منذ ما يقارب السنتين بدأت ملامح الحوار المباشر بين إيران والولايات المتحدة الأميركية في الملفّ النووي الإيراني، ليقفز بعدها إلى العلن، في تطوّر رآه كثيرون انعطافاً في الموقف المبدئي الذي تبنّته الجمهوريّة الإسلاميّة تجاه «الشيطان الأكبر». وكأيّ موقفٍ تقفه الحركة الإسلاميّة، سواء كانت دولةً أو حزباً أو غير ذلك، لا بدّ من إرجاعه إلى أصوله النظريّة، بهدف التأكّد من وجود المبرّر الشرعي له، إضافة إلى تبيّن حدود هذا المبرّر حذراً من تجاوزه بفعل تعقيدات الواقع وضغوطه.

ويبدو أنّ الباب لمعالجة هذه المسألة هو السؤال التالي: هل مسألة العلاقة السلبيّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة هي ـ في الأصل ـ مسألة ثابتة أم متحرّكة؟ أو هي بين بين؟ والسّؤال الّذي يطرح نفسه تالياً: هل يُمكن أن يؤمّن ذلك غطاءً لليونةٍ تجاه العدوّ الصّهيوني أيضاً، أو إعطاء شرعيّة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، نظراً إلى كون احتضان «إسرائيل» يمثّل ثابتاً من ثوابت الاستراتيجيّة الأميركيّة تجاه المنطقة العربيّة والإسلاميّة؛ الأمر الّذي يعني أنّ الاتّفاق معها لا بدّ من أن تكون له صلةٌ بهذا الثابت؟

ثبات قضيّة فلسطين إسلاميّاً

ربّما يحسُن البدء من حيثُ انتهى السؤال الأخير، لنقرّر بما لا يقبلُ الشكّ، أنّ الرفض لشرعيّة الكيان الصهيوني هي مسألة مرتبطة بالمبادئ الثابتة، والتي هي مبادئ تتّصل بالموقف من أصل وجود هذا الكيان؛ لأنّه كيانٌ قائمٌ على الغصب للأرض، والغاصبُ مُطالبٌ في الفقه الإسلامي بأن يردّ ما اغتصبَه مهما تقادم الزّمن؛ بل يكاد القرآن الكريم يثبّت استراتيجيّة إسلاميّة في تحرير بيت المقدس، وذلك قوله تعالى: «فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً» (سورة الإسراء، الآية 7). ولعلّ من نافلِ القول هنا، أنّ هذا المبدأ لا يدخل - تحت ظلّ التخاذل النفسي والجهادي - ضمن فقه الضّرورات التي تبيح المحظورات؛ لكون الكيان الصهيوني قائماً في بنيته على عقيدة استكباريّة توسّعيّة يقف على النقيض التامّ من الوجود الإسلاميّ؛ ما يعني أنّ القبول بشرعيّته هو أشبهُ ما يكون بالقول بشرعيّة ضرب الإسلام والكيان الإسلاميّ!
وقد يتساءلُ قائلٌ: أين تضعون التفاهمات الميدانيّة السياسيّة الّتي حصلت سابقاً، بين المقاومة في لبنان وفلسطين وبين العدوّ الصهيوني، كما حصل في تفاهمات 1993 و1996 في لبنان، و2008 و2012 في غزّة - فلسطين، وغيرها؟ أليس هذا نوعاً من الاعتراف بالأمر الواقع الاحتلالي؟
ولكنَّ المسألة هنا مختلفة تماماً، ولا تُمكن قراءتها بمعزل عن الظّروف الّتي كانت قبل التفاهمات وبعدَها؛ لأنّ التفاهم لا يمثّل اعترافاً بالشرعيّة، وبالتّالي اصطداماً بالمبدأ، وإنّما هو محطّة من محطّات الصّراع تقتضيها المعطيات القائمة وموازين القوى الإقليميّة والدوليّة، ليُعمل على تثبيت الأرضيّة التي تتحرّك عليها الخطّة المتكاملة للتحرير الكبير؛ وهو ما حصل فعلاً في انتصار عام 2000، وما تم تثبيته أكثر في انتصار 2006 في جنوب لبنان.

