«كان هذا جزءاً من عمليّة كونيّة، لا محليّة فحسب. وحدها الثّورات الاستثنائية في القرن العشرين هي التي لم تشهد ــ في هذه المرحلة ــ إعادة إحياءٍ تدريجيّ لحالة اللامساواة في الدّاخل، بعد أن كانت عمليّة إعادة التّوزيع قد ضيّقتها؛ وليبيا لم تكن استثنائيّة» ــ ماكس آيل، «ملاحظات عن ليبيا»، مجلّة «فيوبوينت»، شباط 2018
في حالة ليبيا، تحديداً، كان من السّهل أن ننساق خلف «سرديّة الجزيرة» عن الأحداث وعن «ثورة فبراير». ليبيا، بالنسبة الى المشرق، بلدٌ بعيدٌ نسبيّاً، ومعزولٌ نسبيّاً، وقلّة من النّاس تملك صلةً به ومعرفةً بشؤونه.

حتّى في الأدبيّات الأكاديميّة الغربيّة، كان من الصّعب أن تتعلّم شيئاً حقيقياً عن ليبيا، فهي ايضاً بلدٌ «مغلق»، عدوٌّ لأميركا، ولا يسهل على الباحثين الغربيين دخوله والعمل فيه. هذا ينطبق بخاصّة على ما كان يُعرض علينا في مجال العلوم السياسيّة، حيث كان من الصّعب أن تجد كتاباً جيّداً واحداً عن ليبيا. ما الخيارات أمامك؟ لديك ديرك فاندوال مثلاً، من المختصّين القلائل في الشأن الليبي، وأنت لا تحتاج لأن تكون خبيراً فيه حتّى تعرف أنّ كتاباته اشكاليّة. ولديك ماريوس ديب، «شريك» فؤاد عجمي في السياسة في واشنطن؛ والمشكلة ليست هنا، بل هي أنّه لا أردأ من مواقفه السياسية الّا أعماله البحثيّة.
على الهامش: يوجد نصٌّ ممتع للفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي، في متن مذكّراته، يروي فيه تجربته حين مارس التعليم الجامعي في ليبيا. وكعادته في توصيف رحلاته والدّول التي زارها، يبدأ بدوي الفصل بأربعين أو خمسين صفحة يقدّم فيها تاريخ ليبيا بطريقة المُحاضر، من العصر الطباشيري الى يومنا هذا، قبل أن يروي تفاصيل رحلته والمظالم التي تعرّض لها ــ هذا يحدث معه في كلّ مكان (لا أفهم أن يلوم البعض الرّاحل بدوي على لهجته العدائيّة والحادّة في المذكّرات، وبخاصّة تجاه أعدائه وخصومه، وهم كثر، يمتدّون من طه حسين والعقّاد الى عبد الناصر والسادات. أيّ نوعٍ من المذكّرات تفضّلون؟ سيرة صريحة، نشعر فيها بشخصيّة الكاتب ونلمس نزقه وعصبيّته ونسمع صوته في سطورها، ويصفّي فيها حساباته مع الجّميع؟ أم مذكّرات متكلّفة، يقول كاتبها إنّه لن يدخل في الإشكاليات، ويسامح كلّ من أساء اليه، ويريد فحسب أن يموت بسلام؟).
في الوقت ذاته، كان لديّ استاذٌ من أصول ليبيّة، هو من عائلات النخبة السنوسية التي جرّدتها «ثورة الفاتح» من سلطتها ونفتها الى الخارج، وقد هربوا يومها من ليبيا على طوّافة أميركيّة وظلّوا يحلمون بالعودة، منتصرين، على متن مثلها (كان يدرّسنا الاقتصاد على المنهج النيوليبرالي، ويشرح لنا أنّ الاشتراكية والدّولة الوطنية والايديولوجيا هي ما خرّب بلادنا، وأنّ السّوق الحرّة والنيوليبرالية والاصلاحات الهيكلية هي أملنا المنقذ ــ كان البعض أيّامها يردّد هذا الخطاب بثقةٍ وتفاؤل). وهو كان يقول لي إنّ القذّافي مجنون، وأنّ «الغرب لن يأخذنا بجديّة» طالما أننا نسمح بوجود زعماء مثله على رأس بلادنا. بالفعل، فإنّ منظر القذّافي من بعيد لم يكن يوحي بالثّقة: ينادي يوماً بالعروبة ويوماً بالهويّة الأفريقية، ويقول إنّه خرج بـ«نظريّة ثالثة» وكتاب أخضر، ويستقبل ضيوفه الأجانب في خيمة (لديه ايضاً مجموعة قصصيّة عنوانها «القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء وقصص أخرى»).
