واضح موقف يمين الولايات المتحدة الأميركية من فلسطين. لكن المبهم هو موقف اليسار، أو اليسارات الأميركية. أو ربما هو ليس مبهماً تماماً بقدر ما هو مأزوم بسبب محاربة الناشطين السياسيين الداعمين لفلسطين من قبل أعداء عدّة. اجتمع خلال أوائل شهر آذار في بيروت ناشطون وناشطات سياسيون من أكثر من 80 بلداً للحديث عن القضية الفلسطينية، في إطار الملتقى الدولي الرابع للتضامن مع فلسطين. وهنا فرصة للكلام عمّا يدفع هذه المجموعات لأخذ هذا الموقف من فلسطين، خاصة في بلد كالولايات المتحدة الأميركية. فالسؤالان الأساسيان اللذان يُطرحان في هذا السياق، هما أوّلاً، ما الذي يجمع الولايات المتحدة الأميركية ومجتمعاتها وناشطيها السود مثلاً، بفلسطين؟ وثانياً، ما الذي نشأ في السنين الأخيرة، كعدو أساسي للتنظيم في إطار التضامن مع فلسطين ودعمها؟بروكلين صيف 2017. بين غرفة صغيرة في مانهاتن ومقهى في بروكلين، يتجمّع طلّاب الجامعة وناشطات وناشطون سياسيون. الحديث غالباً ما يكون عن أمرين أساسيين: شيء ما يحصل في فلسطين ويجب التحرّك من أجله، أو هجمة جديدة من الصهاينة على المجموعة، خاصة في الجامعات.
لكن النشاط السياسي من أجل دعم فلسطين في السياق الأميركي لا ينفصل عن أمرين أساسيين: مناهضة الإمبريالية وقضايا الملونين والسود والنساء والمستضعفين في ظلّ النظام الرأسمالي. فبينما يرسم الإعلام الأميركي صورة واحدة نظيفة، برّاقة الجوانب، تلمع بالدولارات المتناثرة حولها، ونساء سعيدات ورجالاً مبتسمين في شوارع نظيفة وقطارات تصل على الوقت... ما يُخفى هو بؤس الملايين وتمدّد القلّة القليلة فوق أجسادهم المحترقة في شمس الشوارع.
«فمن هنا، من مانهاتن، من المستحيل ألا نرى ظلم رأس المال وقبح الاستعمار. إن من تزور هذه المدينة، عليها أن تصبح شيوعية مباشرة، أو تكون عمياء تماماً عما يحصل حولها». هذا ما جاء في ذهني بعد أوّل أسبوع في نيويورك... وتأكّد بعد نهاية مدة زيارتي لها التي امتدت لشهرين.
من العنصرية المقيتة، حتى الفقر المدقع، وانتشار ظاهرة الشباب المشردين، وأعداد المدمنين أو المساجين، وغياب الخدمات الأساسية أو سوئها بالإضافة إلى غلاء سعرها، حتى خصخصة كل شيء تقريباً... الدولة الفاشية تقمع الشعب وتنشر المخدرات والكحول لتدفعهم إلى الإدمان، ثم تنكفئ وتقول «أنا لا أغطي المجرمين والمدمنين ولا أؤمّن لهم أساسيات الحياة». الدولة الفاشية تمنع التغطية الصحية المناسبة عن النساء والمرضى والأطفال وذوي الأمراض المزمنة، وتحاول إقصاء المزيد من المحتاجين. الدولة الفاشية تبني المصانع النووية بإجراءات سلامة متدنية، وتتركها بعد الانتهاء منها دون «تنظيف». الدولة الفاشية ترمي ببنات وأبناء شعبها إلى الشوارع، تهدم بيوتهم، تحرمهم من التعليم والعمل، وتحصر عطاياها بنخبة رجال أعمالها.
إن سمعنا ما يقوله الإعلام المهيمن فقط، لن نعي بأن مدينة «فلينت» في ميشيغن مثلاً تعاني من تلوث مياه الشفة بالرصاص، وبأن الدولة لم تقم بإيقاف مصدر التلوث، بل أمّنت خزان مياه مؤقّتاً، سيتم إيقاف عمله في أيلول... ويضطر أهل فلينت للعودة إلى شرب المياه التي تقتلهم... ودفع قيمة استهلاكهم لها: هم مجبرون على شراء سمّهم. الدولة الأميركية تقتل شعبها، تماماً كما تقتلنا، نحن بنات وأبناء العالم الثالث. ففيما تحاول الإمبريالية الأميركية تصدير أزماتها الداخلية عبر حروب على شعوبنا في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا وأميركا اللاتينية، لا يستطيع اليسار الأميركي إلّا أن يعمل على المستوى الداخلي كما السياسة الخارجية للحكومة الأميركية.
