«السياسة في الزمن الرّقمي هي، بشكلٍ تلقائي، شعبويّة»الصّحافي والمعلّق الفرنسي فرانسيس بروشيه

لا أفهم، بصراحة، مصدر "الفضيحة" التي هزّت الصحافة العالميّة، والأسواق، وأرعبت مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بعد كشف "تجاوزاتٍ" ارتكبتها شركة "كامبريدج اناليتيكا" على "فايسبوك" وحيازتها بشكلٍ غير قانوني على معلوماتٍ للمستخدمين. الجريمة هنا هي أنّ شركة الاستشارات والتسويق قد "سرقت" معلومات حوالي خمسين مليون مستخدم على "فايسبوك" (كلّهم أمريكيون)، حصلت عليها من دون معرفتهم وموافقتهم، بل عبر سبر "لوائح الأصدقاء" لمستخدمين تفاعلوا مع منتجات الشركة، وإضافة كل هؤلاء "الأصدقاء" ومعلوماتهم الى "داتا" "كامبريدج أناليتيكا" وتوجيه الدعاية اليهم بشكلٍ دقيقٍ خلال الانتخابات الأميركية.
المشكلة هي أنّ ما فعلته الشركة البريطانيّة لا يختلف عن تقنيّات أي شركة دعاية (سياسيّة أو غير سياسيّة)، ومعلومات المستخدمين التي "سرقتها" لم تكن سرّاً مرصوداً، ولا الشركة تسلّلت الى غرفة نومك وغافلتك، بل هي كان من الممكن ــ لو دفعت بعض المال ــ أن تحصل على هذه المعلومات بشكلٍ شرعيّ وبطرقٍ أخرى. بل إنّ تقنيّة سحب معلومات المستخدمين عبر أصدقائهم (وهي أساس الفضيحة) كانت شرعيّة ورائجة على "فايسبوك" حتّى سنة 2015، وكانت الشركات تستخدمها بحريّة من دون أن يحتجّ أحد (ولهذا السبب كان يصلك، قبل سنوات، سيلٌ من الرسائل والدعايات عبر أصدقائك الذين يلعبون البوكر أو "المزرعة السعيدة»).
يوجد، هنا، سببان أساسيّان لـ«الصدمة" التي يعبّر عنها المستخدمون والإعلام. إمّا أنك لم تكن تعرف بأنّ كلّ نظام "فايسبوك" وأمثاله (وصولاً الى البريد المجّاني على "غوغل») يقوم على مبدأ جمع المعلومات عنك ثمّ استخدامها لتوجيه الإعلانات بشكلٍ دقيق، فأتت قضيّة "كامبريدج أناليتيكا" كمفاجأةٍ حين اكتشفت أنّ "فايسبوك" ليس خدمةً عامّة. الإحتمال الثاني هو أنّك تنتمي الى تيارٍ سياسي في اميركا لا يقبل، الى اليوم، أن يعترف بأنّه قد هزم في الانتخابات الرئاسيّة، وأنّ دونالد ترامب قد فاز، وهذا التيار (تمثّله صحف "واشنطن بوست" و«نيويورك تايمز») ما زال يبحث عن حالة "الغشّ" التي لا بدّ أنها قرّرت مصير الانتخابات. فتكون الشمّاعة يوماً بوتين و«الحرب الخفية" التي خاضها الرّوس لتخريب الديمقراطية الأميركية، ويوماً "الأخبار المزيّفة" التي ضلّلت الناخبين (وهذه أطرف النظريات، وأكثرها فوقيّة ونخبويّة في نظرتها الى النّاس وتشكّل خياراتهم)، والآن أصبحت الشمّاعة هي تقنيّات الدّعاية والذكاء الاصطناعي وسحر الفودو الذي مارسته "كامبريدج أناليتيكا». هذا مع العلم بأنّ حملة باراك اوباما، عام 2008، قد دشّنت الدعاية الموجّهة عبر الانترنت ووسائل التواصل، وتصويب الرسالة الانتخابية لكلّ فردٍ بحسب عمره وميوله، وقد اعتبر الجميع ذلك، يومها، تكتيكاً "ذكياً" و«حديثاً». على الهامش: المفارقة هنا هي أنّه، فيما اهتزّ "فايسبوك" وخسر عشرات مليارات الدولارات من قيمته السوقية، فإنّ "كامبريدج اناليتيكا» ــ الطّرف المذنب ــ قد عزّزت السّمعة التي تريد ترويجها عن نفسها، وازدادت هيبتها بين الزبائن المحتملين حول العالم، خاصّة بعد ظهور تحقيقٍ سجّلته سرّاً القناة الرابعة البريطانية، يقول فيه عملاء الشركة إنهم مستعدّون لاستخدام أسلحة الرشوة والإغواء والتنصّت لتحقيق أهداف زبائنهم (من جهةٍ أخرى، اضطرّت الشركة للتضحية بأحد مدرائها الذين ظهروا في التسجيلات والتخلّي عنه).