في هذا السّياق، لم يكن من الصّعب أن تتعاطف مع «ثورة» ضدّ ذلك النّظام، وبخاصّة حين ترسم «الجزيرة» الثوّار، عبر تغطيتها وتقاريرها ومقابلاتها المنتقاة، على نحوٍ مثاليّ: شبابٌ يريد الحريّة والكرامة فحسب، لا كلام عن العنصرية أو القبليّة وغير ذلك ممّا اكتشفناه لاحقاً، بل هو جمهورٌ ديمقراطيّ «خالص»، صفحة بيضاء بلا هويات وانحيازات، كأنّه لا ينتمي الى مجتمع؛ ذوات ليبراليّة مثاليّة يمكنك أن تضعها في اوكرانيا أو بيروت، أو أيّ مكان آخر، وتجعلها تقول الكلام نفسه وستتعاطف معها فوراً (كان يجب أن يدفعنا هذا، منذ البداية، الى اعتماد الشكّ بدلاً من التفاؤل).

بناء الدّولة وتحطيمها

في نصٍّ للباحث الأميركي ماكس آيل عن ليبيا (مجلّة «فيوبوينت»، شباط 2018)، يحاول الكاتب أن يقدّم لنا تأريخاً للبلد يشرح لنا ما جرى في فبراير 2011، وكيف وصلنا الى هنا ــ من وعودٍ بـ«الحريّة» و«الثورة» تنقلها لنا «الجزيرة» الى بلدٍ ممزّق، تتنازع السيادة على أرضه أكثر من 1600 ميليشيا ووصايات أجنبية، وقد هجّرت نسبة معتبرة من شعبه، إمّا هرباً من الحرب أو خوفاً من الانتقام السياسي، ولا ينتبه العالم الى ما صنعه في ليبيا الّا حين تظهر أخبارٌ من نمط ظهور أسواقٍ للإتجار بالبشر والعبيد في البلد الذي كان يملك أعلى معدّل دخل، وأعلى مستوى لحياة المواطنين، في قارّة افريقيا بأسرها.
في البداية، بحسب آيل، يجب أن نبتعد قليلاً عن شخصيّة القذّافي وفكره السياسي ونرى تطوّر النّظام الليبي كجزءٍ من عمليّة أوسع. لم تكن ثورة «الفاتح» بعناصرها المختلفة (استعادة السيادة، تأميم النفط، طرد الأميركيين، الاشتراكيّة، الوحدة العربية، الخ) اختراعاً ليبياً خالصاً، يقول آيل، بل كانت جزءاً من موجة عارمة حصلت خلال القرن العشرين، تمكّنت فيها شعوبٌ كثيرة في الجنوب العالمي من «استعادة» بلادها بعد أن كانت مستعمرات خارحيّة بلا سيادة ــ وليبيا مثالٌ ساطع على الحالتين.
