كانت الشمس دافئة في ذلك الصباح الشتوي المنعش، وموج البحر ينساب بسلاسة على رمال شاطئ الحمّامات الناعم. وبدا مزاج الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة رائقاً، وهو يمارس رياضته الصباحية المفضلة: المشي بجوار البحر. أخذ الرئيس السبعيني يسير ببطء، وينصت بانتباه لأحاديث مرافقه الطاهر بلخوجة الذي يقصّ عليه تفاصيل آخر الأنباء التي حصلت في البلاد. فجأة، اقتربت سيارة مسرعة من الرئيس ووزير داخليته، وتوقفت بجانبهما، ونزل منها الحبيب الشطّي، مدير الديوان الرئاسي. قال الشطّي لرئيسه: «إنّ العقيد القذافي يريد أن يقابلك، لأمر بالغ الأهمية». وبدا الاستغراب على وجه بورقيبة، فأضاف الشطّي: «منذ قليل، هاتفني سي محمد المصمودي (وزير الخارجية التونسي)، وأخبرني أنّ أحمد المكسبي (سكرتير القذافي) اتصل به عبر الهاتف في منزله في المهدية. وأخبره أن العقيد يريد رؤية فخامة الرئيس فوراً، لأمر في غاية الأهمية. ويقترح أن يتم اللقاء في مدنين أو قابس، قرب الحدود الليبية التونسية». مال وزير الداخلية بلخوجة نحو رئيسه بورقيبة، وقال له: «أعتقد أنّ الأمر يتعلق بقضية أمنية خطيرة، وأقترح أن تقابل القذافي، وتستمع لما يحمله لنا».قرّر بورقيبة أن يحصل اللقاء بينه وبين القذافي في جزيرة جربة (جنوب شرق تونس)، في صبيحة يوم 12 كانون الأول/ يناير 1974. لكن قبل يوم واحد من موعد اللقاء، اتصل محمود الغول، والي محافظة مدنين، بوزير الداخلية الطاهر بلخوجة ليعلمه أن القذافي وصل ركبه، من دون سابق تنبيه، إلى رأس جدير، المعبر الحدودي بين البلدين. وهناك التفّت حوله الجماهير، وصار الوضع أشبه بمظاهرة عارمة. كانت مثل هذه المفاجآت خصلة في القذافي، يعرفها التونسيون جيداً، فالرجل يجيء دائماً على حين غرّة، ويحبّ أن يلتحم بالناس. وكان من حسن الحظ أنّ محمد الفيتوري وزير المالية التونسي موجود في بن قردان، المدينة الحدودية، فأُمِر أن يستقبل الضيف الليبي، ويرافقه إلى مقر إقامته في فندق «أوليس»، في جربة. وفي جناحه الخاص، طلب القذافي أوراقاً، ورفض أن يتناول من الطعام سوى اللبن والتمر، وطفق يكتب. وفي صباح اليوم التالي، وصل بورقيبة إلى مطار جربة، على متن طائرة اسمها «المنستير» (المدينة التي ولد فيها)، فوجد القذافي في انتظاره مرتدياً زيه العسكري الأبيض، وانتقل الزعيمان فوراً إلى الفندق، وسط هتاف قطعان الجماهير التي حشدها «الحزب الاشتراكي الدستوري» الحاكم، على امتداد الطريق. ودخل الوفدان التونسي والليبي إلى بهو الفندق الفخم وسط احتفال صاخب، وعلى إيقاع جوقة من الراقصات والطبالين والزمّارين. وكان بورقيبة يحب هذه المشاهد الفلكلورية، ويعتبرها «فنوناً شعبية». لكنّ القذافي لم تعجبه كثيراً «الهمروجة» التونسية، وطلب من بورقيبة أن يصرف «الزفّة» حتى يمكن لهما أن يعقدا اجتماعاً هادئاً وعلى انفراد. وبالفعل، اختلى الرجلان ببعضهما في قاعة جانبية، وأوصدا عليهما الباب. وبقي الوزراء في الخارج، لا يدرون ما الذي يحصل بين الزعيمين المُلهمين. ومرت نصف ساعة، ثم ساعة، ثم بعد ذلك انفرج الباب المطبق، وظهر الرجلان وهما يضحكان. فتهللت أسارير الأعوان بشراً، واستُبدل التوترُ بالانشراح.