المبدأ الثابت والآليّات المتحرّكة

وهنا نستطيع أن نُطلق قاعدةً للسياسة الإسلاميّة، وهي أنّ الإسلاميّين، ولا سيّما عندما يتحرّكون ككيانات سياسيّة ضمن منظومات عالميّة من الدول والأنظمة، يتحرّكون ضمن مجموعة من المبادئ الثابتة التي تمثّل القضايا المركزيّة التي تتّصل بالوجود الإسلامي ومتعلّقاته، ولكنَّ هذه المبادئ عندما تنزل إلى أرض الواقع فإنّها تصطدم بجملة من العوامل والضغوط التي قد تتعقّد وتصل إلى مرحلة تهدّد الوجود نفسه، أو تحوّل المبدأ إلى عكسه، فهنا تنشأ جملة من التكتيكات المرتبطة بالواقع العملي وظروفه، ويطلق عليها في الفقه «العناوين الثانويّة» في مقابل المبادئ الثابتة التي تمثّل «العناوين الأوّليّة»، وهذه التكتيكات هي خيارات آنيّة في سبل المحافظة على المبادئ ريثما تتغيّر الظروف.
على سبيل المثال، حرّم الله أكل الميتة ولحم الخنزير، ولكنّه أباحهما لمن توقّفت حياته على أكلهما، فقال تعالى: «إنّما حرَّمَ عليكم الميْتَةَ والدَّمَ ولحمَ الخِنزير وما أُهلَّ به لغير اللهِ فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه» (سورة البقرة، الآية 173)، وهنا كانت مصلحة المحافظة على حياة الإنسان أهمّ من مفسدة أكل الميتة أو لحم الخنزير، مع الالتفات إلى نقطة، وهي القيد الذي ذكرته الآية، وهو قوله تعالى: (غير باغٍ ولا عادٍ)، والمرتبط بسلامة النيّة والتوجّه في الثبات على المبدأ، وهو ما يسمح بالاقتصار على مقدار الضرورة والبحث عن الخيارات البديلة قبل الإقدام على الفعل المحرَّم، إضافة إلى أنّه الذي يضمن إعادة تفعيل الالتزام بالحكم بمجرّد يرتفع الاضطرار.

خصوصية إيران في كونها
تمثّل حركة إسلاميّة تعمل على تقديم نموذج إسلامي تطبيقي

وما دمنا نتناول قضيّة عداءٍ وحربٍ، فلعلّ من المناسب أن يكون المدخل هنا هو الآية القرآنيّة: «يا أيّها الذين آمَنوا إذا لقيتُمُ الذينَ كَفَروا زَحْفاً فَلا تُوَلّوهُمُ الأدْبارَ * ومَنْ يُوَلِّهِمْ يومَئذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أو مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فقد باءَ بغَضَبٍ من اللهِ ومأواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصيرُ» (سورة الأنفال، الآيتان 15-16)، حيث توحي الآية بأنّ المبدأ الأساس هو المواجهة المباشرة ضمن صراع القوى؛ لأنّ حالة الوهن والفرار من المواجهة، تؤدّي إلى ضرب المبدأ الّذي يُراد تثبيته من خلال الوجود الإسلاميّ.
أمّا عندما تحتاجُ الظّروف إلى حركة التفافيّة، أو الانتقالِ إلى موقعٍ آخر، يستهدف تحقيق النصر، ضمن خطّة مدروسة الخطوات والنّتائج، فإنّ هذا أمرٌ جائزٌ، بل مطلوبٌ؛ انطلاقاً من الواقعيّة الإسلاميّة الّتي لا تغامر ولا تجازفُ بالمبدأ لحساب الشّعارات الكبيرة عندما لا تمثّل أيّ حالةٍ واقعيّة بحسب الظروف الموضوعيّة، بل تتحرّك وفق ما يخدم خطّتها للنّصر والنّجاح ضمن الظّروف الممكنة واقعيّاً، وتعمل ـ في الوقت نفسه ـ على تغيير الظّروف، عبر تجميع القوى وإعادة الانتشار، وما إلى ذلك من تكتيكات معروفة في عالم القتال والمواجهة.
