I ــ إشكاليات لبنانية
تبرز عدّة مشاكل عند الحديث عن الانتخابات في بلدٍ مثل لبنان. أوّلها هي أنّك، إن أعلنت أنّك لن تصوّت ولا تشجّع الباقين على ذلك، يتوقّف الكثيرون ــ فوراً ــ عن أخذك على محمل الجدّ، أو يعتبرون أنّك تتكلّم انطلاقاً من نزعات أناركيّة ونظريّات ومثاليّات، أو تجتنب المواجهة وتبحث عن الاستلقاء في الهامش المريح ــ هذا حتّى لا نتكلّم عن النّاشط الذي يبدأ بتقريعك وتذكيرك بـ«واجبك" الانتخابي، ويشرح أنّك مهملٌ وكسول وعقبة تسدّ سبيل التغيير (لأنّ هذا تماماً هو ما أحتاجه: سلطة جديدة، يسلّطها "الناشط»، تُضاف الى تلك التي تقف في الطابور لتتحكّم بجسدي وإرادتي وتخبرني ماذا يجب أن أفعل.

هذا بدلاً من أن تريني أنّ القضيّة قضيّتي، وتدفعني الى التوجّه للاقتراع بقناعةٍ وحماس. ولو كان خطابك "المقنِع»، بالمناسبة، لا يجذب النّاس رغم التكرار، فالمشكلة هي في خطابك، وليست أنّ النّاس لا تسمع جيّداً).
في الحقيقة، المسألة هنا لا علاقة لها بالنظريّات والتجريد، والانتخابات هي، في نظري، مجرّد "أداة" في النهاية. ولو كان صوتي يصنع فارقاً في هذه الدّورة، أو كان هناك أدنى أمل من المنظومة، لكنت في هذه اللحظة منهمكاً في جمع الأصوات وإقناع من حولي بالاقتراع، وكنت أدبّج المقالات حتّى أشوّه الخصم وأفتري عليه (لا أفهم لماذا يحاول الكثيرون ايجاد تحليلات "سايكولوجية" للموقف والرأي في السياسة، على طريقة أدورنو وعلماء الاجتماع في الخمسينيات، مع أننا نعرف أنّ الأفراد يمكن أن يصلوا الى الرأي ذاته من ألف طريقٍ ولألف سبب، فلا جدوى من محاولة تصنيفهم؛ الموقف نفسه قد يكون جيّداً أو سيّئاً، وهنا أساس النّقاش). ولكن هناك مشكلة جدّية، مبدئية، في الانتخابات اللبنانيّة، لا مجال للالتفاف عليها أو تجاوزها، وهي تجعل العمليّة بأكملها باطلة ومزيّفة.
لمن لا يعرف تفاصيل السياق اللبناني، فإنّ الموازين الطائفية والمخاوف والتسويات أوصلتنا الى نظامٍ انتخابيّ فريد، لا تكون أصوات المواطنين فيه متساوية. صوتي، مثلاً، يوازي تماماً "ثلث" صوت مواطنٍ يقترع في العاصمة بيروت من حيث وزنه الانتخابي، وهذا ــ في العالم الحديث ــ من المفترض أن ينهي النّقاش وأن يحسم بأنّ الانتخابات ليست تمثيلية ولا ديمقراطيّة وفيها خللٌ أساسي. فكرة "الصوت الواحد" وتساويه بين المواطنين هو "الحدّ الادنى" الذي تبدأ معه العمليّة الانتخابيّة، وبعدها نناقش القانون والدوائر والنسبية أو الأكثريّة الخ. الكثير من الحكومات يتقصّد إجراء الإحصاءات السكّانية قبيل الانتخابات، ويعيد توزيع المقاعد باستمرار بحسب الكثافة السكانية، تحديداً حتّى لا يخرج أحدٌ ليشكك في شرعية الانتخابات لاحقاً، ويدفع بأنّ هناك مواطنين غبنوا ولم يحصلوا على صوتٍ موازٍ للباقين. لا توجد ديمقراطية في العالم المعاصر خارج "الديمقراطية العددية" (حتى في الإطار الليبرالي الإجرائي البحت)، والانتخابات هي آلية تترجم هذه الإرادة أو هي ليست "انتخابات».
