عادة، لا يجوز التعرّض لأفراد عائلة الزعيم أو الحاكم إلّا إذا خالفوا القانون أو تعاطوا الشأن العام أو جاهروا بمواقف سياسيّة. لكن في العالم العربي، يصعب التمييز لأن كل أفراد عائلة الحاكم تغوص في السياسة و«البزنس» وتغرف من الفساد المستشري ولها رأي في كل مجريات الكون. لكن يحقّ للزعماء في لبنان، من باب خلق الأدب السياسي، الاحتفاظ بخصوصيّة وإن حرموها هم عن الناس الذين تخضع حياتهم الخاصّة وتغريداتهم الشخصيّة لرقابة وقمع وفقاً لمزاجيّة وخاطر الحكّام والزعماء. لكن تيمور جنبلاط لم يعد محصوراً في الحيّز الخاص، إذ هو خرج - أو أُخرِج - بطنطنة إلى الحيّز العام وأصبح خليفة رسميّة لوالده وزعيم قائمة ترشيح انتخابيّة. أطلّ ابن الزعيم. لكن لم تلقَ مقابلة تيمور جنبلاط على برنامج «كلام (أفسد) الناس» في الإعلام اللبناني ما لاقته من سخرية واستفظاع على مواقع التواصل الاجتماعي. والهوّة بين ما يُقال على مواقع التواصل وبين ما يُقال وما لا يُقال في الإعلام التقليدي دليل آخر على فساد الإعلام الخاضع لعروض التأجير، الداخلي والخارجي. والمحطّات اللبنانيّة تتنافس في عرض «حزمات» من الخدمات على المرشحين من دون إعلام المشاهدين بخلفيّة ظهور المرشحين، أو أولادهم وشركائهم في الصفقات. والإعلام في لبنان جزء من شبكة الفساد بسبب تشابك المصالح الماليّة بين أصحاب المحطات وبين الأنظمة الفاسدة أو الساسة الفاسدين.
لكن ظهور تيمور جنبلاط كان فرصة لتسليط الضوء على الفساد الإعلامي والسياسي في لبنان. وليد جنبلاط لم يتوقّف عن إعلام جمهوره أنه يعدّ تيمور للزعامة، ويقصّ حكاياتٍ عن دراسته: ودرس ابن الزعيم في الجامعة الأميركيّة في بيروت قبل أن يدرس في معهد عالي باريسي (من دون أن يحصل على شهادة) لكنه لم يُجلّ في المكانيْن. لكن دراسة ابن الزعيم ومهنته تتقرَّر من قبل الزعيم. ابن الزعيم مقيّد - ليس إلى درجة تقييد أتباع الزعيم لكنه مقيّد. (المرأة محرومة من الوراثة السياسيّة إلا عندما تفتقر الذريّة إلى الرجل). عليه أن يحمل على منكبيْه مخطّط والده للحفاظ على زعامة ورثها هو من أبيه أو عمّه أو جدّه. ووالد ابن الزعيم يقرّر متى يصبح الوقت مؤاتياً لإطلاقه على الملأ. كان يحصل ذلك في مناسبات فولكلوريّة، مثل تلك المناسبة التي أورث فيها وليد جنبلاط ابنه في المختارة وسلّمه الزعامة شكليّاً وسلّمه كوفيّة فلسطينيّة لم يكن ينقص مراسم تسليمها إلا جيفري فيلتمان - صديق الزعيم الأعزّ. لكن الإطلاق الفعلي حدث على برنامج «كلام (أفسد) الناس».