وانطلاقاً من هذا التوجيه، لا تعود الآية الكريمة مختصّة بموضوع القتال العسكري، فإنّ المبدأ الذي تستند إليه لا يقتصر على هذا الجانب، بل يُمكن أن ينسحب ذلك على كلّ ألوان الجهاد، سواء كان سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو أمنيّاً أو ما إلى ذلك. فإذا كانت الأهداف السياسيّة الإسلاميّة الكُبرى تتطلّب حركة التفافيّة، أو تجميداً لمواجهة في جانبٍ، لأجل إعادة حشد القوّة مقدمةً لإضعاف العدوّ من جانبٍ آخر، كان ذلك من ضمن آليّات الحركة المبرّرة شرعاً، بشرط أن تبقى مرتبطةً بالمبدأ الأساس؛ وهكذا في سائر المجالات. وهذا يتطلّب أن يكون الإسلاميّون على درجة عالية من معرفة الواقع والظروف، وكيفيّة استثمار الإمكانيّات وتوظيفها ضمن الخطّة الموضوعة سلفاً للحركة نحو النّصر وتثبيت عناصر القوّة؛ لأنّك لا تستطيع أن تكون واقعيّاً وتحافظ على ثبات المبدأ من خلال ارتجال المواقف؛ لأنّ المسألة حينئذٍ هي أنّ الظّروف هي الّتي تتحكّم بالحركة والموقف بحسب الفرض، والمبدأ هو الذي يحدّد المسارات والخطوط الحمراء في التعامل مع تلك الظروف.
ولعلّنا هنا نحتاج إلى الإطلالة على الظروف الموضوعيّة لنحدّد طبيعة الموقف قياسًا بالاستراتيجية والتكتيك. هنا لا بدّ لنا من العودة إلى مرحلة انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، وهي التي كانت لحظة بناء الجمهوريّة الإسلاميّة كنموذج للحكم الإسلامي ضمن صيغة فقهيّة معيّنة عبّرت عن نفسها بنظام مؤسّسي، وهي اللحظة ذاتها التي شنّ فيها النظام العراقيّ حرباً بالوكالة عن كثير من الدول، وفي مقدمتها الولايات المتّحدة الأميركية، بهدف القضاء على تلك الدولة. وصمدت الجمهوريّة الإسلاميّة في تلك الحرب، وضغطت الظروف الموضوعيّة باتّجاه القبول بالقرار الدولي 598؛ لأنّ الكيان الإسلامي أصبح في خطرٍ في نظر الإمام الخميني، مؤسّس الكيان وقائد الثورة، فتجرّع السمّ بذلك – بحسب تعبيره -، وأثناء ذلك كانت إيران تدعم حركات المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان وفلسطين، ورفعت شعار العداء المطلق للكيان الصهيوني، وكان العداء للولايات المتحدة الأميركية تابعاً للدعم المطلق لهذا الكيان، إضافة إلى التآمر على الوجود الإسلامي للدولة الناشئة، كما على كلّ شعوب المنطقة؛ بل إنّ الإمام الخميني طرح مبدأ المواجهة بين المستضعفين والمستبكرين، استلهاماً للمبدأ القرآني الذي يجعل عنوان المشكلة والصراع بين البشر هو الاستكبار بكلّ مفاعيله.