«الديمقراطية الرقمية"
منذ أوائل العصر الصّناعي، على الأقلّ، تخرج باستمرارٍ نظريّاتٌ تبشّر بأن الموجة التكنولوجية الجديدة سوف "تغيّر كلّ شيء»، وتعيد تعريف الشخصية الانسانية، وتقلب شروط اللعبة في السياسة وفي المجتمع. بعض تلك الفرضيات يشيرون الى أنّ القفزات التكنولوجية في الماضي (مثل انتشار الطّباعة، أو حضور التلفزيون والإعلام الجماهيري، أو ظهورالانترنت) كانت بالفعل محطّات مفصليّة غيّرت شكل السياسة وحياة الأفراد، وهناك ــ من أمثال الكاتب الفرنسي فرانسيس بروشيه ــ من يعتبر أنّ ثورة "الهاتف الذكي" في السنوات الأخيرة تمثّل مفصلاً مشابهاً.
لدى بروشيه كتابٌ قصير اسمه "ديمقراطية السمارتفون" وهو يبشّر باستمرار بأنّ صعود حركاتٍ "شعبوية" في الغرب (من دونالد ترامب وبيرني ساندرز وصولاً الى الفوز الأخير لحركة "خمسة نجوم" في ايطاليا) هو انعكاسٌ لنمطٍ جديدٍ من السياسة ولّده انتشار الهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي. في مقابلةٍ مع صحيفة "لو فيغارو»، ينفي بروشيه بأن يكون معتنقاً لـ«جبرية تكنولوجيّة»، ولكنّه يزعم بأنّ تقنيات مثل "السمارتفون" تقوم بـ«تسريع" تحوّلاتٍ سياسية وفكرية قائمة. الانتشار الهائل للهاتف الذكي (يطلب منّا بروشيه أن نتذكّر بأنّ جهازاً عمره أقل من عشرة أعوام أصبح في يد أكثر من ثلاثة أرباع الجمهور في بلدٍ كفرنسا) قد غيّر الطريقة التي نقضي بها أوقات فراغنا، وروتين عملنا، بل وسبل التعارف والحبّ والزّواج، فمن الطبيعي ــ يقول بروشيه ــ أن ترافق هذه التغييرات تأثيراتٌ مشابهة في مجال السياسة.
النّزعة التي يأخذها الهاتف الذكي و«فايسبوك" الى حدودها القصوى بحسب بروشيه هي، باختصار، "حالة ما بعد الحداثة». عالم الأحزاب التقليدية وسياسات النّخب في الغرب هو، بتقسيم بروشيه، عالم الحداثة الديكارتيّة، حيث "الحقيقة" مفهومٌ مفرد، والسّعي اليها يكون عبر قواعد عقلانيّة موحّدة ومتّفق عليها، وهناك معايير وسلطات معرفية تراتبية تميّز الصحّ عن الخطأ. أمّا "عالم ما بعد الحداثة»، الذي يرجّع بروشيه نشأته الى اميركا الستينيات (وشمال كاليفورنيا تحديداً) فهو عالم الحقيقة النسبيّة وتفكيك مفهوم "العقلانية" ونقده؛ عالمٌ تتمكن فيه من صنع سرديّتك الخاصّة واعتناق "الحقيقة" التي تريد بمعزلٍ عن المعايير والقنوات "التقليدية». حجّة بروشيه هي أنّ العالم الرقمي قد أفسح المجال لبناء أشكال تواصلٍ وجماعات "ما بعد حداثية». الحقيقة نسبيّة ومتشظّيّة على "فايسبوك»، في وسعك أن تبتدع أيّ شكلٍ من الخطاب، وطالما أنّه يعزف على وترٍ عاطفيّ أو نفسيٍّ لدى عددٍ كافٍ من الناس (بصرف النّظر عن اتّساقه أو صحّته)، فأنت تنشئ حوله جماعة، يأتي أفرادها من مشارب مختلفة، ولكنهم يلتقون على شعارات محدّدة أو شخصية كاريزماتيّة و«حقيقة" خاصّة بهم، يتفاعلون معها مباشرةً كلّ يوم.
