«لم يكن لدى الأمير محمّد بن سلمان كلمة واحدة سيئة يقولها (عن إسرائيل)» جيفري غولدبرغ

المثير في المقابلة التي نشرتها مجلّة «أتلانتيك» مع ولي العهد السعودي هو أنّ محمّد بن سلمان قد شرح نظرته عن السياسة والأحلاف في منطقتنا عبر تأويلٍ دينيّ. كان طريفاً أن نرى بن سلمان يعرض نظرته عن الإسلام للصهيوني جيفري غولدبرغ (اختياره للمقابلة لم يكن صدفةً بالطبع، وهو الكاتب المعروف بدفاعه المتطرّف عن إسرائيل، التي خدم في جيشها في السابق)، ويحاول اقناعه بنظريته الفقهيّة. الفكرة هنا، بحسب العلّامة/ الأمير، هي أنّ الإسلام يتضمّن واجبين اثنين على المسلم: عليك، من ناحية، أن تؤدي فروضك الفرديّة وأن تلتزم بقواعد الحلال والحرام، والواجب الثاني هو التبليغ ونشر دعوة الإسلام. الفتوحات الإسلاميّة الأولى والعنف الذي رافقها، يقول بن سلمان، كانت تحصل فحسب حين يمُنع المسلمون من التبليغ في أرضٍ معيّنة (أي أنها كانت شكلاً من الدفاع عن حرية الرأي ونشر المعلومات)؛ ولكن هذه الحجّة قد سقطت في العالم الحديث حيث أصبحت رسالة الإسلام منتشرة ومُتاحة للجميع، فلم يعد هناك سببٌ ـــ بالنسبة إلى محمد بن سلمان ـــ للجهاد أو لرؤية الدّين خارج إطار الواجبات الفرديّة. هنا، ينقسم المسلمون في الشرق الأوسط لدى بن سلمان إلى فئتين (وذلك بحسب نظرتهم للإسلام، وليس الموقف السياسي فحسب): دولٌ وحركات تمثّلها الحكومات «المعتدلة» في الخليج والأردن ومصر، تلتزم بمفهوم «الحدّ الأدنى» للإسلام ولا تستخدم الدين حجّةً للتحشيد أو التنظيم، ويوجد من ناحيةٍ أخرى «ثلاثي الشرّ» ـــ إيران، «القاعدة»، و«الإخوان» ـــ الذي يجمع بين أطرافه تفسيرٌ «حركيٌّ» للدين، وهو ما يجعل هؤلاء النّاس خطيرين وذوي طموحات «إمبراطورية»، بحسب بن سلمان.
المفارقة هنا هي أنّ الأمير السعودي يعترف، بعد ذلك بدقائق، بأنّ حكومته هي من رعى «الإخوان» واستضافتهم حتى التسعينات، وهي من دعم واستخدم الحركات السلفيّة المقاتلة، ولكنّه يرجّع ذلك إلى ضرورات الحرب الباردة والصراع مع عبد الناصر و«الشيوعيّة»، وأنّ هذا كلّه قد تمّ بطلب أميركيّ، وآن الأوان اليوم للرجعة إلى «الدّين الصحيح».

«رؤية جديدة»
المسألة الأساس، في رأيي، هي في طريقة تخيّلنا (أو تنظيرنا) لحالة المنطقة العربية وخريطة السياسة فيها، وللانقسامات والصراعات التي تتجلّى على أرضها. في وسعك، مثلاً، أن تركّب سرديّة فقهية على طريقة بن سلمان، ترجّع الخلافات إلى الأيديولوجيا والتأويل والدين، أو سرديّة أكثر اتّساقاً بقليل عن خيارات الدول أو مصالح النّخب وأمزجة الحكّام («كان الشّيخ زايد وطنيّاً وعروبيّاً، ولكن أبناءه ليسوا مثله»)، أو نقنع أنفسنا بـ«تراتبيّة في السّوء» بين شيوخ وأنظمة الخليج ونبني على أساسها («قطر تظلّ أفضل من السّعوديّة»).