وتوالت الضغوطات على الجمهوريّة الإسلاميّة التي حاولت أن تحوّل التحدّيات إلى فرص للنهوض، وليس للصمود فحسب، حتّى توالى على المنطقة الكثير من المتغيّرات التي استفادت منها إيران في تطوير عوامل نهوضها، وعلى رأسها إنتاج الطاقة النووية للأغراض السلميّة – بحسب ما أعلنت -. وكانت مؤشّرات عديدة تفيد أنّ مشكلة الغرب مع إيران ليست في القنبلة النوويّة القابلة للضبط بقوّة الطرف المقابل، وإنّما في الخبرة النووية التي يمكن أن تساعد في عمليّة نهوض اقتصاديّة وعلميّة شاملة، ولا سيّما أنّ العلماء النوويين هم من الشباب، وتحديداً بين العقد الثاني والثالث من العمر، أيْ أنّ الاستثمار في جيلٍ واحدٍ يقاس بالعقود، وعلى هذا القياس في سائر مجالات العلوم، إضافة إلى الموارد المادّية والثروات الطبيعية التي تمكّن الموارد البشريّة من تحويل الخطط إلى واقع على الأرض.
إضافة إلى ذلك، كانت متغيّرات عديدة تمثّلت بنهضة شعوب المنطقة التي حقّقت في لبنان انتصارات أسطوريّة على العدوّ الصهيوني، وكذلك في فلسطين المحتلّة في حركة المقاومة التي فرضت تحرير غزّة وصمدت في حرب 2008 وما بعدها، إضافة إلى ما أصاب الاحتلال الأميركي في العراق من ضربات المقاومة العراقيّة مدعومةً من إيران، وقبلها في أفغانستان، ولم تغب إيران عن ذلك المسرح أيضاً؛ الأمر الذي كان يقدّم العبر في طبيعة التكاليف التي يمكن أن تفرضها أيّ حربٍ على شعوب المنطقة حتّى من قبل الدول الكبرى نفسها.
وبتعبير آخر، إنّ القوى الغربيّة إذا كانت فشلت في إخضاع الواقع الإسلاميّ وقوى المقاومة، ووجدت نفسها أمام ضرورة إعادة التموضع في سبيل تجاوز ظروف ضاغطة عليها في مواقعها، بهدف تقطيع الوقت؛ فإنّ هذا ينبغي أن يكون كافياً، بالنّسبة إلى الإسلاميّين، لكي يستثمروا ذلك في عمليّة تثبيت موقع القوّة، في استنادٍ إلى الاعتراف الدّولي بالدّور والموقع، بما يسمح بنقل الإسلاميّين من موقع النزاع على الوجود، إلى تثبيت الحضور والاستمرار في عمليّة مراكمة القوّى الذاتيّة.
من الطبيعي أنّنا لا نفترض هنا أن تقبل الدّول المستكبرة بأن يستكمل المسلمون عمليّة بناء القوّة الذاتيّة بما يجعلهم في موازاة الفعل الحضاريّ لفعل الغرب، بل إنّنا نفترض هنا أنّ ثمّة تغيّرات واقعيّة فرضت على الغرب المستكبر التواضع قليلاً، والتراجع نسبيّاً، إمّا لإيجاد مخارج لأزمات متراكمة، أو للتعامل مع الواقع تجنّباً لنتائج سلبيّة مضاعفة؛ وهو ما قد يؤمّن الظرفَ الملائم لتثبيت موقع إسلاميّ متقدّم في سياق التعامل مع الواقع الدّولي الضّاغط بطبيعة الحال.
وربّما يكون لزاماً علينا، كإسلاميّين، أن ندرك أنّ شيئاً ما قد تغيّر في حركة السياسة الدوليّة وصراع الإرادات على ذلك المستوى، وفي الوقت نفسه، نعرف أنّه لا يمكن القبول بأي فراغ على مستوى النظام العالمي القائم من دون بدائل حقيقيّة وواقعيّة قادرة على ملئه؛ لأنّ الفراغ يعني الفوضى التامّة على المستوى العالمي، وهذا يهدّد العالم بأسره، وليس دولاً أو مجتمعاتٍ بخصوصها، ومنهم الإسلاميّون بطبيعة الحال؛ الأمر الذي يعني أن التسوية مع الغرب، بالرغم من استكباره وطغيانه، هو أحسن الممكن، في تحقيق الأرضيّة لمراكمة صناعة القوّة والعمل على إيجاد محاور دوليّة يمكن أن تشكّل بديلاً واقعيّاً حينما تتغيّر الظروف الموضوعيّة على المسرح العالمي.