لو أردتم مجلس طوائف ونخب (على طريقة مجلس الشيوخ الأميركي) فسمّوه كذلك، ولو أردتم استفتاءً على زعامات موجودة فليكن اسمه استفتاء؛ ولو اعترفتم، حتّى، بأنّ الانتخابات هي أساساً "موسم»، يسمح بمقدارٍ من إعادة توزيع الدّخل والمنافع، وتنتظره وتستفيد منه فئاتٍ كثيرة، وأنّه فرصةٌ للعديد من الناشطين والسياسيين والإعلاميين حتّى يدفعوا أقساط الأولاد ويغيّروا سياراتهم، فهذا ايضاً مفهوم ــ ولكن لا تحاولوا أن تقولوا لي أنّها انتخابات وأنّها شرعيّة وتمثيليّة أو ــ وهنا الوقاحة ــ أن تدعوني الى المشاركة فيها و«تغيير النظام من الداخل»، عبر اللعبة المغشوشة (ولو أردت تسجيل المواقف والمزايدة، وهي الرياضة الوطنيّة في لبنان، لاتّهمت كلّ من يشارك في هذه الانتخابات ــ من "الطبقة السياسية" وخارجها ــ بأنّه يساهم في سرقة صوتي وتزييف الديمقراطية وتشريع هذا النظام المتخلّف، حتى يحصل هو على مهرجانه الانتخابي). المسألة ليست هيّنة، وإن تناولناها بخفّة فهذا ليس لأنّها يسيرة، بل لأنّ البلد في حدّ ذاته هو مزحة.
فكرة أن يكون لكلّ مواطنٍ وزنٌ سياسيّ مختلف عن غيره، بحسب طبقته أو هويته أو اقليمه، هو تكتيكٌ قديم وكان يستخدم بكثافة في الملكيّات الأوروبيّة مع بداية عصر الاقتراع العامّ، ولكنّه انتهى واندثر ولم يعد مقبولاً منذ قرنٍ ونيّف. ولو أردتم أن تعاملوني على طريقة الرعايا في القرن التاسع عشر فأنا ايضاً سأتعامل معكم على طريقة القرن التاسع عشر، وأفضّل ــ على مذهب هادي العلوي ــ أن أصل الى السّلطة بساعدي، أو أظلّ خارجها أفعل ما أستطيع، على أن أشارك في نظامٍ يحتقرني. على الهامش: من حكايات هادي العلوي أنّه، حين كان لاجئاً منفيّاً في الصّين، انتهت صلاحية جواز سفره، وهو يحتاج الى وثائق. يومها، كانت الحكومة العراقية تمرّ في مرحلة "استرخاء" وتحاول استقطاب المثقفين المعارضين، فأسرّوا الى العلوي عبر وسيط بأنّه، لو طلب تجديد جوازه من السفارة العراقية في بيجينغ، فهم سيصدرون له جوازاً جديداً من غير أسئلة. أجاب هادي الوسيط قائلاً إنّه يقبل بذلك، ولكن بطريقتين: امّا أن يقتحم السفارة ليلاً ويسرق الوثيقة، فيكون قد حصل عليها بقوّة ساعده، أو أن يرشي موظّفاً فاسداً لينجز له الجواز، فيكون استحصل عليه بماله؛ ولكنّه لا يقبل منّةً من نظامٍ لا يعترفٍ بشرعيّته ــ ولو كانت حقّاً له.