كان لهذا «الاستحواذ» آثار ماديّة مباشرة: حين يؤمّم البلد نفطه، فهو يستعيده لصالح شعبه، وقد حصلت في ليبيا عمليّة إعادة توزيعٍ «الى تحت» نقلت الشّعب الليبي بأسره من وضعيّة تخلّفٍ فائق واستعمار الى حالة من الرّفاه والاكتفاء والعدالة الاجتماعيّة (يقتبس آيل الباحث رونالد سان جون الذي يسمّي ما جرى في ليبيا، خاصّة في أوساط السبعيينيات، «ثورة اشتراكيّة»). هذا على المستوى الدّاخلي. أمّا خارجيّاً، فقد مارست هذه «الدولة الوطنية» سياسات مناصرة للشعوب ومعادية للهيمنة الغربيّة، من دعمها المفتوح لأكثر فصائل المقاومة الفلسطينية راديكالية (وهذا كان من أسباب تعيين ليبيا كـ«عدو» من قبل البيت الأبيض) وصولاً الى حركات مقاومة مختلفة حول العالم (يمكنك بالمقابل أن تلوم القذافي على سياسات خاطئة، مثل دعمه لعيدي أمين أو تدخّله في تشاد، أو حتّى أنّ المال الليبي في لبنان مثلاً قد ساهم في رفع زعامات نخبويّة وانتهازيّة في صفوف اليسار ــ أصبح أكثرها اليوم في أحضان التمويل الغربي أو الخليجي على أيّ حال ــ ولكن من المفيد أن نذكر أن شخصيّة مثل مانديلا اعتبرت أن جنوب افريقيا مدينة بشكلٍ رئيسي لليبيا الصغيرة، ودعمها للنضال العسكري ضدّ الفصل العنصري. هذا فيما الغربيون يربّتون اليوم على أكتاف بعضهم البعض، ويصدّقون أن المقاطعة والأفلام هي ما أجبر النخبة البيضاء في بريتوريا على التّنازل).
بالمعنى نفسه، كان لانحسار هذه الحركات الشعبيّة في الجنوب العالمي، وصعود «الثورة المضادّة» على مستوى العالم، آثارٌ مشابهة على ليبيا، التي عُزلت، وعانت من انخفاض أسعار النّفط. في الثمانينيات مع الركود والحصار، يقول آيل، ركّزت الدّولة على مستوى الحياة والتقديمات الاجتماعيّة، فيما وضعت المشاريع الزراعية والصناعية الضخمة التي تم تخطيطها في السبعينيات على الرّف، وقد بدأت البيروقراطية وقتها، والناس المحيطون بالنظام، بجمع الأموال والإثراء. تجدر الملاحظة هنا أنّ من عوامل «المناعة» واستمرارية النظام في ليبيا، بحسب آيل، هو أنّ النّظام كان قادراً، بفضل عائدات النفط الكبيرة، على إثراء الفاسدين فيه وتوزيع الرّفاه على المجتمع في الوقت ذاته، وهو ما يستحيل مثلاً في سوريا أو العراق. المفارقة هنا هي أنّ العقوبات، تحديداً، هي ما منع الجناح اليميني في النّظام من المضي قدماً في عملية اللبرلة (فالشركات الخاصة لا تستطيع العمل في جوّ عقوبات، ولا الاستثمارات الأجنبية ممكنة، وانت تحتاج الى إبقاء مهام كاستيراد الغذاء وتوزيعه وتسعيره في يد الدّولة)، حتّى عام 2003.
نفهم هنا ايضاً أنّ كلام القذّافي الذي استخفّ به الكثيرون عن الوحدة العربيّة، وبعدها عن الوحدة الافريقيّة، لم يكن نتاج أوهامٍ أو أهواء، بل كان يعكس الوضع الفريد لليبيا بعد 1969 ومخاطره وضروراته . كما يشرح هيو روبرتز في نصٍّ من عام 2011 (في «لندن ريفيو»)، فإنّ سعي القذّافي الى ايجاد «مظلّة أوسع»، في الايديولوجيا وفي الأحلاف، حول ليبيا، كانت له أسبابٌ وجيهة: انت بلدٌ صغير، غنيّ بالنّفط، وهدف لمطامع دولٍ أقوى منك بكثير، فأنت ــ فهم القذّافي باكراً ــ لن تتمكّن من الصّمود وحدك من غير أن تكون عضواً في منظومة أوسع، تحميك من التدخّل الخارجي والحصار وتعطيك إطاراً للسياسة والهويّة. وحين فكّك السادات الإرث الناصري وتوارى المشروع العروبي، ذهب القذّافي الى افريقيا كإطارٍ بديل (بالفعل، قامت منظمة الوحدة الافريقية بتغطية ليبيا ديبلوماسياً في أكثر من موقع، وكانت ــ في بداية الحرب ــ من الجهات القليلة التي طلبت وقف القتال وعرضت وساطةً للتفاوض بين النّظام ومعارضيه، فيما تآمرت الجامعة العربيّة على ليبيا وكانت أداةً غربيّة لتشريع الغزو).