المحطّات اللبنانيّة تتنافس في عرض «حزمات» من الخدمات على المرشحين


والبرنامج هذا يصلح لإطلاق أبناء الزعماء، خصوصاً هؤلاء الذين يرتبطون بعلاقات اجتماعيّة شخصيّة (أو ماليّة عاطفيّة) مع المُحاوِر الذي لا ينمّ أداؤه عن سلوك منزّه عن التعاطف الشخصي والسياسي مع ضيوفه، والذي يمتاز بحماسته الشديدة في الدفاع عن حاكم لا يقطن في بلاده، وبالتهاون مع نقد حاكم بلاده من قبل أتباع الحاكم الذي يدافع عنه بحماسة على برنامجه ويمنع ضيوفه من انتقاده. والمُحاوِر هذا لا يخفي علاقته الشخصيّة أو «صداقته» مع الزعماء (هل الصداقة ممكنة أو صادقة مع الزعماء خصوصاً من قبل إعلاميّين؟). وعند إطلالة طوني فرنجيّة أو تيمور جنبلاط يأتي أفراد من العائلة للسلام والتقاط «السلفي» الضروري مع المُضيف، ومن أجل إيصال سلام حارّ من الوالد العزيز. طوني اصطحب شقيقه، فيما اصطحب تيمور زوجته وشقيقته وشقيقه للـ«سلفي».
لم يكن يُفترض أن يكون أداء تيمور على ما كان عليه. المناسبة كان يجب أن تكون سهلة على ما كانت عليه إطلالة طوني فرنجيّة. لم يبرز فرنجيّة ولم يجلّ في العلم والمعرفة أو السياسة، لكنه أجاب عن الأسئلة المعدّة بإجابات مقتضبة لم تحد عن «خط» والده. لكن إجاباته عن المقاومة وعن حسن نصرالله خلت من العاطفة (أو ما أسماه عبدالله العلايلي بـ«التهوّك» في ترجمة لكلمة اجنبيّة): أي أنه مستعدّ أن يقوم بالمهمّة من دون حماسة أو التزام سياسي. بدت المقاومة بالنسبة له حليفاً لا يختلف عن نجيب ميقاتي أو فايز غصن. لكن والده قرّرَ أن يكون هو الخليفة، وقرار الزعيم لا يُردّ من الأولاد.
وهناك أعراف في حياة الزعماء. كان ابن الزعيم لا يرث الزعامة إلا بموت الوالد. لم يكن الزعيم يورّث في حياته. هذه لم تكن تصلح للصورة التي يرسمها الزعيم لنفسه. هو زعيم حتى الرمق الأخير، ولم يكن الابن يجرؤ على انتشال الزعامة في حياة الأب. هناك استثناءات سُجلِّت في زمن الحرب عندما سمح كميل شمعون وبيار الجميّل لأولادهما بقيادة ميليشيات على أن تلتزم بخط الوالد. وهذه سرت على غيرهم من الزعماء: صائب سلام سلّم ميليشيا سعوديّة التمويل (باسم «روّاد الإصلاح»، وكان أهل بيروت الظرفاء يسمّونها «روّاد الفضاء») لابنه «الآدمي» - على ما وصف هو نفسه في المواسم الانتخابيّة قبل أن يرفعه الحريري على قوائمه. وكان إميل إدّة يسمح لبيار بلعب دور الوسيط أو حامل الرسائل، خصوصاً في المهمّات الخارجيّة نحو واشنطن أو تل أبيب. لكن الزعيم لم يكن يتقاعد في السنوات الغابرة. لكن هناك تقليد جديد بدأه جنبلاط ويبدو أنه سيسري.
يريد جنبلاط من هذا التقليد الجديد أن يرسم صورة عصريّة عن زعامته. يريد من خلال السلوك المستحدث أن يظهر الزعيم على أنه تعفّفَ باكراً (نسبيّاً). لم يكن التعفّف السياسي من صفات الساسة في الحياة. هذه كانت متروكة للآخرة - لو وُجدت. وعندما يُعَصرِن زعيم ما زعامتَه، يقلّده الآخرون لضرورات التعصرن والتقدّم. واختيار الخلف في الزعامة الطائفيّة وتنصيبه السياسي عمليّة غير مضمونة نسبيّاً وإن تفاوتت في الضمان بين طائفة وأخرى وزعامة وأخرى. تبدو الزعامة الجنبلاطيّة ثابتة أكثر من غيرها. هناك طوائف خسرت زعاماتها الإقطاعيّة. لم يحدث ذلك في الجنوب فقط بين الشيعة حيث انتهى عهد الزعامات الاقطاعيّة التي تُورَّث. بل كان هناك زعامات تقليديّة إقطاعيّة عند السنّة لكنها تبخّرت (مثل سليمان العلي في عكّار، والذي كان واحداً من عدد من السنة الرجعيّين الذين كان بشير الجميّل وعدهم برئاسة الحكومة بعد تنصيبه من قبل العدوّ الإسرائيلي). والزعامة الإسلاميّة في بيروت انتهت، ونيابة تمّام سلام، وتولّيه رئاسة الوزارة، لم تكن إلا بادرة من قبل الحريريّة لحسابات سياسيّة بعضها خارجيّ.