II ــ المعارضة والنّظام

المشكلة الثانية هي أنّك، لو أردت أن تقول شيئاً حقيقياً عن السياسة في لبنان، فأنت بلا ريبٍ ستغضب الكثيرين وتثير حساسياتهم، وتدوس على أصابع البعض بغير أن تنتبه (لا مشكلة لديّ في أن أختلف مع أحدٍ عن قصدٍ وتصميم حول قضية أساسية، ولكنّي لن أقضي حياتي وأنا أنتقل من سوء تفاهم الى آخر، وأثير الحنق والغضبة من أناسٍ لا أعرفهم ــ المسألة بصراحة لا تستحقّ). حين نناقش لبنان، يجب أن نتذكّر دوماً "الاقتصاد السياسي" الذي تجري في إطاره الأمور. المجتمع اللبناني، قبل كلّ شيءٍ آخر، يمثّل عدداً كبيراً نسبياً من النّاس الطامحين يتنافسون على موارد قليلة ومقاعد معدودة في البلد، الكثير منها محجوزٌ أصلاً بفعل الوراثة أو غير ذلك. لهذا السّبب، تصبح الشراسة والتعصّب جزءاً أصيلاً من شخصيّة المتنافسين، فأنت لا تريد أن تختلف معهم أو تعارضهم أو تقف في وجههم، وهم لا يؤمنون بالتسامح مع الآراء المخالفة، خاصّة وهم يرون أنفسهم في "حرب الكلّ ضدّ الكلّ»، يتوجّسون من الجميع (خارج "معسكرهم" وداخله) ولا يثقون الّا بعصبتهم الضيّقة.
هذه الحال مضاعفة في المجال السياسي، حيث التنافس أشرس وأشدّ. حتّى نقرّب المسألة للقرّاء العرب: أنت تجد في أقضيةٍ لبنانية، هي بحجم تجمّع قرىً في ناحية من نواحي إدلب، أربع أو خمس عائلات سياسيّة "عريقة»، كلّها تعتبر أنّها قد ورثت المكان وتملكه، وكلّها تملك أساطير عن نفسها، بعضها يرجع نسبه الى الأسرة الكارولينجيّة والبعض الآخر الى الاسكندر المقدوني؛ وكلّهم يعتبر أنّه يستحقّ أن يكون رئيساً للجمهوريّة أو وزيراً على الأقلّ. لهذا السّبب يجب أن تتذكّر دائماً في لبنان أنّ كلّ من نجح وصعد الى الواجهة في هذا الجوّ التنافسي الخانق هم، بلا استثناء تقريباً، أشخاصٌ بالغو الذكاء وخطيرون للغاية.

صوتي، مثلاً، يوازي تماماً «ثلث» صوت مواطنٍ يقترع في العاصمة بيروت من حيث وزنه الانتخابي


هذه المشكلة يضاعفها أنّه، في لبنان، لا جدوى من نقد "النّظام" من دون أن تبتدئ بنقد "المعارضة». حين كنت أشاهد إعلان ترشيح إحدى اللوائح "البديلة»، وخطابٌ يتكرّر للمرّة الألف عن "الطبقة السياسية" وضرورة تحدّيها وتغييرها وإلغاء الطائفية ومكافحة الفساد، وفي الكادر التلفزيوني مجموعة من الأشخاص الوقورين، وكلّهم في مراحل مختلفة من الاحتضار، تذكّرت مقولة الصديق محمود المعتصم عن المعارضة التي تصبح جزءاً من النّظام ودورته (والمشكلة مع الكثير من "المعارضين" في بلدنا أنّهم لا يتركون لك مجالاً للتعاطف. هناك أحزابٌ صغيرة في اوروبا يصوّت لها القلّة، دورياً، رغم قلّة حظوظها لأنّهم معجبون بمعارضتها ومبدئيّتها ولو على حساب التهميش، ويأمل هؤلاء المصوّتون أن يزداد عددهم مع الوقت ويتحوّلوا الى كتلة حرجة ويصنعوا شيئاً. ولكنّ الكثير من "المعارضين" في لبنان اختاروا التحالف "التكتيكي" على حساب المبدأية، مرّة مع الاقطاعي الجنوبي ومرّة مع مشبوهي السّفارات، فلا هم يحافظون على ادّعاء الطهارة، ولا "التكتيك" والتذاكي يوصلهم الى انجازاتٍ ملموسةٍ تعوّض العذريّة).