«مبروك، لقد أنجبنا الوحدة»
تقدّم القذافي نحو الحاضرين مبتسماً، ثم قال: «مبروك! لقد أنجزنا الوحدة. ومنذ هذه اللحظة صارت تونس وليبيا دولة واحدة، ورئيسنا جميعا هو بورقيبة». ونظر وزراء بورقيبة إلى معلّمهم مندهشين. فهم يعلمون جيداً أنّ الرجل شديد النفور من كل حديث يساق فيه ذكر الوحدة العربية. فما الذي دهاه لكي يقبِل راضياً بما يمقته؟! كان بورقيبة يرفع رأسه عالياً، ويمطّط شفتيه، وينظر إلى من حوله بتباهٍ، وتلك طريقة الرجل عندما يكون فخوراً بنفسه. وقدّم القذافي إلى محمد المصمودي ورقة ليقرأها على الحاضرين. فبدأ وزير الخارجية التونسي يتلو بصوته الجهوريّ: «وقّع الزعيم الحبيب بورقيبة مع العقيد معمر القذافي إعلان الوحدة بين القطرين العربيين التونسي والليبي، على أن يكون البلدان جمهورية واحدة تسمى الجمهورية العربية الإسلامية، ذات دستور واحد، وعلم واحد، ورئيس واحد، وجيش واحد، وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية واحدة. وينظم استفتاء شعبي لقيام الوحدة». وبعد أن أتم المصمودي قراءة البيان، طلب القذافي من الحاضرين تلاوة الفاتحة.
طلب القذافي أوراقاً ورفض أن يتناول من الطعام سوى اللبن والتمر


انتقل الجمع إلى قاعة الطعام ليتناولوا الغداء. وكالعادة، لم ينس بورقيبة أن يُدخل عليه الشعراء. ووقف صف طويل من المدّاحين المرتزقة يلقون قصائدهم التي تمجّد أفضال «المجاهد الأكبر»، وتشبع غروره ونرجسيته. وحاول القذافي أن يكسر «العُكاظية» (هكذا كان يسميها بورقيبة، نسبة إلى سوق عكاظ)، فاقترح أن يتم الاستفتاء على الوحدة في اليوم الأول من السنة الهجرية الجديدة، وهو يوافق 25 يناير/ كانون الثاني 1974. وتدخل محمد الصيّاح، مدير الحزب الدستوري الحاكم، ليختار موعداً آخر يليق أكثر بتاريخ «المجاهد الأكبر»، فاختار ذكرى 18 جانفي (يناير) 1952. ففي هذا اليوم، يحتفل التونسيون بـ«عيد الثورة» التي اندلعت في البلاد بعد أن نُفي بورقيبة إلى مدينة طبرقة (حسب التاريخ الرسمي البورقيبي). وأقرّ بورقيبة الرأي الذي يقترح يوم 18 جانفي موعداً للاستفتاء، فقبل القذافي، ولم يعارض. وكان ذلك يعني أنّ المهلة الباقية لنشوء الدولة الجديدة لا تتجاوز ستة أيام فقط. ومن سوء الحظ، أن أحداً من الأعوان لم يتجاسر لكي ينبّه الزعيمين إلى أن مصائر البلدان والشعوب لا يمكن أن تتم بمثل تلك الأساليب الارتجالية! وجلس بورقيبة والقذافي وراء منصة في قاعة الطعام، في فندق «أوليس»، وأمامهما وقف حشد من المصوّرين يلتقطون لهما الصور التاريخية. وانهمك القائدان في التوقيع على الاتفاقية من جديد، وسط التصفيق والهتاف والتهليل. وانهالت الفلاشات على الرجلين من كل صوب، وأخذت تغرقهما بالأضواء. وبعدما تمت مراسم التوقيع أنشد الحاضرون نشيد الثورة التونسية: «حماة الحمى». وكانت الإذاعة الليبية، ومعها الإذاعات التونسية الثلاث (تونس وصفاقس والمنستير) تنقل للمستمعين ما يجري في جربة، على الهواء مباشرة، ثم تعرض فواصل من الأغاني الوطنية. ووصل الانتشاء بأحد المذيعين إلى قمته، فأخذ يرقص في الاستوديو. وبلغت الانتهازية بمدير «الإذاعة الوطنية» (في تونس العاصمة) حدّاً جعله يأمر بتبديل اسم مؤسسته فوراً، لتصبح «إذاعة الجمهورية العربية الإسلامية».