بعد عام 2003، كما في أكثر الأنظمة «الوطنية»، بدأت اللبرلة في ليبيا من داخل النّظام، «من فوق»، حتّى أنّ بعض أولاد القذّافي كانوا من قادتها. حين تقوم الدولة الليبية بفتح الباب أمام الشركات النفطية الأجنبية، أو تخصّص قطاع الاتصالات، أو تحرّر العملة والفوائد، فأنت تمارس عمليّة مزدوجة: من ناحية انت تفكّ ما يسمّيه آيل «التشابك بين الدّولة والمجتمع»، أي أن تكون مسائل مثل الثّروات الطبيعية والغذاء والتعليم «ملكيّة جماعيّة»، لا تخضع لقوانين السّوق، و«تلعب الدولة فيها دوراً مركزياً في عملية إعادة الانتاج المجتمعي» (وهذا باختصار، في رأي آيل، كان «المكسب» الوحيد لحركات التحرر الوطني في أواسط القرن). من جهةٍ أخرى انت، حين «تحرّر» هذه القطاعات و«تفكّ ارتباطها» ببنية المجتمع، فأنت تفتحها أمام الرساميل الأجنبية بعد أن كانت مغلقة عليها، وتصبح ثروتك وعملتك وعقاراتك «سلعاًَ» تشتريها الشركات الغربيّة وتستثمر فيها وتتحكم بها.
غير أنّ ذلك كلّه لم يكن كافياً، ويوجد هنا أكثر من تفسيرٍ لإصرار الأميركيّين على خلع القذّافي ما أن لاحت الفرصة. يقتبس آيل من كتاب الأكاديمي هوراس كامبل الذي يعتبر أنّ القذّافي، رغم خطواته التصالحيّة، ظلّ عقبةً في وجه الجناح اليميني في الحكم، ويستخدم وثائق في «ويكيليكس» تشرح عدم ثقة المسؤولين الأميركيين بإجراءات القذّافي، وأنّه قابلٌ للارتداد عليها وتأميم النفط من جديد، أو حتّى تصريحٍ لمسؤول ليبيّ رفيع قال لمحاوريه الأميركيين أنّ الإصلاح «الحقيقي» لن يحدث ما دام القذّافي على قيد الحياة.

«أخطاء غربيّة»

نخرج من تجربة ليبيا هنا بخلاصتين أساسيّتين، أولاهما كان من المفترض أن تكون بديهيّة ومتّفق عليها وكان من الممكن أن تقينا الكثير من الخراب، وهي أنّه مثلما يخرج النّاس للثورة والعدالة والتقدّم، فهناك ايضاً من يمكن إخراجه لأجل الرّجعيّة والتفكّك والاحتراب الطائفي والقبلي؛ ولا يعني مجرّد مسير أناسٍ في الشّارع أنّهم على حقٍّ، وأنّهم يمثّلون الشّعب ويريدون الخير ضرورةً وعلينا دعمهم من غير شروط (في الثقافة الاوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، لم يكن هناك تحرّجٌ من الكلام عن وجود كتلٍ اجتماعيّة متعارضة واحتراب بين تيّارات تتنازع الشرعيّة والرؤية للمستقبل. يروي دايفيد هارفي أنّ أحد المباني الحداثية الأيقونية في فيينا كان قد صُمّم على شكل حصنٍ دفاعيّ، في رمزيّة تشير الى القلق من الجماهير الفلّاحية التي تناصر الإقطاع في الريف، وتهدّد بالزحف على المدينة لإحلال النّظام القديم). أمّا الخلاصة الثانية، فهي تنطلق من الأولى وتتعلّق بالدّور الغربيّ في بلادنا وموقع الشرق الأوسط في النظام العالمي.