حتّى نختصر، أعتقد أنّه يوجد اختبارٌ قياسيّ (litmus test) يصلح هنا لتمييز جدّية المعارض والثوري: أنظر الى المرشّح والى خطابه ثمّ فكّر ــ «هل هو يحتاج حقّاً، بمعنى الاضطرار، الى تنفيذ ما يدعو اليه؟». بمعنى هل أنّه سيختفي ويخسر مكانه، أو ينطفئ حزبه، أو تزول سلالته، فيما لو لم تنجح "الثورة" أو خسر الانتخابات ولم تتحقق مطالبه، أمّ أنّ "المعارضة" هي في ذاتها خيارٌ مستدامٌ ومقبولٌ بالنسبة له؟ هذا يشبه أن تسأل، في السياق الفلسطيني، هل تحتاج "فتح" فعلاً الى تحرير فلسطين لكي تستمرّ، أم تكفيها إدامة الوضع القائم؟ سأعطي مثالاً ملموساً: الحراك الماضي في لبنان، هل تعتبر أنّه كان نجاحاً أم فشلاً؟ هذا يتوقّف، حقيقةً، على منظورك. إن كنت متظاهراً أصيلاً، تؤمن بالشعارات التي ردّدتها وأهداف الثورة والانقلاب على النّظام، فأنت لا ريب تشعر بغصّة ومرارة. ولكن، لو كنت أحد "نجوم" الحراك، فإنّ "الفشل" لم يكن فشلاً، بل علامةً فارقة في حياتك المهنيّة والسياسيّة، وخطوة مهمّة في بناء الـ«سي في" والاستحصال على التمويل والمنح الأجنبية (بعد نهاية الحراك بقليل، اتّصل أحد معارفي ــ وهو يعمل في إحدى مؤسسات التمويل الدولي ــ بأحد هؤلاء "النجوم" الشباب، ليعرض عليه عملاً في مشروع، فأجابه بأنّه "محجوزٌ" لأشهر مقبلة، وعروض العمل والمشاريع تنهال عليه بعد "الحراك" ولا يقدر على تلبيتها). هنا، مثلاً، لا يعود "النّجاح" ضرورةً بالمعنى الذي تعد به الجماهير، بل إنّ الفشل هو في ذاته نجاح، ويمكنك أن تكرّر هذه الدّورة، ببساطة، حتّى تتقاعد ثريّاً. الانتخابات النيابيّة، تحديداً، هي فرصة ذهبية لهؤلاء، تحديداً لو فشلوا وخسروا أمام "النظام" («ترشّحت لوحدي أمام أساطين السّلطة وخسرت بشجاعة بفارق مليون صوت، أعطوني مزيداً من الأموال لكي أتحدّاهم مجدّداً». هذه سرديّة مثاليّة لطلب منحة).
الطريف ايضاً هو أنّ الإعلام (بما فيه بعض إعلام السّلطة) يكون دائماً قريباً ومتسامحاً مع هذا النّوع من "المعارضة»، ولا ضير لديه من تغطية نشاطاتها وخطابها الاحتجاجي، لأنّها مهذّبة، ولأنّها "فوتوجينيك»، ولأنّها في الوقت نفسه لا تفعل شيئاً حقيقياً ولن تهدّد النّظام يوماً وتلعب مسبقاً دور "الخاسر بشرف»؛ بل نكاد نقول إنّ النّظام لا مشكلة لديه في استيعاب الكثير من هؤلاء الأفراد وضمّهم الى مؤسساته ــ لولا أنّه يحتاج إليهم في صفوف المعارضة.

III ــ «المجتمع المدني»

في هذه الدورة، هناك تيّاران سياسيّان أتابعهما ويثيران اهتمامي. والمتابعة هنا لا علاقة لها بالتأييد (أنا لم أصوّت في انتخابات في حياتي ولن أبدأ الآن). مع أنّني، للأمانة، كنت مستعدّاً عام 2009 ــ حين كانت هناك مواجهة سياسيّة حقيقية، وضرورة فعليّة لمحاصرة العملاء وأعداء المقاومة ــ للتصويت لمرشّحٍ وحيد هو أسامة سعد. ومثلما كان سعد هو السّياسي النّادر في لبنان الّذي رفض الدّخول في لعبة التّحريض والطائفية رغم السياق الملتهب، مع معرفته التامة بأنه سيدفع ثمناً سياسياً غالياً مقابل خياره، كانت الحملة ضدّ سعد (من الطبقيّة البشعة الى التحريض الطائفي المكشوف) تكثيفاً لأسوأ ما في السياسة اللبنانيّة. بل انّي تفاجأت يومها بأصدقاءٍ لي يقبلون على السّفر على حساب آل الحريري للتصويت لصالحهم، مع أنّهم ميسورون ويعملون في دبي وغيرها وفي وسعهم المجيء على حسابهم لو كانت هذه قناعتهم، من دون لطخة الاستجداء والرشوة. ولكن الأمر كما لو أنّ هذه المنظومة أرادت تعويد كلّ اللبنانيين على "الأخذ" وعدم التحرّج من إذلال النّفس، وتطبيعهم مع المال السياسي والأعطية.