بورقيبة أصبح كبيراً!
أخرج القذافي من جيبه ورقة جديدة، وقدّمها إلى بورقيبة فجعل هذا يقرأ ما فيها بجدية بالغة. كانت الورقة تضم أسماء ستة عشر وزيراً تونسياً، وأربعة عشر وزيراً ليبياً رشّحهم القذافي ليؤلّفوا «حكومة الوحدة». وبرز اسم بورقيبة في رأس الورقة، باعتباره رئيس الجمهورية الوليدة. وجاء القذافي في المقام الثاني باعتباره نائب بورقيبة، ورئيس أركان جيش دولة الوحدة. وكان الاسم الثالث مخصَّصاً للهادي نويرة (الوزير الأول التونسي) ليكون النائب الثاني لبورقيبة. وحجزت رئاسة الحكومة لعبد السلام جلود (نائب القذافي في مجلس قيادة الثورة الليبية). واختير محمد المصمودي وزيراً للخارجية، والطاهر بلخوجة وزيراً للدفاع، والخويلدي الحميدي (وزير الداخلية الليبي) وزيراً لداخلية الدولة الجديدة. وتحفّظ بورقيبة، في بادئ الأمر، على اسم الخويلدي، لكنه سرعان ما قبل به. وكان من بين الأسماء الذين اختارهم القذافي في الحكومة الجديدة، اسم زين العابدين بن علي الذي كُلّف بمسؤولية مدير الأمن العسكري في الجيش الاتحادي الجديد.
انتهى الاحتفال العجيب في الخامسة من مساء يوم 12 كانون الثاني/ يناير 1974. وفي صباح اليوم التالي، عاد القذافي إلى طرابلس عبر موكب ضخم من السيارات، وكان العقيد كلّما شاهد في الطريق جمعاً من الناس، يطلّ عليهم برأسه، من كوّة في سقف سيارته، ويلوّح لهم بقبضتيه عالياً. أما بورقيبة، فقد قفل راجعاً إلى عاصمة بلاده، على متن الطائرة التي جاءت به. كان رئيس تونس منتشياً، وقد التفّ مرافقوه من حوله. وكان الجميع يعرفون أنّ الرجل العجوز مصاب بعقدة العظمة، ولطالما اعتبر نفسه رجلاً أكبر حجماً من بلاده الصغيرة. وكان بورقيبة يظن أنه أحق بقيادة العالم العربي من غيره من الزعماء الآخرين. فمن هو عبد الناصر إذا قورن ببورقيبة؟! ليس ذلك البكباشي أكثر من عسكريّ غِرّ، غير أنّ الحظ أسعفه فحَكم مصر! ومن هو هواري بومدين قبالة بورقيبة؟! وهل ناضل عشر نضاله هو؟! لكنّ الحظ هو الذي وهب له حكم الجزائر!.. ومن فيصل؟! ماذا يساوي ذلك البدوي الكئيب، في سوق السياسة، لولا نفط السعودية؟! لا بأس، ها هو نجم بورقيبة قد بزغ أخيراً!.. وها هو اليوم قد أصبح حاكماً لبلاد أكبر مساحة من مصر، وأغنى بالنفط من الجزائر، وأقرب إلى أوروبا من بلدان الخليج. كانت نشوة بورقيبة هائلة بهذه الجائزة الكبرى التي حصل عليها، في هذا اليوم السعيد. لقد أصبح بورقيبة كبيراً، بل أكبر من كلّ الآخرين! وهو لن يعود، منذ الآن، حاكماً لبلد فقير وصغير. افترّت