إلى هنا، يُمكن أن نحدّد بوضوح، أنّ هذا الاتّفاق لا يعني التنازل عن المبادئ العامة لحركة السياسة الإسلاميّة، بل هو حاصلٌ على قاعدة اقتراب الآخرين، وإن مُكرَهين، من تلك المبادئ، في مكانٍ يؤسّس للندّية – ولو بمستوى ما – بين الطرفين الرئيسين؛ لأنّه لا يُمكن لك أن تحقّق ربحاً على ضوء خسائر قد تمسّ أصل وجودك وعنوانك الّذي تتحرّك من خلاله، ليس الوجود المادّي فحسب، بل الوجود المعنوي الفاعل أيضاً، والذي يحقّقه مبدأ العزّة الذي يمثّل ثابتاً من الثوابت الإسلاميّة التي لا يمكن التنازل عنها، كما قال الإمام جعفر الصادق (ع): «إنّ الله فوّض إلى المؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً» (الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص63) انطلاقاً من قول الله تعالى: «ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين» (سورة المنافقون، الآية 8).

خطوط المرحلة المقبلة

إذا كان الاتّفاق النووي الإيراني الغربي سيؤسّس لمرحلة جديدة، فإنّ من المفيد التفكير جديّاً في جملة من الخطوط التي تفرضها المبادئ الإسلاميّة نفسها، وذلك ما نطرحه في نقاط:
أوّلاً: قضيّة فلسطين.

حقيقة الصراع منذ البداية ليس في البُعد العسكري للملفّ النووي، وإنّما في البُعد العلمي
انطلاقاً من المبادئ الثابتة في رفض الاحتلال والظلم وكلّ ما يوجب إضعاف كيان الأمّة، لا يستطيع الإسلاميّون الاقتراب من الولايات المتحدة الأميركيّة على نحو يضربُ هذا المبدأ؛ فإمّا أن تتنازل الولايات المتحدة الأميركية عن تبنّيها المطلق لإسرائيل وتناصر قضايانا، وهذا وهمٌ في وهمٍ، وإمّا أن نفترض أنّ التّقارب ـ بما لا يصطدم بذاك المبدأ ـ يخدم الهدف الكبير في إضعاف كيان العدوّ، وإضعاف جبهته العالميّة المستفيدة من استمرار استعداء كثير من مواقع القوّة الّتي تقفُ معه على طرفي نقيض وجهاد وصراع وجود. وممّا ينبغي لفت النظر إليه أنّ جزءاً أساسيّاً من سياسة الكيان الصهيوني قام على ابتزاز القوى الغربيّة المستكبرة تجاه حماية هذا الكيان، وقد كان العداء لإيران والقنبلة النووية الإيرانية أحد أبرز الآليّات المستخدمة في ذلك. ومع أنّ المصالح الغربيّة تلتقي على العداء لإيران ككيان إسلامي فاعل، إلّا أنّ من الممكن قراءة المتغيّرات السياسية والأمنية والاقتصاديّة العالميّة، كأحد العوامل الأساسيّة التي فرضت على تلك القوى المواءمة – على الأقلّ – بين مصالحها ومصالح إسرائيل، بما قد يسمح بوجود منطقة فراغ يُمكن للسياسة الإسلاميّة النفاذ منها لفرض بعض شروطها.
وأيّاً تكن الحال، فيبدو أنّ الاستراتيجيّة الإسلاميّة للمرحلة المقبلة واضحة، لجهة عدم إمكانيّة الاسترخاء أمام عدوّ يجيد وضع الخطط المتراتبة، فإذا لم يكن تنفيذ الخطّة الأولى، فإنّ هناك أكثر من خطّة بديلة تعتمد استراتيجيّات وآليّات مختلفة، ولكنّ الهدف لم يتغيّر إلى الآن.