الحملتان اللتان أتابعهما حالياً هما تلك الخاصّة بالمرشّح رجل الأعمال فؤاد مخزومي، والثانية لحزبٍ جديدٍ اسمه "سبعة»، يقدّم نفسه على أنّه بديل "عصريّ»، غير ايديولوجي، ينطلق من المجتمع المدني ويرمي الى تحدّي النظام السياسي القائم. أتابع فؤاد مخزومي أساساً لأنّ منزله، الذي يعقد فيه الكثير من نشاطاته، هندسته جميلة وجذّابة (وقد أطلق عليه اسماً مثيراً، "بيت البحر»، وهو غير "بيت الجبل»)، وفيه شرفات داخلية وواجهات مشرفة على البحر وديكورات خشبية وذوقاً في التصميم لا تجده لدى الكثير من العائلات السياسية اللبنانية. كما أنّ بيننا «معرفة» قديمة: أيّام جورجتاون، في الفترة التي تلت مباشرة هجمات ايلول، كنت أصادف في مسيري وجهاً مألوفاً يجلس في أحد المقاهي الراقية قرب جادّة ويسكونسن وشارع "ام»، ثمّ أنتبه بعد ثوانٍ الى أنّني قد مررت للتوّ بالسيّد مخزومي، وهو لا بدّ يجري إحدى زياراته الى العاصمة الأميركيّة (يعلم الله ماذا كان يفعل هناك. يجدر أن نذكر أنّه، في واشنطن تحديداً، انت ستلتقي في الشارع بزعماء وأمراء ونخب لن ينزلوا يوماً الى مستواك في بلدك الأمّ. في واشنطن، لا في لبنان، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام "سيّدة أولى" في مطعم ساندويشات، أو واقفاً بالصفّ في مصرفٍ أمام أمير حربٍ، أو أصادف وزيراً لبنانيّاً في دكّانٍ حقير).
أمّا حزب "سبعة»، فالمثير هو ليس مضمون خطابه وبرامجه، بل الديناميّة التي أطلقها ضمن ما كان يسمّى "قوى المجتمع المدني»، و«الحرب الأهلية" الفعليّة التي كشفها وجود هذا الحزب الجديد، غزير التمويل، والذي يستخدم أساليب الدعاية ببراعة ويجتذب الى صفوفه شخصيّات "غير مألوفة" ونجوم تلفزيون والمطرب أمير يزبك (يزبك، بالمناسبة، كان مطرب الأعراس الرسمي في لبنان على مدى عدّة سنوات، كان يحيي في خلالها، في الصيف الواحد، أكثر من مئة حفل زفاف؛ ولو أنّه تعرّف على العائلتين في كلّ مناسبة فهو يكون قد راكم شعبية ستجلب له أصواتاً أكثر من كلّ ناشطي التمويل الأجنبي والسّفارات ــ الذين تحوّلوا الى سياسيين ومرشّحين). الجهد الذي يبذله "ناشطو المجتمع المدني" ضدّ "سبعة" حالياً هو أكبر بكثير من حربهم القديمة على "قوى السّلطة»؛ من التشكيك الى السخرية الى نشر الشائعات، وصولاً الى تكريس صفحاتٍ خاصّة للهجوم على الحزب الجديد ونزع الشرعيّة عنه (وعلى طريقة الحروب الأهلية العربية، لن يعترف أحدٌ منهم بأنّ ما يجري هي "حرب أهليّة»، بل يصرّون على أنّ "سبعة" ليس "مجتمعاً مدنياً»، بل ينتحل الصفة، وهم وحدهم "المجتمع المدني" الحقيقي والأصيل).