وشخص الوريث يؤثّر على الزعامة. لو أن علي عسيران هو غير ما هو عليه في شخصيّته لكانت الزعامة العسيرانيّة امتدّت ربّما لبضع سنوات أكثر (لم نسمع له كلاماً إلا في تسريبات «ويكليكس» التي لولاها لما كنّا أدركنا أنه ناطق، على غرار نعمة طعمة الذي ينطق فقط للدفاع عن النظام السعودي من انتقادات تطاله في لبنان). وكامل الأسعد كان خير خلف لوالده من زاوية إنهاء زعامة إقطاعيّة. كامل الأسعد شكّل بشخصيّته وعنجهيّته وتعجرفه وبعده عن معاناة أهل الجنوب في عقود الوحشيّة الإسرائيليّة وإهمال الدولة، أكبر ضربة للإقطاع. لم يعد يمكن إنقاذ الإقطاع بعد تجربة كامل في الجنوب. لكن لا يمكن التقليل من تأثير التعبئة والدعاية الحزبيّة الشيوعيّة والقوميّة العربيّة (البعثيّة) ضد الإقطاع في الجنوب والبقاع والتي غيّرت من الثقافة الشعبيّة للمنطقة. لم تكن صدفة أن يعلن نبيه برّي عشيّة هذه الانتخابات أنه لن يورّث أي زعامة في عائلته، كما أن حسن نصرالله كان قد أعلن ذلك من قبل - وذكّر الاثنان الجمهور بزمن البكويّة البائد. يعلم الاثنان أن الفكرة من أساسها باتت منبوذة.
لكن التوريث لا يزال حيّاً في الوسط الدرزي والمسيحي كما أن الحريريّة استوردت مفهوم العائلة الحاكمة من أبشع تجربة من تجارب الحكم السلالي الاستبدادي في الرياض. والتوريث هو تمسّك أو إصرار على احتكار التمثيل حتى لو كانت سيادة وتسلّط الزعيم نتيجة تدخّل خارجي وتسليم وتمويل من خارج الحدود. والتوريث يتناقض مع معايير الكفاءة: لا يمكن أن يطلع حاكم عربي أو زعيم ويقول: يا قوم، إنني أعترف لكم ان أبني البكر لا يصلح لمنصب، وهو غير مؤهّل ويفتقر إلى الحد الأدنى من الكفاءة. وعليه، فإنني أوكل لكم اختيار الأصلح بينكم لخلافة زعامتي على أن تكون المعايير أفضل من معيار الذريّة الذي ابتعته. لا يمكن أن يصدر هذا الكلام عن زعيم سياسي لبناني. وفي التاريخ الإسلامي، كان الخيار يقع أحياناً على فرد في العائلة لا يكون بالضرورة الابن البكر للحاكم. لكن في وسط زعماء لبنان، الابن البكر وحده المُخوَّل بالخلافة إلا في حالات استثنائيّة عندما يتنازع الأخوة - كما في حالة أمين وبشير الجميّل - ويحسم واحدهما الخلافة لنفسه بالقوّة (أو في حالة سليمان فرنجيّة مع عمّه روبير).