لا يجب لنا أن نخاف من أن يقود الإمبراطورية «صقور» صاخبون، بل ما يثير القلق هو أن نصدّق أنّ من يسكن في البيت الأبيض هو من الحمائم


أنا أدفع، من جهةٍ أخرى، بأنّ نقطة الانطلاق في التحليل يجب أن تكون ـــ أوّلاً وقبل أيّ شيء ـــ في الدّور الذي يلعبه الخليج (والمنطقة عموماً) في النظام العالمي، وهو السقف الذي تتحدّد تحته بقية العوامل والظواهر. الدّور الأميركي (أو «الغربي») في الإقليم هو ليس مجرّد مظلّة سياسيّة تحوي تحتها أنظمة «معتدلة»، الخليج يمثّل ـــ منذ عقود ـــ جزءاً عضوياً من عمل النظام الرأسمالي الغربي، وهذا لا يقتصر على تزويد السوق بالنفط، بل أيضاً في كيفية تدوير أموال النفط وعائداته، بالدولار طبعاً، وإعادة ضخّها في المصارف الغربية، وإنفاق عائدات الدّول على الاستيراد والاستثمار في الخارج وشراء السلاح. هذا الدّور الوظيفي هو عامل الثبات الذي لا يتغيّر عبر العقود، وإن تغيّرت الشخصيات والشعارات. إن كانت بعض التنظيرات في الاقتصاد السياسي تقول إنّه، في العصر النيوليبرالي، تكون مهمّة النخب الحاكمة في دولٍ طرفية مثل مصر والأردن هي خدمة السوق الدولية ومؤسساتها، ودمج بلدها فيها، وليس خدمة فئات محليّة أو السيادة الوطنيّة، فإنّ هذه القاعدة تكتسب معنىً أعمق في دول الخليج النفطية (بسبب الأهمية الكبرى للنفط وتأثير عائداته).
خذوا «رؤية 2030» مثالاً. الأمير (وخلفه الصحافة الغربية) يقدّم المشروع على أنّه بوّابة لـ«التغيير» وإصلاح النظام السعودي؛ ولكن تغيير بأي معنى؟ بالمقاييس أعلاه، الأمير يريد أن يزيد الاستثمارات السعودية في الغرب، وأن يزيد المشتريات العسكريّة، وأن يُطلق مشاريع كبرى (في العقارات والصناعة وغيرها) تشغّل الشركات الأجنبية، فيما الدّولة تنسحب تدريجاً من مهمتها التوزيعية وتترك المواطنين لـ«السّوق». بل إنّ الفكرة الناظمة لـ«الرؤية» ـــ أن تحوّل الدّولة أصولها إلى استثماراتٍ في الغرب وتعتاش على ريوعها ـــ تعد بتعميق الاندماج السعودي في المنظومة الغربية وتجذير المسار القائم منذ اكتشاف النفط، وليس التراجع عنه. الأمير يقول للأميركيين بأنّه، بدلاً من تدوير فوائضه المالية في بنوكهم، سيضع كلّ أموال الشعب لديهم «أمانة»، ويستفيد هو من الأرباح التي تنتجها في اقتصادهم (أي من الرّيع على الرّيع).
لهذه الأسباب «البنيوية» أيضاً، لا سبب للصدمة من مواقف النظام السعودي الأخيرة تجاه الكيان الصهيوني. الجميع يعلم أنّ الخليج وإسرائيل يتبعان، بالمعنى السياسي، لمنظومةٍ واحدة، والسعودية لم تقف ضدّ إسرئيل في حرب منذ عام 1982 على الأقلّ. ولكن شكل الوظيفة يتغيّر باختلاف السّياق. من تفاجأ سلباً من السياسات الخليجية الجديدة هم من جهةٍ شرفاء الشّعب، الذين لا خيار لهم في قرارات حكومتهم ويعادون الصهيونيّة ولم يصبهم الهوس بإيران والشيعة، ومن جهةٍ أخرى بعض النّخب الخليجية المنافقة، التي تريد أن تكون ملكيّةً ووطنيّة في آن، لا تزعج العرش ولكنها تدّعي الدّفاع عن فلسطين، وقد أتاح لهم التكتّم الرّسمي في السنوات الماضية هامشاً لهذا الموقف المتناقض، والزّعم بأن في وسعك خدمة فلسطين (أو أي من مصالح شعوب المنطقة) من الرّياض.