الفكرة هنا هي أنّه، كما يلاحظ الباحث رائد شرف، لا وجود لشيءٍ واحدٍ أو كتلةٍ متجانسة اسمها "المجتمع المدني" في لبنان، حتّى ضمن أضيق التعريفات، والعمى عن هذا الواقع هو سبب خيبة العديدين اليوم. هناك، مثلاً، من يصرخ في قوى المجتمع المدني لأنّها لا تحارب المقاومة وسلاح حزب الله كما يريد هو، و}تنحرف" الى ملفّات "نافلة" مثل الفساد أو الجندر أو الحريّات، ويضيفون أنّ الانتخابات، إن لم تكن مواجهةً جبهويّة مع سلاح المقاومة، فهي بلا معنى. خطابهم ليس جديداً، هو حرفيّاً خطاب أمانة 14 آذار في أيّامها الأخيرة، قبل أن تلفظ أنفاسها: «ما لكم، يا قوى 14 آذار، تتفاوضون مع حزب الله وتتشاركون معه وتتوهون عن المعركة المركزيّة ضدّه؟ كيف تلهيكم توافه مثل المقاعد النيابية، أو منصب رئاسة الوزراء، أو ملفات الاقتصاد والكهرباء، عن "الحرب الشاملة" ضد المقاومة؟ نحن اكترتنا اميركا تحديداً لهذا الهدف، ولو ابتعدنا عنه فهم سيبتعدون عنّا ويفقدون اهتمامهم بنا». الخطاب ليس جديداً، ولكن هؤلاء لا ينتبهون، يضيف شرف، الى أنّه مثلما يوجد في صفوف المجتمع المدني "المحارب الى النهاية" ومن همّه ضرب سلاح المقاومة ولا شيء آخر، فإنّ بين هذا الجمهور ايضاً من يهتمّ ــ حقّاً وصدقاً ــ بمسائل مثل الجندر والفساد، أو سياسة النّقل، ولا يريد خوض معاركك ضدّ المقاومة (ولا هو يهتمّ، في حالات أخرى، بأن تُغني سيرتك المهنيّة وتكسب نجوميّة ومنحاً). وهناك فريقٌ من الجمهور تجذبه، بالفعل، شعارات "العصريّة" وغياب الايديولوجيا والصّورة الجميلة التي تعاكس نمط السياسة التقليدي في لبنان، وهؤلاء قد جاء "سبعة" ليلبّي حاجتهم ــ فأين المشكلة في ذلك؟

IV ــ الصّراع على الطبقة الوسطى

ما ساهم في تفجير الحرب بين هؤلاء الطامحين كان القانون الانتخابي الجديد والإضافة التي أُلحقت به («الصّوت التفضيليّ»). ومن أراد أن يتعلم درساً في فنون الهيمنة والسياسة، وفي عبقريّة المكان اللبناني، فإنّ عليه أن يلقي نظرة على قانون الانتخابات الجديد. ما كانت مطالب المعترضين؟ يريدون قانوناً على أساس النسبيّة؟ تمّ ذلك؛ تغيير الدوائر؟ تغيّرت. ولكنّ آليّة "الصوت التفضيلي" (لديّ شعورٌ بأنّ نبيه برّي كان خلفها) صنعت مفارقةً مذهلة. مجدّداً، حتى نشرح لغير اللبنانيين: في الانتخابات اللبنانية عادةً، انت تتحالف وتؤلف لوائح مع آخرين، وتفوزون معاً أو تهزمون معاً في المبدأ. أمّا مع استحداث "الصّوت التفضيلي" والنّسبيّة، فإنّ ما يحصل فعلياً هو أنّ اللوائح تعرف حجمها قبل الانتخابات، وتقدّر المقاعد التي ستحصل عليها (وهي، في أفضل الحالات، مقعدٌ واحد أو اثنين في الدائرة لمن هم خارج التحالفات الكبرى). ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنّ الحرب الفعلية لن تكون بينك وبين اللوائح الأخرى، فالأحجام محسومة ولن تتغيّر بشكلٍ جذري في أسابيع، بل بينك وبين باقي المرشّحين "الحلفاء" على هذا المقعد الوحيد. ما تخشاه هنا حقّاً هو ليس أن تخسر اللائحة، وتفوز "السّلطة»، بل أن تحظى لائحتك بمقعدٍ (بفضل أصواتك) ويذهب المقعد الى زميلك وصديقك لأنّه نال أصواتاً تفضيلية أكثر؛ هو يصبح نائباً ويدخل الى المجلس وانت تنظر اليه من الخارج، وهذا أسوأ شيءٍ يمكن أن يحصل في العالم.