لن تصارح حاشية الزعيم والأتباع تيمور بالحقيقة. الإعلام اللبناني تستّر على فضيحة ظهوره التلفزيوني. والمُحاور (المُفترض) كان بمثابة أستاذ المدرسة الذي يمون الزعيم عليه كي يُلقّن ابن الزعيم الأسئلة والأجوبة معاً. ومارسيل لم يجد غضاضة البتّة في الإجابة عن تيمور عندما وجد حاجة إلى ذلك. بأي مقياس، وبعيداً عن تهليل وترحيب الكتلة الجنبلاطيّة، فإن ظهور وأداء تيمور جنبلاط كان أقوى حجّة ضد التوريث السياسي. لقد سبق تيمور ظهوره الميمون بالتغريد متمنيّاً - أو مُحذّراً لأن تمنّي الزعيم وابنه هو تحذير - على الجمهور عدم التجمهر في الساحات وإقلاق راحة العامّة بالتهليل أو إطلاق الرصاص. لكن هذا الافتراض من قبل تيمور يوحي بتضخّم في الذات ما كان يجب أن يصل ابن الزعيم إليه وهو بالكاد باشر عمله السياسي. هو يحضر مرتيْن في الأسبوع زيارات من جمهور الزعيم - ويحضر معه نوّاب ووزراء الزعيم - وذلك بهدف تدريبه على الزعامة. والتدريب هذا استمرّ على مدى سنوات، بعد أن أتمّ سنوات دراسته الجامعيّة (أو بعضَها).
مَن سيصارح تيمور جنبلاط بأنه غير كفؤ وأنه ظهر بعيداً عن بيئته وعن الأهليّة التي يتطلّبها منصب المختار في المختارة أو في غيرها. بالرغم من سهولة المكان (بحكم تعاطف وتسهيل المُضيف)، فإن تيمور سقط في الامتحان سقوطاً ذريعاً. حاول مارسيل مساعدته قدر الإمكان، لكن تيمور يفتقر للحدّ الأدنى من الأهليّة. أولاً، ما قصته مع اللغة العربيّة؟ لقد درس في المدارس نفسها التي درس فيها أبوه في بيروت، لكن تيمور غير متمكّن من اللغة العربيّة ويبدو أنه يجهل معاني مفردات أساسيّة فيها. أذكر أن وليد جنبلاط في أوّل مقابلة معه بعد اغتيال والده (أجراها وليد عوض في مجلّة «الحوادث») عبّر عن إعجابه بشعر ابن العربي، فيما عبّر تيمور عن إعجابه بشعر فيكتور هوغو (مع أن وليد تربّى على يد مربيّة سويسريّة كانت تخاطبه بالفرنسيّة). من حقّه أن يُعجب بمن يشاء من الشعراء لكنه بعيد عن ثقافة جمهوره - أبعد من والده. ومن طبيعة الزعماء النخبويّين الذين تربّوا في أجواء نخبويّة جهل الثقافة المحيطة ومعاناة الشعب الذي يدّعون تمثيله. كان وليد جنبلاط في الأسابيع الماضية يتذمّر من عدم انتشار القصور التراثية الجميلة في لبنان. يريد جنبلاط منّا أن نقتني مثله القصور التراثيّة الجميلة كي يمتّع ناظريه بها في تجواله بينها. وتيمور عاش في لبنان طيلة سنوات حياته (باستثناء بضع سنوات في منزل العائلة قرب ساحة الكونكورد في باريس)، فلا عذرَ له في جهل اللغة العربيّة. ولماذا لم يعمل على تحسين لغته العربيّة في كل سنوات التدريب والإعداد التي قيل إنه خضع لها؟ هذا شارل حلو وصل إلى سدّة الرئاسة من دون أن يكون ملمّاً باللغة العربيّة، فنصحه صائب سلام بقراءة القرآن ونهج البلاغة وديوان المتنبّي، وأصبح في فترة قصيرة ضليعاً باللغة وبات يكتب خطبه العربيّة بنفسه. والملك الأردني عمل على تحسين لغته العربيّة مستعيناً بمدرّسين. ولماذا ينطق تيمور العربيّة بلكنة أجنبيّة، كأنه تربّى في الغرب؟
