فاجأني نص الصديق الأستاذ ناهض حتّر حول الموارنة والمسيحية المشرقية الصادر في «الأخبار» في 8 الجاري، تحت عنوان: «مسيو باسيل: لدينا ما نفعله غير الأكل والنوم». وذلك بطريقة التخاطب التي اعتمدها وبالمحتوى.1ــ شئتَ أم أبيت أيها الأخ العزيز، الموارنة هم قصة النجاح الوحيدة للمسيحية المشرقية في الحوليات الإسلامية، كما يقول الكبير الذي غاب، كمال الصليبي.

سرد عشرين واقعة تُظهر ذلك، بدءاً من تحوّل أمرائهم السنّة ومشايخهم الدروز إلى المارونية، وانتشارهم في طول لبنان وعرضه، ومسؤوليتهم عن نشوء أهم تجربة إنتاجية في بلاد الشام، جسّدها اقتصاد الحرير على مدى ثلاثة قرون (الصليبي، 1990). كانت هذه البقعة الصغيرة توفّر 75 % من محصول الحرير في بلاد الشام في النصف الثاني من التاسع عشر (غايتس، 1998: 13). أما أنت في عرض النجاحات، فقد أوردت بضعة أفكار وتأكيدات غير مسندة بوقائع. لا أقول هذا للتبجّح، بل لأوكّد ما حاول الصليبي أن يوضحه لنا، من أن تجربتنا الوطنية منذ ما قبل نشوء الكيان الحالي بكثير، كانت ولا تزال فريدة في العالم الإسلامي، وأنها تؤكّد استحقاق شعب لبنان صفة أنه شعب عظيم.
2ــ أرغب بمقارنة مقالتك المتجنّية مع مقالة لأخ لبناني هو الأستاذ جهاد الزين (الزين، 2015). وهو أقدر منك، مع كل الاحترام، على محاكمة التجربة اللبنانية. وهو أكّد ما بتنا نُجمِع عليه من أن النظام التعليمي المنفتح على اللغات الذي نشأ في لبنان منذ التاسع عشر، هو بحد ذاته معيار نجاح للتجربة، يعوّض فشلها السياسي والاقتصادي الذريعَين. رأى أن ما أعطاه النظام التعليمي المنفتح جعل مردود التجربة على الجميع، مسلمين ومسيحيين، أعلى وأهمّ من كل ما حقّقه غيرهم.
3ــ لم أستسغ أبداً ما قلت من أن سوريا حمت «المسيحيين» خلال الحرب الأهلية الطويلة. سوريا كنظام حمت نفسها في مواجهة غير متكافئة مع أميركا وإسرائيل. وهو تعاطٍ عقلاني يحتسب لها. حمى نظامها الكيان الوطني السوري من حرب مدمّرة مع إسرائيل، مقابل ضرب إمكان تغيير كنا نحتاجه في لبنان. إلا إذا اعتبرتَ كما جماعة الحرب، أن مآل نجاح اليسار آنذاك كان تهجير المسيحيين.
كان ثمن التوافق ورسم الحدود مع الأميركيين «تقسيماً إيديولوجياً» للبنان، جعل حربه الأهلية ونكبة أهله تمتدان خمس عشرة سنة. خلال هذه الأعوام الخمسة عشر، ذهب إلى غير رجعة إلى مهاجر الدنيا كلها 990 ألف لبناني أغلبهم مسيحيون. فأين تكون حماية المسيحيين؟

هل يجوز التشفّي من مجموعة فُرِض عليها الصمت بدءاً من 1975؟


وافقناك على الدوام في تبرير كل ما حصل عندنا تحت عنوان «الحرب خارج الأسوار». ووافقنا أن المواجهة القومية مع الاستعمار التي اقتضت أن نكون مجرّد ضحايا، تستحق تضحياتنا، بل وخرجنا من الحرب الأهلية من دون حقد على سوريا. لم يفعل ميشال عون سوى أنه عكس كيفية تفكير ومشاعر غالبية المسيحيين.
على أي حال، أعطت «الحرب خارج الأسوار» المقاومة اللبنانية. وهذا يعوّض كل شيء. هذا يجمعنا. أم أنك تريد المزايدة علينا في هذا أيضاً؟
4ــ أعبتَ على «الموارنة» أن سايكس ــ بيكو أعطتهم كياناً لم يستطيعوا الحفاظ عليه. نعم كان الكيان هديّة مفخّخة، لأن نخبته كانت مستزلمة على الدوام للغرب، وأرادت الحفاظ عليه كمحميّة غربية لضمان استمرارها في الحكم. وهي محميّة نشأت بعد مذبحة فظيعة عام 1860، وترتّبت عليها هجرة ليست أقل فظاعة حتى الحرب الأولى، ومجاعة أخذت 40% من شعبنا، المسؤول الأول عنها حصار الحلفاء المجرمين للشاطئ. أما تجربة القرن العشرين فقد خيّرت اللبنانيين والمسيحيين منهم على الدوام، بين الحروب الأهلية المتكرّرة ومزيد من الهجرة حتى الفناء.
لكنك وجدت في الفشل السياسي هذا حجة لشتم الموارنة والحط من قيمتهم كمجموعة. أي أنك تخلّيت عن تنظيرك الماركسي الاعتيادي الذي كان سيدفعك إلى عدم اعتبار الموارنة وحدة متجانسة، بل فئات اجتماعية وقوى متعارضة في السياسة والمصالح يقتضي التضامن مع بعضها، والنظر إلى جماعة الحرب منها بوصفهم أداة «ثورة مضادة» عام 1975. وبعد، هل يجوز التشفّي من مجموعة فُرِض عليها الصمت بدءاً من 1975، بأعتى أشكال الإرهاب؟
5ــ أمضيت عطلتي الصيفية قبل عامين أو ثلاث، في استيعاب كتاب فسّر النزاعات «الإثنية» من خلال بسيكولوجية الأفراد. الكاتب هو روجر بيترسن. وهو قدّم قراءة جعل فيها للمشاعر الفردية الدور الأساس في تفسير هذه النزاعات (بيترسن، 2001). وهو من يهود أميركا الذين هُجّروا من أوروبا الشرقية. العالم عند بيترسن هو جماعات تتناغم أو تتقاتل. أي ليس ثمة أطر يعترف بها فوق الجماعات التي هي بالنسبة له فقط جماعات «إثنية». يقدم هذا الكتاب الخطير صورة للعالم على أساس الأنا والآخر مليئة بالسلبية. أسهم احتواء الكتاب على عرض مستفيض للأدبيات في هذا الميدان، في رواجه. لكني قرّرت أن لا حاجة لي لهذه الأدبيّات الشريرة، وسأستغني عن «منافعه» في المحاججة.
* أستاذ جامعي

المراجع

جهاد الزين، «يكفي مبرّراً لبقاء لبنان وجود الجامعتين الأميركية واليسوعية»، النهار، 12 أيار 2015.
Gates Carolyn, The Merchant Republic of Lebanon: Rise of an Open Economy, London: centre for Lebanese Studies with I.B. Tauris, 1998, p. 13.
Petersen Roger D, Understanding Ethnic Violence, Fear, Hatred, and Resentment in Twentieth-Century Eastern Europe. Cambridge: Cambridge University Press, 2001.
Salibi Kamal, “The Maronite Experiment”, in M. Gervers, R. Bikhazi (eds.), Conversion and Continuity: Indigenous Christian Communities in Islamic Lands, Eight to Eighteenth Centuries, Toronto, 1990, pp. 423-433.