الفقر في الولايات المتحدة
أكثر من 45 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر الرسمي في الولايات المتحدة الأميركية. ويرتفع هذا الرقم إلى 140 مليوناً (أي ما يعادل 43٪ من عدد سكان البلاد) إذا أضفنا الفئات ذات «الدخل المنخفض» أو التي يبلغ مستواها المعيشي ضعف خط الفقر. وفي الوقت عينه، يبقى الاقتصاد الأميركي الأكثر إنتاجية في العالم، إذ بلغ معدّل نموّه 75٪ خلال السنوات الـ50 الماضية. وفي عام 2017، كان ثلاثة مواطنين أميركيين ذكور يستحوذون على ثروة إجمالية تبلغ 248.5 مليار دولار أميركي، أو ما يعادل كامل الثروة التي تمتلكها الـ50٪ الأكثر فقراً من الأسر، أو 160 مليون شخص.
ويطال الفقر في الولايات المتحدة النساء والأطفال والسكان غير البيض أكثر من سواهم، إذ إن حوالى ثلاثة أرباع الذين يعيشون تحت خط الفقر الرسمي هم من النساء والأطفال. كذلك، فإن 9٪ من الأميركيين البيض يُصنَّفون على أنهم فقراء، في حين أن هذه النسبة تبلغ 19٪ لدى الأميركيين اللاتينيين.
ولكن يتم استغلال النزعات العنصرية والتمييز الجنسي وكره الأجانب من أجل التلاعب بهذه النسب وإحداث الانقسامات في صفوف الفقراء وتضخيمها. نتيجة لذلك، يسود الاعتقاد أن الفقر شبه منعدم في الولايات المتحدة، وأنه في الأماكن القليلة التي ينتشر فيها الفقر، فهو ناجم عن الفشل الشخصي أو يمكن ربطه بالأصول العرقية للفرد أو بلده الأم.
ويشكّل الدين أداةً شديدة الفعالية لتفرقة الناس ولإخفاء ظاهرة الفقر في الولايات المتحدة. وفي حين أن هذه الأخيرة متنوعة دينياً، إلا أنها متجذرة في التراث اليهودي - المسيحي، الذي كان له تأثير مباشر في رؤية الآباء المؤسسين وقوانين البلاد. ويتم الرجوع حتى يومنا هذا إلى الخطاب والأمثلة التوراتية لصياغة البعد الأخلاقي للقضايا السياسية في المجتمع الأميركي، علماً أنه جرى التلاعب بالتصوّر السائد حول الدين من أجل خدمة مصالح أصحاب الثروة والسلطة. فالنظرة المنتشرة حول الدين في الحيّز العام إما تنزع عنه الشرعية وتفصله عن السياسة أساساً، أو تشيع تفسيراً للدين يلوم الفقير لفقره، ويحاجج بأن الفقر أمر محتّم، ويدعي أنّ الخلاص لن يأتي إلا بعد الممات.
وهناك، بالطبع، فهم أكثر تحرراً للدين في أوساط الفقراء، وهو قد نشأ كثمرة لنضالهم من أجل العدالة، ولكن هذا الفهم مخفي ومقموع كالفقراء أنفسهم.

الحركة الهادفة إلى توحيد الفقراء وإنهاء الفقر

في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فاز دونالد ترامب، نجم تلفزيون الواقع ورجل الأعمال الذي بنى ثروته في القطاع العقاري، بأصوات 26٪ من الناخبين ليس إلا. فـ43٪ من الناخبين لم يصوّتوا إطلاقاً في هذه الانتخابات. والجدير بالذكر أن انعدام الثقة هذا في العملية السياسية الأميركية وقادتها، المقرون بالاقتصاد المتهاوي وعقدين من الحروب المستمرة، كلها عوامل قد أدّت إلى صحوة قوية في الوعي السياسي والالتزام الاجتماعي في الولايات المتحدة، توحي بأن الشعب الأميركي بدأ ينظّم جهوده للدفاع عن نفسه.
ومن أبرز الأمثلة عن هذه المقاومة الناشئة في الولايات المتحدة «حملة الفقراء: دعوة وطنية لصحوة أخلاقية» التي أُطلقت أخيراً. وتهدف هذه الحملة، المستوحاة من «حملة الفقراء» التي قادها الدكتور مارتن لوثر كينغ عام 1968، إلى تبديد الانقسامات في صفوف الفقراء والمحرومين وتوحيدهم في كنف حركة اجتماعية تسعى إلى تحقيق تغيير جوهري في المجتمع الأميركي.
وتأتي هذه الحملة نتيجة عقود من مراكمة الجهود التنظيمية على المستوى الشعبي، وهي تجمع قادة من مختلف أنحاء البلاد، بينهم: منظّمون مدافعون عن الحق في الرعاية الصحية، وقادة في الحركات البيئية، وجنود قدامى من الجيش انضموا إلى حركة مناهضة الحرب، وعمّال من ذوي الدخل المحدود، ومزارعون، وعمّال منزليون، وطلّاب، ومهاجرون، وفقراء من البيض والسود واللاتينيين والآسيويين والسكان الأصليين، وشباب وكبار في السن وسكان المدن والأرياف وأشخاص متدينون وغير متدينين وغيرهم الكثير.
بدءاً من 14 أيار/ مايو (تاريخ عيد الأم في الولايات المتحدة)، سيلتزم آلاف الأشخاص في 33 ولاية أميركية على الأقل بتنفيذ عصيان مدني لاعنفي ومنسّق يستمر لـ40 يوماً. والهدف من فترة الاحتجاج والعمل والتعلّم هذه هي حثّ الأمّة على خوض نقاش جديد حول الفقر والرفاه في مجتمعنا. أما الهدف البعيد المدى فهو إنتاج قادة لحقبة طويلة متوقعة من النضال الاجتماعي لمواجهة شرور المجتمع الأميركي والقضاء عليها.

حركة عالمية

نحن ندرك أن النضال من أجل العدالة والكرامة يمتد خارج حدود الولايات المتحدة. فالقوى التي تنتج هذا الكم من الفقر والموت والانحطاط في المجتمع الأميركي تسبّب ويلات مشابهة وأشد وطأة لشعوب أخرى حول العالم. لذا، فالعدو المشترك بيننا وبين هذه الشعوب هو النظام الذي يدعم مصالح أقلية صغيرة عبر إفقار مليارات الناس.
وكجزء من نضالنا في الولايات المتحدة، بدأنا ببناء علاقات مع الكثير من الأخوة والأخوات الذين واللواتي يناضلون ويناضلن من أجل الكرامة والعدالة من مختلف أنحاء العالم. ونحن نتطلّع إلى تعزيز هذه العلاقات وترسيخها كي نعمل معاً لبناء حركة عالمية نحتاج إليها جميعنا.

(للاطلاع على المزيد من المعلومات حول «حملة الفقراء» والنضال لإنهاء الفقر في الولايات المتحدة: www.kairoscenter.org وwww.poorpeoplescampaign.org)

* منسّق برنامج الحقوق والأديان في «مركز كايروس للأديان والحقوق والعدالة الاجتماعية» (Kairos Center)، أعدّ أطروحة دكتوراه في اللاهوت المقارَن إكليريكية «يونيون» (Union Theological Seminary) في نيويورك، تركّز على لاهوت التحرير (liberative theology) والبعد الروحاني الناشئ عن النضال ضد الفقر في الولايات المتحدة ولدى جماعة صوفية مسلمة في غرب أفريقيا. وحائز على إجازة في الفلسفة من جامعة شيكاغو وماجستير في اللاهوت من إكليريكية «يونيون»