أما في إجاباته، فلم يظهر على تيمور أنه يحمل شاهدة في العلوم السياسيّة. لم يعطِ تحليلاً سياسيّاً واحداً، أو فكرة سياسيّة خاصّة به. وأولاد الزعماء ينالون الشهادات الجامعيّة من دون أن يكونوا يستحقّونها بالفعل، لأن عدداً من الأساتذة يخشون إسقاط أولاد الزعماء، وهذه تسري في جامعات الغرب أيضاً. أذكر مرّة في جامعة جورجتاون عندما حدّثني زميل في شأن تلميذة قائلاً لي (مُتوسِّطاً): إن عائلتها قريبة جدّاً من الملكة في ذلك البلد. ويعاني أولاد الزعماء من عبء الوراثة قبل أن يرثوا المنصب، لأن الزعيم يُقرّر عن أولاده الاختصاص المطلوب. أذكر أن أحمد الأسعد ذكر لي قبل أن أرحل إلى أميركا للدراسة كيف أن والده أفسد عليه دراسته لأنه كان أحياناً ينصحه بدراسة القانون، وأحياناً أخرى يقول له إن الزعامة لن تعمّر وأن عليه دراسة اختصاص علمي. وعليه، ربّما كان ميل تيمور أدبي وفنّي أكثر مما كان في حقل السياسة التي لم يظهر عليه شغفٌ بها.

لم يكن التعفّف السياسي من صفات الساسة في الحياة


وإجابات تيمور كانت تتسم بالخفّة الشديدة وأحياناً بالهزل في مواضيع جديّة. أجاب عن سؤال بالقول إنه يؤيّد المقاومة العسكريّة والثقافيّة ضد العدوّ الإسرائيلي. ولم تعجب الإجابة مارسيل صاحب المواقف التطبيعيّة. سأل تيمور بالنسبة إلى المقاومة الثقافيّة، إذا كان مؤيّداً لمنع فيلم «ذا بوست» فقال «مش لهَا الدرجة». بدا موقفه من المقاومة مجرّد مزحة. لو أن مارسيل سأله: وهل تؤيّد عمليّات عسكريّة ضد جنود الاحتلال؟ هل كان سيجيبه بـ«مش لها لدرجة» أيضاً؟ تحت سقف أي درجة يؤيّد تيمور جنبلاط المقاومة عسكريّاً أو ثقافيّاً؟ هل فكّر بهذه الأمور، أم أن الموضوع فاجأه للمرّة الأولى؟
وتيمور يحبّ الديموقراطيّة في الوطن العربي بقدر محبّة أبيه. أي إنه مع الديموقراطيّة في سوريا وضدّها في المغرب ومصر والأردن والسعوديّة والكويت ودولة الإمارات وعمان والبحرين. لم تتغيّر الخيارات الجنبلاطيّة بين الأب وأبيه هنا. لكن تيمور لا يزال أسير خيارات والده، ربما لأنه غير مهتم بالعمل السياسي ولأن التوريث مفروضٌ عليه. غيّر وليد كثيراً من إرث كمال جنبلاط، وغيّر من دائرة تحالفاته. اختار وليد أن يتحالف بعد أشهر فقط من اغتيال كمال جنبلاط مع النظام الذي قتله لكنه لم يعلم عن هويّة قاتل كمال جنبلاط إلا بعد ٢٠٠٥. كما أن وليد ورث زعامة عربيّة لم يستطع، أو لم يرد، أن يحافظ عليها، فأمعن في تصغيرها حيث عادت كما كانت على أيّام جدة وليد، أي محصورة بالطائفة. ويمكن لتيمور أن يمعن في تصغير الزعامة أكثر.