النفط والاستلاب
من هنا، كان جمال عبد النّاصر ينظر إلى البعيد حين قنّن العلاقة مع الرساميل الخليجية ونظّم إطاراً صارماً للعمالة في الدّول النفطية (حتى قبل أن تحصل الفورة النفطية وتزداد الاستثمارات والمغريات). كانت الدّولة المصريّة، مثلاً، تفرض أن يتمّ انتداب البيروقراطيين والأساتذة وغيرهم ممن سيعمل في الخليج عبرها مباشرةً، وهي تحدّد راتبك خلال فترة انتدابك، وتحتفظ بجزءٍ منه، ويحصل تدويرٌ بمعنى أنّك ستنتدب إلى الخليج لسنوات معدودة، ثم يأتي غيرك ليستفيد ـــ وذلك لمنع بناء علاقة طويلة الأمد مع البلد المضيف وتحوّل العمل في الخليج إلى نمط حياة لفئة مخصوصةٍ من الشّعب. إن كان هناك درسٌ من محنة سعد الحريري في السّعوديّة، والمعلومات الأخيرة عن العنف الذي تعرّض إليه هناك، فهو أنّك لن تربح مع هؤلاء النّاس: حتّى لو كنت رئيس وزراءٍ وتعمل في إمرتهم وتخدم نظامهم، فأنت لن تحصل على شراكةٍ أو سيادةٍ أو حتّى احترام؛ بل سيتمّ استغلالك وإذلالك وقد يطالبونك بإحراق بلدك في نهاية الأمر حين يحلو لهم ذلك.
فهم عبد الناصر هذه الفكرة البسيطة، وهي أنّه لا وجود لمالٍ مجّانيّ، وأنّ بناء علاقات اعتمادية مع معسكرٍ معادٍ هو بمثابة تسليمٍ وانتحار، وحين تكون أنظمة الخليج ـــ مثل إسرائيل ـــ تخدم الهيمنة، فلا مجال لفتح الأبواب معها. بديلك عن الانصياع والتبعية هنا هو واحدٌ من ثلاثة: إمّا أن تسقط هذه الأنظمة وتأخذ النفط لنفسك (بدلاً من أن يأخذه ترامب) وتعيد توزيع الثروة على مستوى الوطن العربي، أو أن تعزل نفسك عن تأثير هذه الأنظمة واختراقها وتحارب نفوذها في بلادك، أو ـــ إن اضطررت ـــ أن تنظّم العلاقة معها بشروطك وفي إطار من الحذر البالغ والريبة. إنّ أخطر ما جاء في مقال ديكستر فيلكنز (الذي ذكر التفاصيل عن معاملة الحريري في الرياض) لم يكن يتعلّق بمحمّد بن سلمان فحسب، بل في زعمه بأنّ خالد مشعل قد آوته الدوحة بعد خروجه من سوريا بطلبٍ أميركيّ، وهو ما لمّح إليه مسؤولون قطريّون ولكن من دون تحديد الأسماء (يضيف الكاتب بأنّ مقرّ مشعل في الدوحة كان يقع على الناصية من منزل السفير الأميركي). هذا، إن صحّ، يطرح سؤالين أساسيين في السياسة: ما هي، بالضبط، الصفقة التي عقدتها قيادة «حماس» وكانت أميركا طرفاً فيها في مرحلة حرب سوريا والخروج من دمشق؟ والسؤال الثاني هو: هل القيادة راضيةٌ اليوم، بعد كلّ ما جرى، عن النتيجة؟ بل هل هم مستعدّون للاعتراف بما فعلوا؟

ترامب وصقوره
الوجه الآخر لقوّة الحلف الأميركي ـــ الإسرائيلي في بلادنا هو العنف؛ أي الحرب والغزو وإشعال النزاعات. وما يتّفق عليه ترامب وبن سلمان وبن زايد ونتانياهو هو أنّ إيران اليوم هي «قلب» المشكلة في المنطقة، ومصدر المتاعب التي تواجهها أميركا وحلفائها من لبنان إلى اليمن. يروي فيلكنز أنّ عنصر التوافق الوحيد بين أركان إدارة ترامب، حين اجتمعوا بعيد تشكيل الفريق الرئاسي، كان ضرورة مواجهة إيران وقلب نظامها وشلّ دورها في الإقليم. ولكنّ المشكلة هنا هي حين يفترض البعض بأنّ الفرق بين أوباما وترامب هو في «الحزم»، وأن أحدهم يريد التعايش مع إيران فيما الثاني يريد ضربها، هذا حتّى لا نذكر العربي الذي «يتفاءل» كلّما دخل جون بولتون جديد، أو عنصريّ صهيونيٌّ من طرازه، إلى البيت الأبيض و«يستبشر» بغزوةٍ أميركية جديدة.