ثانياً: لقد كانت حقيقة الصراع الإيراني الغربي منذ البداية ليس في البُعد العسكري للملفّ النووي، وإنّما هو في البُعد العلمي – كما أشرنا -، وارتباطه بإرادة نهوض إسلاميّة على كلّ المستويات. والذي حصل بعد الاتّفاق هو الحصول على الاعتراف العالمي بإيران نووية علميّة، ما يعني أنّ الاتّفاق النووي ليس نهاية المطاف، وإنّما هو البداية لتفعيل كلّ خطط النهوض التي أصبحت جزءاً من إرادة إيرانيّة عليا ظهرت مؤشّراتها في عمليّة التطوير التي طالت كلّ شيء في إيران، حتّى وصلت إلى الحوزة العلميّة التي خطت خطوات واسعة في اتّجاه المأسسة التي تخدم متطلّبات الواقع بتعقيداته وحاجاته المستجدّة والآخذة بالاتّساع يوماً بعد يوم.
ثالثاً: في حديثٍ عن رسول الله (ص) أنّه تلقّى المسلمين العائدين من ساحة الجهاد يوماً قائلاً: «مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر» (الكليني، الكافي، ج5، ص12)، وهو جهاد النفس. فإذا كانت حركة الصراع في وجهها الأبرز للمرحلة الماضية هي في اتّجاه عدوّ خارجيّ موصوف، فإنّ تحدّيات السلم والمهادنة مع ذلك العدوّ تبدو أكثر تحدّياً؛ لأنّ من شأن مرحلة السلم أن تحفّز أيّاً من عوامل الضعف الموجودة طبيعيّاً على المستوى الفردي أو في المجتمع في حالة الاسترخاء، والتي عادة ما تغطّيها أو تجمّدها حرارة الصراع الخارجي، وما لم يتمّ العمل عليها فإنّ العدوّ الخارجي، الذي لم يغيّر أهدافه في ما يخصّ الدولة وإنّما وقّع اتفاقاً معها نتيجة ظروف متعدّدة فرضت ذلك، هذا العدوّ الخارجي سيبقى يتحيّن الفرصة للنفاذ إلى الساحة الإيرانية لضربها من الداخل، وهو ما شهدنا بعض سيناريوهاته أثناء ما سمّي بالثورة الخضراء قبل سنوات. ولذلك يصحّ كثيراً التنبيه الذي صدر من مرشد الجمهوريّة الإسلاميّة، وهو عدم تغيّر موقف إيران تجاه الولايات المتّحدة الأميركية التي ستبقى شيطاناً أكبر طالما لم تتغيّر بنيتها المؤسّسية الاستكباريّة، والتي من أبرز ثوابتها التزام أمن الكيان الصهيوني بالكامل، بما يعنيه ذلك من الوقوف ضدّ مصالح الشعوب كلّها في حاضرها ومستقبلها، لا على المستوى الأمني فحسب، وإنّما في كلّ مجالات النهوض. وهذا الأمر ينبغي أن يتحوّل إلى شيءٍ من الثقافة العامّة في الداخل الإيراني، تتمّ مأسسته بعيداً عن الاصطفافات السياسية الداخليّة في إيران والتي ينبغي أن تكون خطّاً واحداً في مواجهة التحدّيات التي تهدّد الدولة ككل في كلّ مرحلة، وإنّما قد تختلف في التكتيكات والأساليب.