المفيد في فرضية بروشيه أنّه يعتمد تعريفاً محدّداً لمعنى كلمة شعبويّة، اقتبسه من باسكال اوري وهو يقول إن الشعبوية هي "نقد المؤسسات الوسيطة (الأحزاب، البرلمان، النخب، الخ) باسم صلةٍ مباشرةٍ مع الشعب يقيمها قائد كاريزماتي؛ وهذا كلّه يحمله خطابٌ عن القطع مع ما هو موجود». بهذا المعنى، فإنّ ترامب، مثل بيرني ساندرز وميلونشون ولوبان، أو حتى ماكرون، في فرنسا، يمثّلون "حركات»، تثور على الهيكلية الحزبية وتدّعي معاداة النّخب التقليدية والمؤسسة، وأنّها تأتي لصنع "قطعٍ" مع النظام السياسي. هذه الشخصيات جميعها (ومعها "حركة خمس نجوم" في ايطاليا والحزب اليميني المتطرّف اي اف دي في المانيا) كانت تحصد المؤيدين وتبني حركتها بشكلٍ أساسي على وسائل التواصل والميديا الجديدة.
في العالم الرقمي، بحسب بروشيه، يميل "المستخدِم" صوب هذه الحركات الهلامية والنشطة، ويعاف الأحزاب والعمل السياسي المكتبي، وهو يفضّل الأجندات الرادكالية على الأفكار الوسطيّة، ويتعاطف مع الوجوه الجديدة وخطاب التغيير، وهذه وصفة الحركات الشعبويّة (التلاعب ممكن هنا. ماكرون، مثلاً، تمكّن من تمثيل دور المرشّح "الشعبوي»، وقدّم نفسه على أنه الخيار من خارج الحزبين، وأنّه قادمٌ لمجابهة النظام وزلزلة أركانه، وقد فاز على هذا الأساس؛ مع أنّه كان خادماً للمؤسسة طوال حياته). لدى أناسٍ مثل بروشيه، اذاً، المشكلة هي ليست في "تجاوزات" كالتي اقترفتها "كامبريدج أناليتيكا»، يكون التوقّي منها عبر مزيدٍ من القواعد والمحاسبة، بل هي في اساس المجتمع الرقمي الجديد، والطريقة التي نبني بها ذواتنا في هذه البيئة، قبل أن نصل الى حقل السياسة والأفكار.

الخيار الشخصي
لا بدّ أن أوضّح هنا، مجدّداً، أنني لا أتجنّب الهاتف الذكي لأنني أخاف التكنولوجيا أو أعاديها؛ على العكس تماماً، أنا أفعل ذلك لأنني أحترم التكنولوجيا وأودّ الاستفادة من عجائب عصرنا الى الحدّ الأقصى. فلنأخذ الموضوع على النحو الآتي: في العصور الماضية، كان الانسان فعليّاً سجين طبيعته ومحيطه، بمعنى أنّ "المؤثرات الخارجية" التي تنتشله من واقعه المباشر كانت قليلة. كانت الناس تكتب عن الطبيعة وتحوّلاتها بكثرة، لأنّك، في العصور الماضية، كنت "حبيس" محيطك المباشر وتلاحظ بدقّةٍ أيّ تغيير يطرأ عليه. "الهرب من الواقع" كان "ترفاً" بمعنى ما، يستلزم أن تلجأ الى رأسك وأفكارك أو تذهب الى مسرحٍ أو تستمتع لحكواتي، أو تشارك في مهرجانٍ دينيّ (حتّى انتشرت الطباعة وأصبح التعليم والكتاب متوافرين). أنا أزعم أن الحالة اليوم معكوسة، بمعنى أنّ عليك أن تختار وتنتقي "التأثيرات الخارجية" (بما في ذلك المعلومات) التي تسلّط عليك، لأنّ المعروض هو أكثر بكثير ممّا تقدر على استهلاكه في حياةٍ واحدة؛ فالمسألة هنا تصبح خياراً بين أن تتحكّم انت بحياتك الرقمية أو أن تترك القرار للهاتف الذكي وخوارزميات "فايسبوك" و«تويتر».