لو كنتَ أحد «نجوم» الحراك، فإنّ «الفشل»
لم يكن فشلاً، بل علامةً فارقة في حياتك المهنيّة والسياسيّة

بالنسبة الى الأحزاب الكبيرة فالصّوت التفضيلي ليس مشكلة، بل هم قد يطلبون من مرشّحيهم أن يتنافسوا بين بعضهم البعض على الشعبية في دوائرهم، وهم قادرون على التحكّم بالعمليّة ومداها. أمّا بين التشكيلات المتنافرة لـ«المستقلين»، فهذا قد جعل عقد التحالفات أشبه بالسّير في درب الأفاعي. تخيّل أن تضع في مكانٍ واحد أناساً هدفهم الوحيد منذ ثلاثة عقود هو الوصول الى النيابة، وقد احترفوا كلّ أشكال التحالفات والمؤامرات والدسائس، ثمّ وضعت معهم شبّاناً نرجسيين طموحين، ايديولوجيتهم الوحيدة هي الوصول بأيّ ثمن وطريقة، ثم رششت عليهم أفراداً مؤدلجين على الطريقة الكلاسيكية وشرحت لهم جميعاً آلية الاقتراع. من الطبيعي، هنا، أن تنفجر الخلافات وتتشرذم المجموعات، وتخرج لوائح متنافسة لحلفاء الأمس في كلّ دائرة، وينقسم المجتمع المدني الى مكوّناته المختلفة.
ولكنّه سيكون من التّبسيط أن تلوم قانون الانتخاب والصّوت التفضيلي. المشكلة هنا بنيويّة، وهي تتلخّص في أنّ كلّ القوى المذكورة أعلاه تتبع الخطّة نفسها، وهي التبشير في صفوف الطبقة الوسطى التي يتنافسون عليها وهي ــ إن كنّا كرماء ــ لا تمثّل أكثر من 20% من الشّعب اللبناني، وهي تصغر باستمرار، وجزء كبير منها أصلاً محجوزٌ ضدّك. السّرديّة النخبوية التي تنظر الى الطبقات الشعبية على أنّها "تابعة" وجاهلة لا جدوى من التوجّه اليها، ويتمّ شرائها في الانتخابات بالرشوة وصناديق المساعدات (فعلينا اذاً أن نتوجّه الى الميسورين "المستقلّين»)، هذه نظريّة ــ كأكثر النظريات التي تخرج بها النّخب لإقصاء الفقراء من السياسة، أو لتعيين أنفسهم قادةً ــ خاطئة من أساسها. خاصّة في بلدٍ كلبنان، فإنّ الطّبقات الوسطى والعليا (من موظّفي الدولة، الى رجال الأعمال، الى أصحاب المهن الحرّة، الى الصحافيين وموظفي المنظمات) هي في الحقيقة أكثر "تبعيّة»، وأكثر ارتباطاً بالسياسة التقليديّة أو التمويل الخارجي، وأكثر استفادةً من المنافع والواسطة والسوق، واعتماداً عليها، من الناس الفقراء (وأكثرهم لا يلتفت اليه أحد، ولا يصوّت في الانتخابات).
المسألة هي أنّه لا يوجد اليوم تيّارٌ واحد يتوجّه فعليّاً الى الفقراء في خطابه ونشاطه، وأكثر التحرّكات "المعترضة" التي جرت في السنوات الماضية (من قضية النفايات الى "بيروت مدينتي" الى سلسلة الرتب والرواتب وغيرها) هي مسائل وطنيّة أو تهمّ الطبقة الوسطى، ولا يخصّص فيها المحرومون بشيء (الّا إن كنت تعتقد أنّ الموظّفين والأساتذة والقضاة هم الفقراء والمحرومون في هذا البلد). ماذا عن الـ80% الباقين؟ ماذا تقول لهم؟ هل انت تعرفهم أو تتكلّم اليهم أصلاً؟ وإن كان خطابك لمن يعيش مسحوقاً في جمهوريّتنا يتلخّص في أنّ "مشكلتك هي جزءٌ من الوضع العام، وأنّ عليك أن توصلنا الى السّلطة لكي نغيّره، وحين يحصل ذلك ستقف بالطابور خلف الجميع للاستفادة من المكاسب»، فإنّ الناس ليسوا أغبياء ــ خاصّةً حين يكونون في ألمٍ ومعاناة.