حتّى نبسّط: يوجد، في السياسة الغربية، مذهبان في النظر إلى إيران ودورها في المنطقة العربية. التفسير الأوّل يرتكز على الأيديولوجيا كمحرّكٍ للسياسة الإيرانية، سواء بالمعنى الإيجابي (أنّ حكومة إيران ملتزمة بمبادئ الثورة الإسلامية، وهي تعمل على نشرها ودعم من يحارب الهيمنة والطاغوت) أو بالمعنى السّلبي (أن إيران تحرّكها طموحات إمبراطوريّة فارسية وهي تسعى للسيطرة على الإقليم واستعماره، وهو خطاب محمد بن سلمان، أو أنّها قوّة شيعيّة تسعى إلى محاربة السّنّة وتبديل مذهبهم، وهو النّسخة «الشعبية» عن هذا الخطاب). أتباع هذا المعسكر، إجمالاً، يدفعون إلى الصّدام مع إيران والنّظر إليها كقوّة «شرّ» لا مجال للتفاوض معها أو التعايش إلى جوارها، طالما أن الإمكانية الوحيدة لـ«تغيير سلوكها» هي في ضربها وإسقاط نظامها.
من ناحيةٍ أخرى، هناك الاتّجاه الذي تبنّته إدارة أوباما ويعبّر عنه خبراء مثل ولي نصر، وهو يصرّ على تحليل إيران باعتبارها دولة «براغماتية»، يجب التعامل معها بعقلانية وعبر الحوافز العامة التي تحكم سلوك الدول. يكتب نصر (في مقالٍ أخيرٍ في «فورين أفيرز») أنّ السبب الذي يدفع إيران إلى دعم حركاتٍ مسلّحة معادية لأميركا وإسرائيل والخليج هو حسابٌ عقلانيّ بسيط. إيران، بحسب نصر، تخوض في المنطقة «حرب دفاعٍ متقدّمة»، بعد أن أيقنت أنّ اميركا ستستخدم إقليمها ضدّها، حتّى تحاصرها وتضربها من الداخل والخارج. يذكّر هؤلاء بأنّ طهران كانت مستعدّة لعقد علاقاتٍ جيدة مع حكومات الخليج كلّما لاحت الفرصة، وهي لا تهدد بتغيير النظام الإقليمي أو «تصدير الثورة» منذ الثمانينات؛ ولكنّ اجتياح العراق وما تلاه، وقبله حرب صدّام ضد النظام الوليد، أفهم القادة الإيرانيين بأنهم محاطون بالأعداء. هذا الشعور بالتهديد، يكتب ولي نصر، هو ما دفع المخططين الإيرانيين إلى السعي لخوض حروبهم خارج الحدود، لاقتناعهم بأن ايران ستكون الهدف القادم بعد العراق وسوريا. لهذه الأسباب يحاجج هذا الفريق بأنّ المواجهة العسكرية (أو التهديد بها) لها مفعولٌ عكسيّ، فهي تزيد من إصرار طهران على الجذرية وعلى تعزيز «خطّ دفاعها» في الإقليم، وقد تورّط الحلف الأميركي في معارك خاسرة.

من ينظر إلى السياسة الدولية باعتبارها ميداناً لـ«كسب الرأي العام الدّولي» ليس متعامياً عن حقائق الدنيا فحسب، بل هو يدفع شعبه إلى رهاناتٍ بائسة


الوهم هو في أن نفترض أنّ المذهبين يختلفان في الهدف النهائي، وأنّ سياسة أوباما ترمي إلى الإبقاء على النظام الإيراني فيما بولتون سيعمل على قلبه. حين نفهم أنّ جناحي الإدارة الأميركية يسعيان، بوسائل مختلفة، الى الإطاحة بالنّظام (أو «إصلاحه» أو «تغيير سلوكه»، فالمعنى واحد) تصبح الصورة أوضح. بل إنّ هناك حكمةً ما في كلام ولي نصر. أنظروا إلى سنوات أوباما («الجبان» و«المهادن» بحسب الإعلام الخليجي، يقول ديكستر فيلكنز، بالمناسبة، إنّ لوبي الإمارات والسعودية كان خلف ترويج هذه الفكرة عن أوباما في الصحافة وفي واشنطن، لاختلافهم معه في شأن الملفّ النووي). خلال ولايتَي أوباما، تمّ قلب النظام في أوكرانيا وتحويلها إلى قاعدة معادية لروسيا، وأصبحت قواعد «ناتو» على الحدود الغربية لروسيا تقبع تحت العقوبات؛ وتمّ تدمير ليبيا وغزوها مع بقاء واشنطن في الظلّ واستخدام واجهة الـ«ناتو» والدول العربية و«التدخل الإنساني» (وصفت إدارة أوباما أسلوبها في حرب ليبيا بـ«القيادة من الخلف»)؛ وتمّ إشعال حربٍ طاحنة في سورية وإذكاؤها، فيما أدخل أوباما ـــ تحت حجّة «داعش» ـــ الجيش الأميركي إليها وأعاده إلى العراق. وهو قد فعل ذلك كلّه في إطار خطابٍ ديبلوماسي عن «التهدئة» تدعمه أغلب القوى الدولية، وقد أقنع إيران بتجميد برنامجها النووي، وساهم في انتخاب رئيس «معتدل» و«ليبرالي» مثل روحاني.