رابعاً: إيران لا تمثّل دولة كبرى في المنطقة فحسب، وإنّما خصوصيّتها في كونها تمثّل حركة إسلاميّة تعمل على تقديم نموذج إسلامي تطبيقي يستند إلى بناء الدولة استناداً إلى المبادئ الإسلاميّة الثابتة والمتحرّكة. ونعني بالمبادئ الثابتة القواعد الأساسيّة للحكم الإسلامي، والمتمثّلة بكون الإسلام هو المرجعيّة القانونيّة والقيمية للدولة، أمّا المتحرّكة، فهي ما يفرضه تطوّر الزمان من الوسائل التي تتمظهر فيها تلك المرجعيّة. إيران هنا – بلا شكّ – دولة مؤسّسات، استطاعت أن تصوغ نظامها السياسي – بمعزل عن أي نقاش نظري – ضمن مؤسّسات حديثة تملك ثباتاً واستمراريّة في العمل والإنتاجيّة بعيداً عن الأشخاص، وبهذا أصبحت إيران تمثّل نموذجاً لتجربة إسلاميّة في الحكم، بمعزل عن الجدل المذهبي أو السياسي المحيط بهذه المسألة والمنطلق من تعقيدات الصراع المذهبي والسياسي، والجوهر العميق لهذا النموذج هو ما أشرنا إليه آنفاً، وهو الجمع بين الأصالة والمعاصرة والبناء على خصوصيّة المجال الاجتماعي والثقافي الذي تتحرّك فيه الدولة، ولذلك قد يكون للخصوصيّة الثقافيّة الفارسية دورها في طبيعة شكل الدولة وهيكليّتها، إلّا أنّ ذلك لا يعني إمكانيّة استنساخ النموذج الإيراني في المضمون والشكل، فهذا خلاف قوانين الحياة والاجتماع الإنساني، لكنّ ما هو مطلوب من الحركات الإسلاميّة، إلى أي مجال أو مذهب انتمت، أن تدرس النموذج من داخل بنيته الإسلاميّة، وتبني على التجربة في إيجابيّاتها وسلبيّاتها، في إعادة إنتاج البنية الإسلاميّة لكن ضمن خصوصيّات المجال والظروف الموضوعيّة.
ولعلّه ينبغي التأكيد هنا أنّ البُعد المذهبي للتجربة الإسلامية الإيرانية لا ينبغي أن يكون عائقاً أمام انفتاح الحركات الإسلاميّة الفاعلة في مجالات مذهبية أخرى عليها، ونقدها بموضوعيّة من خلال نسقها الداخلي؛ لأنّ بعض إخفاقات الإسلاميّين قد يكون أحد أسبابها هو التموضع المذهبي، المتأثّر بالتموضعات السياسية في المنطقة، والتي جعلت كلّ تجربة تبدأ من الصفر غير بانية على تراكم الخبرات خلال سنوات ماضية كان فيها الإسلاميّون خارج الحكم، وبذلك خسرت الحركة الإسلاميّة - بعنوانها العام - تجربة إسلاميّة لها خصوصيّتُها ولكنّها قد تغني رصيد سجلّ التجارب الناجحة في تاريخ الحركة الإسلاميّة، ولا سيّما أنّ التجارب المعاصرة قليلة جدّاً، إن لم تكن نادرة، في هذا العصر. وفي كلّ الأحوال، مسؤوليّة ذلك تقع على عاتق كلّ الأطراف، سواء في سياسة إيران الخارجيّة أو في نظرة الشعوب إلى تجارب بعضها البعض.
خامساً: انطلاقاً ممّا تقدّم، لا بدّ أن يستمرّ الرفض التامّ للصلح مع العدوّ الصهيوني؛ لأنّ قضيّة فلسطين تمثّل ثابتاً من ثوابت الإسلام، سواء نظرنا إليه بالعناوين الشرعية الأوّلية أو بالعناوين الثانويّة؛ بل يُمكن هنا أن نطلق الموقف الإسلاميّ الثابت لنقول، إنّ أيّ حركة إسلاميّة، سواء كانت حزباً أو حركة أو دولةً أو ما إلى ذلك من أطرٍ، تتنازل عن قضيّة فلسطين تحت أيّ ذريعة، إنّما تفقد مشروعيّتها الإسلاميّة؛ لأنّها ستتحوّل إلى إطارٍ إسلاميّ فارغ من التّرجمة العمليّة للخطوط الإسلاميّة النظريّة على أرض الواقع، ويبقى على ظروف الواقع أن تحدّد طبيعة الحركة والآليّات ضمن هذا الثابت الاستراتيجي.