حين ترى الأمور من منظور الفئات الدنيا، سوف تخرج تلقائياً بخلاصات مختلفة و«راديكاليّة»، وتفهم أنّه صارت هناك ضرورة حرجة لإعادة التوزيع فوراً وسنّ سياسات مناصرة للفقراء في لبنان؛ وأنّه لا مفرّ من التوقّف عن دفع الدّيون وايقاف النّزف الاقتصادي، ولو انهار القطاع المصرفي؛ وتفهم أنّ السّوق العقاري لا يمكن أن يستمرّ على حاله، وأنّ "الإصلاح" لن يتمّ باليسر ومن دون مواجهة داخليّة قاسية (لا داعي للتواضع في المطالب، فالطبقة المالية التي تحكم لبنان وتعتاش من استنزافه لن تتفاوض معك ولن تتنازل. الوضع الحالي مريحٌ لها الى أقصى حدّ وهي لن تقبل بتغييره بأيّ ثمن، وستحاربك بلا هوادة إن شكّلت تهديداً حقيقياً عليها وستحاول سحقك، وستكون الحرب الطائفية وتحريض النّاس أبسط أسلحتها ــ ولو كنت مكانهم لفعلت الأمر نفسه. لذلك، عليك أن تفهم جيّداً أنهم سيكونون أعداءك في كلّ الأحوال، ولو حصل الإنقلاب، فاذهب مباشرة الى التأميم والمصادرة). أمّا من نذر حياته لمحاربة المقاومة ولا شيء آخر، ويقول أنّه أصبح على يمين الحريري و14 آذار، ويريد أن يقف وحده ــ مع الشلّة ــ ضدّ الجّميع، فأنا أنصحه بأن يذهب الى أشرف ريفي فهو الخيار الأنسب، وأن ينتظر قدوم الدبابات الأميركية والإسرائيليّة فهذا، بصراحة، هو أمله الوحيد.
منذ أيّامٍ كنت أمرّ بأحد الأحياء الراقية في بيروت. ومع أنّي أقمت فيه أيّام الجامعة الّا أنّني كدت لا أتعرّف على المكان: المباني القديمة تمّ تجديدها بشكلٍ فخمٍ وطليت بألوان زاهية، وبينها ترتفع ناطحات السّحاب الزجاجيّة، تطلّ منها الشّقق الفخمة بالمئات، شوارع نظيفة وأرصفة منمّقة وأشجار ومتاجر فخمة ومقاهي. في الشوارع الهادئة يسير أناسٌ جميلون، يرتدون ملابس غالية ويتكلّمون على الهاتف بالأجنبية أو ينزّهون كلابهم. لو أنّك أتيت من الضّاحية، مثلاً، حيث يرتع مئات آلاف اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين في ظروفٍ مختلفة تماماً، لاعتقدت فعلاً أنّك في بلدٍ آخر. المسألة هي أنّ المسافة بين المكانين لا تتعدّى الكيلومترين، مسيرة دقائق حرفياً، نحن لسنا في مصر؛ ولا توجد حواجز أو بوابات أو دولة أمنيّة تمنع الفقير من مراقبة ما يجري في الحيّ المجاور. العقل "الأكاديمي" في هذه الحالات يخرج بتحليلاتٍ عن الاقتصاد السياسي للبنان بعد الحرب، وكيف عزّز تراكم الثروة في قطب والبؤس في قطبٍ آخر (وقد تنجز بحثاً عن الموضوع وتحصل بسببه على منحة)، ولكنّ من يفكّر "سياسياً" هنا يسأل سؤالاً واحداً: "كم تبقّى من الوقت قبل أن ينقضّ أولئك على هؤلاء؟ وما الذي منعهم حتّى اليوم؟». وحين يحصل ذلك، لن يهمّ ساعتها لمن صوّتوا في الانتخابات. ماذا ستفعل يومها؟