ترامب، بالمقابل، لم تشهد إدارته بعد سنة ونصف سنة إلّا التراجع، من سورية إلى كوريا، وتفجّر الخلاف الخليجي من دون نتيجةٍ أو حلّ، وإضعاف المعسكر الأميركي في لبنان وانحسار الغطاء الدولي عن سياسات واشنطن. بل إنّ كلام بن سلمان في مقابلته الأخيرة، عن خطّته لمواجهة إيران في دول الإقليم ومن ثمّ تفجيرها من داخلها، ليس إلّا تأكيداً لأسوأ تخيلات الإيرانيين عن نوايا جيرانهم، وحافزاً لهم لمواجهتها. الفكرة هنا هي أنّه، في حالة إمبراطوريّة مهيمنة مثل أميركا، فإنّ المظاهر قد تكون خدّاعة، والغزو المباشر ليس الأسلوب الوحيد للحرب، بل إنّه لا يجب لنا ِأن نخاف من أن يقود الإمبراطورية «صقور» صاخبون، مثل بولتون وبومبيو، بل ما يثير القلق هو أن نصدّق أنّ من يسكن في البيت الأبيض هو من الحمائم.

خاتمة
الثّابت الوحيد هنا، عدا عن سياق الهيمنة، هو منطق القوّة. حين يضرب اليمنيّون الرّياض، أو يستهدفون ناقلة نفطٍ في البحر الأحمر، تنتبه وسائل الإعلام وينشغل السياسيّون في دراسة الموقف وكيفيّة توقّيه، ولو لم يكن لدى اليمنيين صواريخ تتكلّم ورجالٌ مهرةٌ أشدّاء يرفعون صوته، لما التفت أحدٌ إلى حصار البلد وتجويع شعبه، أو حتّى إلى ضرب مخيمات اللاجئين في الحديدة وقتل الأطفال، ولتمّ خنق اليمن في صمت وسكوت. من ينظر إلى السياسة الدولية باعتبارها ميداناً لعرض القضايا والمرافعة و«كسب الرأي العام الدّولي» ليس متعامياً عن حقائق الدنيا فحسب، بل هو يدفع شعبه إلى رهاناتٍ بائسة. حين ارتكبت إسرائيل مجزرتها في غزّة، وخرجت بالكاد بضع تقارير إعلاميّة تستنكر الجريمة والبرودة القاتلة التي جرت بها (هذا هو الرأي العام العالمي في أفضل حالاته)، ردّت اسرائيل بأنّ بعض الشهداء كانوا عناصر في المقاومة، وزعمت ـــ من غير دليل ـــ بأنّ البعض الآخر كان يحمل سلاحاً. في لحظةٍ واحدة، أخذ الإعلام الغربي خطوةً إضافية إلى الوراء، وأصبح ما جرى في غزّة «حادثة»، ووقفوا موقف الحياد (كأنّ انحياز «ذا غارديان» إلينا كان سيفيد غزّة بشيء). هذا إثباتٌ للقاعدة القديمة عن حدود التضامن الغربي مع قضايانا وأنّه، على حدّ قول صديق، سينتهي فوراً ما أن تحمل بندقيّة وتحاول الدّفاع عن نفسك ولا تعود «ضحيّة جميلة» تصلح للتصوير. هو أيضاً تأكيد لمعادلة صاغها، منذ سنواتٍ وفي ظروفٍ قاسيةٍ مشابهة، رجلٌ حكيمٌ في لبنان استنكر الحديث عن «ضمير عالمي… لا وجود له» وطلب أن نضع هذه المفاهيم خلفنا وأنّ نعي، منذ البداية، أن «هذا العالم لا يفهم بمنطق التذلل ولا المسكنة ولا المطالبة بحقوق الإنسان. هو عالمٌ لا يفهم إلّا بالقوّة، ولا يستيقظ ضميره إلّا بالقوّة، ولا ينطق كلمةً من فمه إلّا بالقوّة».