وإذا أردنا أن نحدّد ماهية «اليسار» الأميركي، خاصة في ظل الكمّ الهائل من الليبرالية والتأثير التروتسكي، فإن اليسار الأميركي يتمّ تعريفه عبر موقعه الطبقي، في الداخل والخارج: موقفه من سياسات الحكومة الأميركية التاريخية في استعباد الأفارقة وقمع الفقراء والعمال والنساء والمهاجرين وتفقيرهم وتعريتهم من مقوّمات الصمود والمقاومة، كما موقفه من سياسات الحكومة الأميركية في الخارج كإمبريالية وخاصة تدخلها في سياسات حكومات العالم الثالث خاصة، أي موقفها من الاحتلال في فلسطين كخطوة أولى. وعبر هذا التصنيف، يخرج الحزب الديمقراطي -بمرشحه الشهير بيرني ساندرز الداعم لـ«إسرائيل»- كحزب يميني يدعو لبعض الإصلاحات هنا وهناك.
والتقاطع مع القضية الفلسطينية يأتي من هنا، من قدرة «اليسار» على ربط الاحتلال باستغلال الشعوب أينما كانت.
اليوم مثلاً، تأتي هذه البلاد الثمانون مع قضاياها، من الفيليبين إلى سود أميركا، يأتون لوضع فلسطين كقضية مركزية لهن ولهم، وللتعلم عنها. في هذا الإطار، فإن فلسطين والموقف منها هو ما يعطي الشرعية لمواقفهم وقضاياهم ونضالاتهم، بحيث يتمّ التثبّت من راديكالية التحركات والأحزاب على ضوء موقفها من فلسطين.
وذلك يظهر أكثر في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، لأن النشاط والتنظيم السياسي في الولايات المتحدة الأميركية بالذات، نشاط مموّل، أي إن الناشطين السياسيين يشغلون مناصب برواتب في مؤسسة تعمل كمنظمة سياسية. لذا، يصبح من الأصعب أخذ موقف راديكالي حقيقي من فلسطين، بينما يأتي أكثر التمويلات إن لم يكن كلّها، من مؤسسات صهيونية أو على الأقل رافضة لدعم فلسطين.
نذكر مثلاً قضية الدكتورة رباب عبد الهادي، أستاذة الأعراق والمقاومة في جامعة ولاية كاليفورنيا، والتي اتهمتها مؤسسة «لوفير بروجكت» -اليد القانونية للوبي الصهيوني- بمعاداة السامية وقاضتها بسبب نشاطات سياسية داعمة لفلسطين قامت بها منذ سنة 1990 حتى الصيف الماضي.
كما لم تبدأ الأمور بالتأزم مع دونالد ترامب كما يتمّ الحديث حالياً، بل كان أحد دعائمها سنة 2015 تحت حكم باراك أوباما، حيث مرّرت ولايتا إيلينوي وكارولاينا الجنوبية قانوناً يجرّم مقاطعة العدو الصهيوني، كما وضعته 11 ولاية أخرى قيد الدرس، وناقشت كانساس وبنسيلفانيا قانون وقف التمويل على الجامعات التي تشارك في المقاطعة.
لكن العدو الجديد لفلسطين في أميركا والعدو الجديد لحركات التنظيم اليسارية المناهضة للإمبريالية، هي المجموعات الداعمة للـ«ثورة السورية» أو ما يسمّى «داعمي التدخل الأميركي في سوريا». يجري العمل من خلال تدخّل أجانب وعرب (سوريون خاصة، بحيث يستغلّون مبادئ «سياسات الهوية» identity politics القائلة بأن لأهل المنطقة الحق بالكلام عنها، دون النظر إلى انحيازاتهم الثقافية، السياسية والطبقية) في التنظيمات والمجموعات التي تنظّم الطلّاب لدعم فلسطين («طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، «حركة الشباب الفلسطيني» وغيرهما) في إطار يساري مناهض للإمبريالية، بهدف «تطهير» موقفها من الصراع الحاصل في سوريا، والضغط لتغيير وجهة موقفها ليصبح داعماً للتدخّل الأميركي «لإنقاذ الشعب السوري». وتتمّ محاربة أي ناشط/ة يعادي هذا الموقف من جهة، وتدمير المنظّمات التي ترفض هذا التوجه.
من الملفت أولاً، عدم وجود إلّا مرجع واحد عن الموضوع، رغم معاناة الناشطات والناشطين السياسيين في مجال دعم فلسطين في الولايات المتحدة الأميركية من تدمير تنظيماتهم بهذه الطريقة بالذات. ويعود ذلك إلى حرص الباحثات والباحثين على عدم التطرق لهذا الموضوع، خوفاً من ماكارثية هذه المجموعات ومحاربتها، خاصة لما تمتلكه هذه المجموعات من مال وإمكانية الوصول إلى السلطة وأدواتها.
