إن استشهاد المقاوم أحمد نصر جرار، بطل عملية نابلس، على يد جيش الاحتلال الصهيوني، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، حاله كحال المئات من المقاومين الذين استشهدوا على يد هذا الحلف الشيطاني، يمثل لحظة مفصلية في تاريخ شعبنا. فبينما يقف الشعب الفلسطيني متفرجاً على أحد فلذات كبده وأخيار أبنائه مضرجاً بدمائه الطاهرة، يجد نفسه أمام لحظة الحقيقة التاريخية التي إن لم يتخطاها، فلن يستطيع أن يعيد بناء مشروعه التحرري. تتجسّد هذه اللحظة التاريخية بضرورة إيجاد جواب عن السؤال الذي لا مناص من الإجابة عنه: ما هي السلطة الفلسطينية؟
لقد أظهرت النخبة السياسية الفلسطينية أنها تفتقد الشجاعة الأخلاقية لمصارحة شعبها بالجواب عن هذا السؤال المصيري، فتواطأت مع سلطة أوسلو صراحة أو ضمناً في مسرحية «القبعات الثلاث». فعندما تريد أن تصفّي حساباتها الفئوية مع حركة «حماس»، تضع على رأسها قبعة «فتح»، وحين تضيق بها الدنيا ويتخلى عنها رعاتها الإقليميون والدوليون، تضع قبعة «منظمة التحرير»، فتنضوي تحت عباءتها كل قيادات التنظيمات متغنّين بكذبة الوحدة الوطنية وأكذوبة المؤسسات الجامعة لهذا الشعب المغدور، مع أن هذه القيادات تدرك بما لا يدع مجالاً للشك أن نفس الأشخاص هم من يتناوبون على ارتداء القبعات الثلاث نفسها.
ولكي نجد جواباًَ منطقياً عن سؤالنا الجوهري، علينا أن نجيب بعض الأسئلة البسيطة حتى لو كان الجواب يبدو بديهياً:
1ــ ما الفرق بين قادة أجهزة السلطة الأمنية الذين يتباهون علناً بعدد العمليات الفدائية التي أجهضوها وبين العميل عقل هاشم مسؤول الأمن في جيش لبنان الجنوبي الذي كانت وظيفته منع قيام العمليات ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبناء عليه ما الفرق بين رئيس هؤلاء القادة الأمنيين ورئيس عقل هاشم؟
2ــ ما مدى اختلاف أجهزة الأمن في سلطة أوسلو، التي أعاد برمجتها الجنرال دايتون وأشرف مع أجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية على تغيير عقيدتها وإعادة صقلها شكلاً وموضوعاً في مسعى لخلق ما سمي «الفلسطيني الجديد»، وبين مؤسسات السلطة الاقتصادية والمالية التي تحاول جاهدة مع البنك الدولي ومؤسسات الإقراض والدول المانحة زيادة دمج الاقتصاد الفلسطيني وتعزيز تبعيته للاقتصاد الصهيوني، واتباع سياسة ترويض أكبر عدد ممكن من العائلات الفلسطينية عن طريق تكبيلها بقروض بنكية استهلاكية حتى تحيدها وتخرجها من دائرة النشاط الفعال في أشكال العمل المقاوم.
لقد تطورت سلطة أوسلو إلى طبقة مرتبطة وجودياً وعضوياً بالاحتلال، فهي تتكون من شبكات من المصالح التي تربطها بالعدو الصهيوني اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وكنتيجة لطبيعة هذا الارتباط فإن هذه الطبقة لن تزول إلا بزوال الاحتلال نفسه.
بررت النخبة السياسية الفلسطينية التهرب من الإجابة عن سؤال ماهية السلطة بأن ذلك سيؤدي حتماً إلى حرب أهلية وإلى تقويض أسس الوحدة الوطنية، مع أن التدقيق في الأمور سيقودنا قطعاً إلى الاستنتاج الفوري بأن مشروع سلطة أوسلو كان العامل الرئيسي وراء الإضرار بالوحدة الوطنية، وأن هذا المشروع نفسه قاد فعلياً إلى حرب أهلية في قطاع غزة عام 2007، وما زال تماهي هذا المشروع مع الاحتلال الصهيوني مستمراً سواءً بالقتل البطيء لشعب غزة عبر فرض العقوبات والمشاركة في حصار القطاع المحاصر أصلاً منذ أكثر من أحد عشر عاماً، أو بالحرب المسعورة التي تشنها قوات الاحتلال مع قوات الأمن الفلسطينية على كل المقاومين في الضفة المحتلة عبر الملاحقة والاعتقال والتنسيق المباشر في حالات كثيرة للتصفية الجسدية المباشرة.
في ظل سلطة أوسلو، شهدت القضية الفلسطينية غياباً كاملاً للقيادة المؤهلة القادرة على قيادة المشروع الوطني الفلسطيني وانعداماً للرؤية وتهميشاً كاملاً لدور الملايين من اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في أنحاء المعمورة نتيجة لإصرار هذه السلطة على التخلي قصداً عنهم وحصر دورها الوظيفي الهزيل أصلاً في بعض أجزاء الضفة وغزة.
لم نصل يوماً إلى هذا المستوى من الإحباط الجماعي وانعدام الأمل الجمعي في إمكانية حدوث تغيير حقيقي في المشهد الراهن، وذلك بسبب وجود هذه السلطة العقيمة، كالذي وصلنا إليه اليوم، وهو أخطر من كل ما ذكر سابقاً. فالإحباط الجماعي المتكرر والشعور بالعجز عن المشاركة الفعالة في المقاومة أدى إلى انحسار الفعل الجماهيري حتى أن أحداثاً كبرى كحرب الإبادة على غزة عام 2014، أو إضراب الأسرى عام 2017، لم تشهد هذا الزخم من التحرك الشعبي، بل يمكن القول إنه حتى بعد إعلان دونالد ترامب الأخير، وإن كان قد أدى إلى اندلاع تحركات شعبية، فإنها بقيت محدودة وليست على المستوى المتوقّع أو المأمول.
إن التوصيف السابق لحال السلطة الفلسطينية وشرح خصائصها وارتباطاتها يتطلب منا جميعاً أحزاباً وقوى وطنية وأفراداً الوصول إلى اللحظة الحاسمة، لحظة الحقيقة، وهي أنه لا يمكن الاستمرار بالتعايش مع الوضع القائم، بل لا يجوز لنا الاختباء من مواجهة المأزق الكارثي الحالي، وهذا يتطلب منا أولاً الاعتراف الواضح والقاطع بأن سلطة أوسلو وما أنتجته من بنى أمنية واقتصادية هي سلطة عميلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. هذا بالضرورة يوجب علينا إيجاد الطرق الكفيلة بتحييد فاعليتها وتقييد قدرتها على الإضرار بالقضية الوطنية.
وإذا لم تتخلّ هذه السلطة طوعاً عن الاستمرار في هذا الخط المدمر، وهي قطعاً لن تفعل بفعل طبيعتها وبنية أنظمتها الأمنية والاقتصادية وشبكة مصالحها، فيجب دفعها وإرغامها على التخلي عنه ولو كرهاً وبكل الوسائل المتاحة، «فلم يبق بيد الشعب من سلاح غير العنف الثوري» للرد على هذه السلطة وردعها.

* طبيب فلسطيني