سأشرح عبر مثال: انت تريد أن تلعب لعبةً؟ ماذا تفعل مع "كاندي كراش»؟ يمكنني أن أدلّك على ألعابٍ حقيقيّة، تتطلّب مهارة وتكتيك بقدر لعبةٍ قتاليّة، أو تجربة سرديّة غنيّة وعالم بديل، لن تخرج منه مثلما دخلته. ألعابٌ عملت عليها فرقٌ من عشرات الفنانين والمبرمجين، و«المخرج" فوقهم يكون شخصيّة مشهورة في اليابان، تقرن الصحافة اسمه بلقب "سان" احتراماً (كأنّه مستكشفٌ أو فيلسوف). هذه هي الألعاب التي تستحقّ أن تضيّع وقتك عليها، وأنا أعرف أناساً يهدرون سنوات كهولتهم على تطبيقات مجانية تشبه ألعاب الثمانينيات. بهذا المعنى، الهاتف الذكي لا يهمّني لأن قدرته التقنية توازي، تماماً، الحاسوب الذي كنت أستخدمه منذ عشرة سنوات. أمّا حجّة "التّواصل»، التي يقدّمها مارك زوكربرغ كأنها قيمة مطلقة، فهي حجّة زائفة: أنا أجد أن ميزة الثورة الرقمية، على العكس تماماً من مقولة زوكربرغ، هي أنها تسمح لك بالتقليل من التواصل مع النّاس، والعمل خارج المكتب، وأن لا تكون مضطراً للتعامل المباشر مع الغرباء أو التواجد حولهم. أذكر جيّداً بدايات الهاتف الذكي مع ظهور "بلاكبيري" لدى اداريي الشركات الكبيرة والعاملين في قطاعات محدّدة، وأصبحت ترى هؤلاء الناس في سفراتهم وتنقلاتهم وعيونهم متسمّرة على الجهاز، يكتبون رسالةً أو يلاحقون الأعمال أو يردّون على مديريهم. وأذكر ايضاً أننا لم ننظر الى حالة "التواصل" هذه على أنها امتياز، بل كشكلٍ بائسٍ من الوجود، لا يمكن أن ندخل به مقابل دخلٍ يقل عن مئة ألف دولارٍ في السنة.
"فايسبوك" وأمثاله (في اميركا، بدأ "فايسبوك" بالتراجع منذ أكثر من سنة، والعديد من المحللين يعتبر أنه يتحوّل نادياً للعجزة والمتقاعدين، باعتبار أن الجيل الجديد هناك يعتبره قديماً ومملاً، ويفضّل "سنابشات" وغيره) لم يغيّر السياسة ولم يلغِ شروطها الدائمة ــ السلطة والقوة والمال. "فايسبوك" بالنسبة الى مستخدمه هو، قبل أي شيءٍ آخر، "حاجة حداثية»، ككل البنى الحديثة التي اعتمدناها تعويضاً لخسارة المجتمع التقليدي: لم تعد تعيش قرب أهلك وأصدقائك، تعود من عملك متأخراً كل يوم وليس لديك الوقت أو السعة ــ أو الصحة النفسية ــ لعقد علاقاتٍ حقيقية عن قرب؛ تشعر بأنك غير موجودٍ ولا تأثير لك، فيكون "فايسبوك" هو البديل الذي يعتاش على حاجاتك ونقاط ضعفك. المهمّ هنا، أقلّه على المستوى الفردي، هو أن تفهم المكان الذي وضعت نفسك فيه وكلفة الخيار (أخبرني صديقٌ أنّه قرّر ترك "فايسبوك" هرباً من "التواصل السلبي»، أي انه رحل قبل أن يقرّر أنه يكره جميع النّاس، وأن الكلّ هم انتهازيون وأغبياء وجهلة، باستثنائه هو وشلّته الصغيرة). حتّى وإن كنت "حذراً»، ولم تكشف عن معلوماتك الخاصّة، فإن الكلفة هي غالباً أكبر بكثيرٍ من أي فائدة مرتجاة: نقطة ضعفي، مثلاً، هي كأكثر الناس، "غرفة المحادثة" التي تجمعني برفاقي القلائل منذ سنوات، والتي لو تسرّبت ــ أو خرج بيننا خائن ــ فهي ستنهي حياتنا المهنية والاجتماعية، وسنضطرّ جميعاً للهجرة الى بلادٍ بعيدة. وهذه نتركها في عهدة زوكربرغ. وإن كانت قضية "كامبريدج أناليتيكا" قد تمّ تقديمها كـ«فضيحة" و«صدمة»، فمن الأفضل أن نخفض توقّعاتنا حتّى لا ننصدم حين نكتشف بعد سنوات ــ مثلاً ــ أن زوكربرغ يعمل مع المخابرات الأميركية والاسرائيلية، وأن "فايسبوك" في بلادنا تحديداً غرضه الأساسي هو التجسّس.