سادساً: انطلاقاً من تأكيدنا التجربة ببعدها الإسلامي، فإنّ تثبيت ما يتمّ فرضه من حضورٍ إسلاميّ، عبر الاعتراف الغربيّ بالحقوق المشروعة لأيّ دولة أو جهة إسلاميّة، إنّما يتحقّق عبر استمرار السّعي إلى تمتين الروابط الإسلاميّة، بين الدول والأحزاب والجهات المتنوّعة، وهو ما أعلنته إيران مراراً منذ انطلاق ثورتها في نهاية سبعينيّات القرن الماضي؛ لأنّنا إذا كنّا نتحدّث عن خطّة استراتيجّية لتحقيق العزّة والاستقلال والتحرير على مستوى قضايا العالم الإسلاميّ، فلا يُمكن أن يكون الاتفاق مع الغرب عنصراً من عناصر تمكين الدول المستكبرة من تحقيق عمليّة التفافٍ تزيد من حدّة الانقسامات بين دول المنطقة، عبر استراتيجيّتها في السيطرة على مقدّراتها ومصادرة مستقبلها ومنع نهوضها الحقيقي.
ولذلك، فإنّ وجهة اعتراف الدّول الكبرى بحقوق إيران المشروعة، ينبغي أن تصبَّ اعترافاً بحقوق المسلمين، ككيانات ودول وجهات، بأن يمارسوا حقوقهم بكلّ حرّية واستقلاليّة. وهنا ينبغي أن يتحرّك جهدٌ فكريّ وسياسيّ وثقافيّ وإعلاميّ، بهدف إظهار أنّ ما يتمّ إنجازه، إنّما يخدم المصلحة الإسلاميّة العليا، وليس على حساب المكوّنات الأخرى للأمّة، ولا سيّما في ظلّ السّعار المذهبيّ الذي يستهدف إعطاء النّهوض الإسلاميّ في إيران، والتّقارب الحاصل الآن، عنواناً مذهبيّاً يوضع في خانة استعداء المذاهب الأخرى التي جعلت عناوين لدولٍ وحركات إسلاميّة أخرى في المنطقة؛ لأنّ هذا الأمر قد يؤدّي إلى إسقاط كلّ مواقع القوّة مستقبلاً، إذا ما تغلّبت الدّول الكبرى على نقاط الضّعف التي اضطرّتها للتّراجع نسبيّاً.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الوحدة الإسلاميّة التي رفعها الإمام الخميني كشعار استراتيجي، ينبغي أن يتأكّد العمل عليه في الشّكل والمضمون والآليّات، وبزخم أكبر، بهدف إزالة ما أفرزته الأحداث الأخيرة التي ذهبت بعيداً في مذهبة الصراع، بغضّ النظر عن الأسباب الكامنة وراء ذلك؛ لأنّ ذلك هو الّذي يمتّن الخطّة الإسلاميّة الكبرى في تحقيق الاستقلال، ويفوّت الفرصة على المستكبرين إذا ما أرادوا الالتفاف وإسقاط الواقع من جديد.
أخيراً: إنّنا لا نريد أن نرسم صورةً مثاليّة أو خياليّة عمّا يمكن أن يتحقّق للإسلام والمسلمين في ظلّ الظّروف الدّوليّة الراهنة؛ لأنّ المسألة سابقة لأوانها قبل استقرار مآلات الأمور، بقدر ما نريد الإشارة إلى ضرورة النّظر إلى عمق المشهد الشّرعيّ والواقعيّ على حدّ سواء؛ لئلا تختلط الأمور على الحركيّين الإسلاميّين، فضلاً عن الآخرين؛ وليكون ذلك فرصةً لإثارة التّفكير في هذا النّوع من القضايا، في عالم متغيّر بسرعةٍ قياسيّة؛ والله من وراء القصد.
* باحث لبناني