يناقش الباحث الأميركي «ماكس آجل» في مقاله في مجلة النداء (الجمعة 10 تشرين الثاني 2017) عمل التنظيمات الداعمة لفلسطين في الولايات المتحدة الأميركية وتأثيرها وأعداءها.
يتكلّم آجل عن العمل التدميري للمجموعات الداعية للتدخّل الأميركي، «فالعديد من المنظمات غير الحكومية الداعمة لفلسطين، كالحملة الأميركية للحقوق الفلسطينية the US Campaign for Palestinian Rights، يقود منظّموها والناطقون باسمها، حملات ضد حزب الله (لدوره في مقاومة الاحتلال)، داعمين بشكل مفضوح وعلني، التدخّل الأميركي في سوريا، وقد حاولوا طرد الأفراد المناهضين للإمبريالية من التحالفات والتحركات.
بنفس الشكل، سيطر الطلّاب الذين عملوا أو نسّقوا مع منظّمات أميركية غير حكومية داعمة لتغيير النظام في سوريا، سيطروا لوقت موجز، على الحراك الطلابي الأميركي. وقد أذوه بشكل كبير، مفرّغين الحراك من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين الراديكاليين والمناهضين للإمبريالية، رافضين حتى انتخابات ديمقراطية ستؤدّي لوصول الطلاب الراديكاليين – بأغلبية فلسطينية- إلى السلطة في المجلس الوطني للطلاب من أجل فلسطين (NSJP). وقد كانت النتيجة الانهيار الجزئي والمؤقّت لحملات سحب الاستثمار».
نتكلّم هنا عمّن يقاطع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في أميركا! عمّن يسبّ ليلى خالد ويسمّيها منافقة لعدم دعمها للتدخل الأميركي، ولنفيها وجود ثورة في سوريا اليوم. عمّن يحاربون ويدمّرون تنظيمات وحركات طلّابية عمل عليها رفيقات ورفاق لسنين، في سياق خطر سياسي وأمني، وتمّ تهديدهم ومقاضاتهم ومقاطعتهم وطردهم ومنعهم من العمل. نتكلّم عمّن يعملون على تدمير حركة سياسية لدعم فلسطين في «بطن الوحش»، بحيث لا ينافسهم في محاربتها إلّا الصهاينة. من الضروري أيضاً أن نعطي وصفاً سريعاً لهؤلاء، من أميركيين يتمتّعون بكل ترف الانتماء للدولة العظمى من جهة، أو من بورجوازية عربية مهاجرة لطالما كانت كارهة لانتمائها العربي، أو على الأقل ذات انتماء غربي ترى في المنطقة العربية تخلفاً ورجعية. نتكلّم عمّن يتمّ استخدامهم من قبل الإمبريالية الأميركية (ولن ندخل هنا في ترّهات «هل أميركا هي الإمبريالية الوحيدة وهل البرازيل مثلاً إمبريالية صاعدة؟» لأن الولايات المتحدة الأميركية، بسلطتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية واتّساع قدرتها الاستعمارية وقمعها وتحكّمها هي الإمبريالية في هذه المرحلة، أتوافق ذلك مع انحيازاتنا السياسية والجيوبوليتيكية أم لم يفعل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فليس هناك من مقارنة بين تأثير أميركا وتدخّلها في شؤون كل بلاد العالم وتصديرها لأزمتها، وتأثير أي بلد آخر يمكن أن يعتبر ناشئاً في هذا الإطار). كدمى متحركة لطرح الخطاب الأميركي، بشكل «محلي» ولهجة عربية اعتماداً على ما يعرف بسياسات الهوية identity politics. نتكلّم عمّن يطلقون دعوات لإزالة الأسد، «حتى لو عنى ذلك موت الملايين»، وهم جالسات وجالسون في راحة منزلهم ذي نظام التكييف اللطيف، ودفء المياه الساخنة في الحمامات، وأمان وظيفة وتغطية صحية وضمان شيخوخة، لأن امتيازاتهم الطبقية تسمح بذلك. بينما يموت السوريات والسوريون لا لشيء إلّا لأن هؤلاء لا يرون في بقاء «دولة» في سوريا أو زوالها ما يؤثّرعلى حياتهم هم.
بين تطوير طرح الحركات الداعمة لفلسطين في الغرب، وربطها بالنضالات الأخرى، أو تجريمها واضطهاد ناشطاتها وناشطيها، يتمظهر فضاء جديد للنضال، أو لتجذير النضال: تقاطعُ القضية الفلسطينية مع مناهضة الإمبريالية ومعاداة الحركات المحلية الداعية للتدخّل الأجنبي. تقاطع بين القضية المركزية التي نقرؤها مقاومة للاستعمار، ومحاربة دعاة الاستعمار الجدد، أهل جلدتنا الذين يتمسّحون على أدراج الحكومات لكي تقتل المزيد من شعوب تبرأت منهم.