ومن مظاهر ضعف تيمور أنه لم يعبّر عن رأي واحد يخالف مشيئة والده. حتى التعبير عن المواقف كان بصيغة الجمل التي يردّدها والده، مما أعطى الحلقة طابع الدرس المحفوظ مع التلميذ غير الشاطر، بوجود الأستاذ المُسهِّل بحكم مونة الزعيم عليه. لكن تيمور لم يستطع حتى تقديم تعريف عن الاشتراكيّة. أليس هو وارث الحزب الاشتراكي ـ بالاسم ـ؟ كيف يمكن أن يطلّ للمرّة الأولى من دون أن يكون متحضّراً لتعريف المصطلح؟ الأهم، كيف نال تيمور شهادته الجامعيّة (مع بعض الصفوف في الدراسات العليا في باريس) من دون أن يكون قد أكمل فهم مصطلح الاشتراكيّة؟
لا يمكن إنقاذ أداء تيمور جنبلاط. لم تكن المشكلة في الكاميرا أو الطقس أو عداء المُضيف. لو أن المُضيف لم يكن مشاركاً في المسرحيّة التي أعدّ لها بدقّة، لكان الأداء أسوأ مما كان عليه — على سوئِه الفظيع. لا يبدو أن الرجل مهتم. هو حدّثنا عن صداقات له مع أولاد زعماء آخرين، مثل سامي الجميّل أو نديم الجميّل أو طوني فرنجيّة. لعلّ الصداقة مع أشخاص عاديّين أو مع مقاومين تعصى عليه. والصداقة بين أولاد الزعماء من الجوانب القبيحة للسياسة في لبنان لأنها تعطي الانطباع أن أولاد الزعماء يتنعمّون فيما يأكل الناس الحصرم ويضرسون. كما أن هذه الصداقات تكرّس الفكرة الماركسيّة أن الولاء الطبقي يعلو على ما عداه عند البورجوازيّين: الخلافات السياسيّة تبقى هامشيّة ويسهل تجاوزها، ووالد تيمور ضليع في فن التقلّب والانقلاب. لكن أولاد الزعماء سيحملون إرث الآباء وأعباءه وملابساته معه، ما لم يتحرّروا منه. لقد تحرّر وليد جنبلاط على طريقته من إرث والده، لكن النتيجة كانت في تقليص أو تقزيم الزعامة الجنبلاطيّة مع الحفاظ على ديمومتها لأن وليد ضخّ فيها المزيد من العصبيّة الطائفيّة منذ «حرب الجبل».
بصريح العبارة، التي لن يسمعها تيمور، هو لا يصلح للعمل السياسي. سنوات التحضير والإعداد لم تثمرْ. لم يفتْ الأوان بعد لإعداد أصلان، والبنات نادراً ما يرثن الزعامة في لبنان. لكن لن يصل تيمور تقييمٌ صريح عن أدائه. أولاد الزعماء تعوّدوا على الهتاف والتصفيق منذ سنوات الطفولة على كل كلمة وكل إيماءة. والزعيم الوالد (على وزن «الأمير الوالد») يحيط الابن بحاشية من المصفّقين وحَمَلة الطبل والمزمار. أولاد الزعماء محرومون من نعمة النقد الذي تصل الانسان العادي كي يصلح ويحسّن في شخصيّته وأدائه.
ويمكن للطائفة والمنطقة أن تستمرّ من دون زعيم عائلة واحدة توارثت بفضل الدعم الخارجي وشدّ العصب التمثيل السياسي للمنطقة. والزعيم الجنبلاطي لا ينفك عن الحديث عن التقدّم والرقيّ والحضارة فيما هو مصرٌّ على الاستمرار في زعامة إقطاع. تعزّز التوريث السياسي في السنوات الأخيرة ربّما بسبب خوف بعض الزعماء الأحياء على زعاماتهم بعد رحيلهم، أو خوفهم من تناتش الزعامة من قبل أفراد في العائلة الواحدة، كما حدث بين بشير وأمين، وكما يحدث من دون إعلان بين سامي ونديم. الطائفة بدأت قبل الزعامة الإقطاعيّة وهي ستستمرّ بعدها. الخشية أن تؤدّي خيارات الزعيم، بما فيها التوريث، إلى كوارث على أبناء وبنات الطائفة.

*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)