تشهد المرحلة الحالية عملية موت «الوطنية الفلسطينية» بتعريفها السائد الذي فرضته البورجوازية الفلسطينية ليعبّر عن مصالحها الطبقية، والذي تميز تاريخياً بالانتقال من شعارات ثورية تحررية تسعى لتحرير «الوطن السليب» وعودة اللاجئين إلى القرى والمدن التي طهروا عرقياً منها، وإلحاق هزيمة تاريخية بالمشروع الاستعماري الصهيوني ثم بناء دولة ديمقراطية لكل سكانها، إلى القبول ببانتوستان على جزء من أرض فلسطين التاريخية.
وفي الوقت نفسه، تشهد المرحلة الحالية عملية مخاض لحراك قاعدي جديد يتميز بقدرة على تخطي الحدود الفصائلية المُقيدة للإبداع المقاوم. يتحرك هذا الحراك أفقياً وباستراتيجية تمكنه من احتواء واستيعاب القطاعات الشعبية العريضة وتحدي الاحتلال والأبارثهيد، وايضاً بأسلوب يتميز بالسعي إلى الوعي الوطني ولكن ليس على حساب الوعي الاجتماعي.
إن الرد الذي بدأ بالتبلور على تصفية القضية الفلسطينية، من خلال الاعتراف الأميركي بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، وتصويت «الليكود» على ضم الضفة الغربية، ومحاولة إنهاء حق اللاجئين في العودة، وإصدار الكنيست الإسرائيلي المزيد من القوانين العنصرية، هو مقاومة شعبية بالمعنى الشامل للكلمة، وكذلك مشاركة كل قوى الشعب الفلسطيني مع حركة مقاطعة تتنامى بشكل يقضّ مضاجع القيادات الإسرائيلية. ولكن المؤسف، ومن منطلق نقدي، هو عدم انخراط الكثير من القوى الفصائلية (الوطنية) في المقاومة الشعبية انخراطاً فعلياً بل لفظياً فقط، وهذا يعود إلى استعلاء الفصائل في التعامل مع أشكال المقاومة كونها لا تمر من تحت عباءتها الأيديولوجية، أو بسبب عدم نضجها وعدم انفتاحها واطلاعها على التجارب النضالية الأممية الأخرى.
ففي حين تنجح في الدعوة مجتمعة إلى مسيرة مليونية نصرةً للقدس، تفشل في إقناع أعضائها وأنصارها، بل حتى قياداتها من الصف الأول، بالمشاركة في فعاليات وانشطة المقاطعة وغيرها من أشكال المقاومة الشعبية، كالدعوة إلى مليونية نصرة للقدس، رغم توافر كل الإمكانات المادية والدعائية. كذلك تكمن الإشكالية الأخرى، التي برزت في العقدين الأخيرين، في تراجع العمل التنظيمي الفلسطيني وتحوله إلى الارتكان على تراث ثوري لتبرير تنازلات خطيرة تتخطى القيم والتقاليد المتعارف عليها وطنياً. من جهة أخرى، أسهمت عملية «جرف الوعي» أو «أسلوة العقل الفلسطيني» في خلق انعكاسات وارتدادات هائلة، ليس فقط على مجمل العمل الوطني الفلسطيني، بل على مفهوم التحرير برمته. وربما من الأفضل في هذه المرحلة التصفوية تخطي المطالبة بمراجعات داخلية في الفصائل والأحزاب الوطنية بسبب الوصول إلى طريق مسدود، والعمل على استعادة زمام المبادرة من الصف الثاني والأجيال الشابة.
تكمن أهمية حركة المقاطعة (بي دي أس-BDS) في أنها تشكل رأس الحربة التي تتصدى للمشروع الأميركي الهادف إلى فرض التطبيع العربي الكامل مع دولة الاستعمار الاستيطاني مقابل تصفية القضية الفلسطينية. وفي هذا السياق، تشعر إسرائيل بسعادة غامرة بعد فشلها الذريع في التصدي للمد الكاسح للمقاطعة عالمياً، وها هي تستنجد بالإدارة الأميركية لغزو العالم العربي وتحقيق ما عجزت عن إنجازه منذ عام 1977، أي عام الزيارة التطبيعية الأولى التي قام بها الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
كل التقارير التي تصدر من إسرائيل، ومن وزارة الشؤون الاستراتيجية بالذات، تشير إلى تخوف إسرائيل الوجودي من حركة المقاطعة وعجزها، أي المؤسسة الصهيونية الحاكمة، عن مواجهة هذا السلاح «غير التقليدي» الذي يعمل بشكل يلغي عملية الأسلوة التي مرّ بها العقل الفلسطيني على مدار السنوات الماضية، والتي قبل من خلالها «بالتعايش» مع نظام الأبارثهيد، بل الاعتراف به، مقابل وعد بالسماح بإقامة معزل عرقي معترف به من المجتمع الدولي. إن تخوف إسرائيل من حركة المقاطعة يكمن في أن الحركة تعمل على تحرير العقل الفلسطيني من الشعارات الفارغة المضمون، ومن خلال الارتكان على قوة الشعب من ناحية، وعلى الضمير الأممي الذي أسهم في محاصرة نظام الأبارثهيد الجنوب ــ أفريقي والقضاء عليه.
لقد حققت حركة المقاطعة إنجازات مهمة خلال السنوات القليلة الماضية على المستوى الرسمي بعد إنجازها انتصارات هائلة على صعيد المجتمع المدني الدولي. ومن آخر إنجازات الحركة إصدار مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان تقريراً يجمع قائمة بالشركات المتورطة العاملة في المستعمرات، وهو لا شك غير كافٍ، لكنه خطوة في غاية الأهمية، كونه يرسخ مبدأ عدم الاستثمار تمهيداً لفرض عقوبات على إسرائيل. ويأتي ترشيح حركة المقاطعة في هذه المرحلة الصعبة لـ«جائزة نوبل للسلام» هذا العام كمؤشر على التقدم الذي أحرزته الحركة في هذا الفضاء الأممي.
إن الفارق بين المشروع الوطني بتعريفه السائد، أي إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الـ67 أو على جزء منها يتم التفاوض عليه من خلال تبادل الأراضي (الفلسطينية) والتفاوض على حل عادل لقضية اللاجئين مع عدم التطرق مطلقاً إلى حقوق 1.4 مليون فلسطيني يعاملون كمواطني درجة ثالثة في إسرائيل، وبين برنامج يناضل ضد استعمار استيطاني وأبارثهيد، يكمن في الشعارات التي تطرحها حركة المقاطعة من حرية وعدالة ومساواة. هذه الشعارات بمجملها هي التي تعبّر عن تطلعات كل مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل (67 و48) والشتات. وهذا بالضبط ما يقلق المؤسسة الصهيونية الحاكمة، ويشكل الرد العملي على المشاريع التصفوية التي يجري ترويجها، من صفقة القرن، إلى التطبيع العربي الرسمي الوقح!
* محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وأستاذ جامعي في جامعة الأقصى ــ غزة