقاط ترامب لأنّ إضعافَه لا يعتمد على صراع الأجنحة داخل المؤسّسة قدر اعتماده على الصراع الطبقي الذي أوصله إلى الرئاسة. وعلى الأرجح أيضاً أنه المدخل إلى إضعافه في حال فَهِمَ خصومه جوهر ما يقوم به الرجل على صعيد السياسات الاقتصادية، بدلاً من «التهريج» الذي يسود الصراع معه على مستوى المجتمع والمؤسّسات معاً.
* كاتب سوري