شفتا بورقيبة الضاحكتين عن طاقم أسنانه، والتفت إلى مرافقيه قائلاً لهم: «إنّ هذا القذافي ابن حلال فعلاً! وأنا لم أتصور أنه طيب إلى هذا القدر!». ثم استطرد بورقيبة يقول لسامعيه، ويخاطب نفسه معهم: «القذافي هو الوحيد الذي عرف قدري. والآن ستصبح تونس بما أضيف لها من خيرات ليبيا، تسبح في بحر من النفط». صمت الرئيس قليلاً، قبل أن يلتفت ضاحكاً إلى وزرائه، وقد سرّته نكتة خطرت على باله. قال بورقيبة: «حينما نصل إلى مطار تونس قرطاج بعد قليل، لا أريد أن يتفاجأ أحد منكم إذا رأى جورج بومبيدو (رئيس فرنسا) واقفاً ينتظرنا على باب الطائرة، ليسلّم علينا، ويبارك لنا ويهنئنا. هههه». قهقه أعوان بورقيبة، ولم يجرؤ أحد فيهم أن يقول للزعيم إنه غارق في أحلام اليقظة.
عندما نزل بورقيبة من طائرته، وجد حشداً من الصحافيين المحليين والأجانب. فوقف في وسطهم، ليلقي كلمة. قال الرئيس: «لقد كان هذا اليوم تاريخياً. فهو يتوّج نصف قرن من كفاحي لتأسيس الجمهورية العربية الإسلامية التي سيكون لها وزن كبير بالنظر إلى ما لها من خيرات وخبرات وكفاءات... ونحن نعبّر عن أملنا في التحاق الجزائر وموريتانيا والمغرب بالجمهورية العربية الإسلامية التي ستنظم استفتاء شعبياً على وحدتها في أقرب وقت ممكن، ومبدئياً سيكون في يوم 18 جانفي القادم. ذلك ما أردت أن أعلنه إلى شعوب إفريقيا الشمالية. ونتمنى أن نرى شعوب المشرق تقتدي بنا لتكون مجموعة عتيدة ومتينة».
في الطريق من المطار إلى قصره، أخذ بورقيبة يستمع إلى آخر الأنباء من راديو السيارة. وكانت كلها من تلك التي تسرّه وترضيه. فلقد أخذت الشُّعَب الدستورية (خلايا الحزب الحاكم في مختلف جهات البلاد) ترسل آلافاً من برقيات التأييد إلى الإذاعات، وتعبّر عن الابتهاج الشديد بقيام الجمهورية العربية الإسلامية، وتعلن الولاء التام والكامل «للمجاهد الأكبر» باني أمجاد دولة العرب والمسلمين. لكنّ ما أثار دهشة بورقيبة في برقيات «أزلام حزبه» أنهم جميعاً لم يعودوا يتذكّرون اسم «تونس» في كلماتهم! لقد قرّر هؤلاء «البورقيبيون» أن يشطبوا اسم وطنهم فوراً، ومن دون أن يطرف لهم جفن! ولم يكن على «البورقيبيين» تثريب كبير، فبورقيبة ذاته لم يبالِ لضياع اسم تونس، ولم تكن المسميات تعني بالنسبة له سوى شكلياتٍ غير مهمّة. ونام الرئيس التونسي، في تلك الليلة، هانئاً سعيداً بعد يوم لذيذ وطويل. ثم لمّا استيقظ الرجل في الصباح التالي، علم أنّ السماء قد سقطت على رأسه، وأنّ الأحوال، من حوله، تبدّلت رأساً على عقب.
[يتبع]
* كاتب عربي