ينتقد ماكس آيل عدداً كبيراً من المنظّرين، بينهم من يدّعي معاداة السياسات الغربيّة والامبرياليّة، الذين ينطلقون من افتراض أنّ الرأسماليّة تبغي الاستقرار و«سير الأعمال»، وأنّ خراب دولٍ كالعراق وليبيا وسوريا هو نتيجة «أخطاء» يرتكبها النّظام الغربي، سوء تقدير، نتائج غير متوقّعة، «قلّة حزمٍ»، الخ. الفكرة هنا هي أنّ تكرار النتائج ذاتها للتدخّل الغربي، من ليبيا الى فلسطين، ليس صدفةً ولا خطأ. يمكننا هنا أن نستهدي بوالرستين، كما فعل آيل، وهو يشرح أنّ النّظام الرأسمالي المهيمن لا يهمّه فقط «وجود نظام»، بل أساساً وقبل كلّ شيء أن يكون «النظام مؤاتياً»، وهذا يمرّ عبر تخريب «النّظام غير المؤاتي» بالفوضى والحرب. بهذا المعنى فإنّ هدف اميركا هو ليس «تليين» الأنظمة المعادية واستقطابها، بل منع خروج أيّ مشروعٍ مستقلّ في هذه المنطقة الحسّاسة، وأنت لا تحتاج حتّى الى أن تكون اشتراكيّاً أو تقدّميّاً أو معادياً للرأسمالية حتى تعاديك واشنطن وتسعى الى تفتيت بلدك، بل يكفي ــ يحاجج آيل ــ أن تكون خارج «مظلّتها الأمنية» (أي مشايخ الخليج واسرائيل و«دول الاعتدال») حتّى تصبح هدفاً للفوضى والتّخريب ــ سيتمّ استغلال أيّ حدث داخلي أو خارجي ضدّك، ولو حصلت مظاهرات فهم سيحاولون تسليحها وتعزيز العناصر اليمينية فيها والدّفع الى الحرب الشاملة، ولن يكون الهدف هنا حتّى إنشاء نظامٍ بديل، بل تفتيت الدّولة وزرع البلد بالميليشيات، وإحراقه بالكامل لو أمكن، وهو تماماً ما جرى في ليبيا (تخيّل أصلاً من يصلح لتنفيذ مثل هذه المهام ويقبل بتدمير بلده: الزعيم القبلي الذي لا يرى غير مصلحته الضيّقة، المنفي السياسي، الطائفي الذي لا يهمّه سوى قتل عدوّه، المتعصّب المجنون، والمثقّف التابع الذي لا يتحرّج، بعد أن ساهم في تدمير ليبيا وتحطيم شعبها، من المطالبة بـ«النموذج الليبي» في سوريا).
من جهةٍ أخرى، يمكننا أن نرجع الى هادي العلوي الذي صاغ الكلام نفسه بطريقة مختلفة، حين حذّر من وهم التّصالح مع الغرب، لا لأنّنا نكره الغرب ونطمع بتدميره، بل لأنّه هو يعادينا، كطاغيةٍ متسلّطٍ يجاورك، ولن يسمح لنا بالحياة. تأريخ «الجزيرة» وثقافة «العربي» يتجاهلان أو يسخران من مفاهيم مثل التحكّم بالثروة الوطنية، وإعادة التوزيع، وتأمين الرّخاء والخبز للنّاس، أو العداء للغرب والهيمنة، وكلّ الأمور والخطوط الحمر التي «تجاوزها» خطاب «الربيع العربي» ــ أو تعتبرها نافلة. هذه الثقافة تحديداً، وآثارها في السنين الماضية، هي ما يجعل مؤيدي الأنظمة اليوم، في أكثر من بلدٍ، يهدّدون «الناشطين» ــ بثقة ــ بأنّهم لو نزلوا الى الميادين مجدّداً وحاولوا تكرار «الثّورة» بشعارات «الرّبيع»، فإنّ النّاس في الشارع، لا النّظام وبلطجيّته، هم الذين سيلاحقونهم بالضرب والإهانة.