شكّل وديع حدّاد ظاهرة مميّزة لم يُكتب عنها الكثير. كتب عنها غسّان شربل، لكن روايته تعرّضت لانتقاد وتشكيك من قبل قريبين من وديع حدّاد، ومن ورثته السياسيّين ومن الجبهة الشعبيّة (قصته عن دور رفيق الحريري في دعم تنظيم حدّاد مضحكة). ظاهرة يتهيّب المرء الكتابة عنها، وذلك ليس فقط بسبب شحّ المعلومات عن رجل حافظ على طابع السريّة فيما انفلش قادة المقاومة في البيئة اللبنانيّة (إن الصورة التي نشرها له أبو شريف في مطار الثورة لا يظهر فيها وجهه المغطّى بكوفيّة ونظّارة سوداء سميكة: وحده أبو نضال، مثل حدّاد بالرغم من الاختلاف الكبير بين النموذجيْن، حافظ على طابع السريّة ولم يسمح بنشر صور له. أحمد جبريل كان أيضاً محافظاً على طابع السريّة لسنوات حتى بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة). المعلومات قليلة جداً عن الرجل وهو لم يكن يهوى الثرثرة مثل أبو حسن سلامة. وفشل العدوّ الإسرائيلي في الوصول إلى حدّاد وذلك بسبب حفاظه على أمنه وأمن تنظيمه واحتفاظه بطابع سريّ ومتقشّف في العيش في لبنان. لم توحله البيئة اللبنانيّة التي أفسدت الكثير من قادة المقاومة.
تستطيع أن تكتب في الصداقة ورفقة العمر بين جورج حبش ووديع حدّاد. تخرّجا في كليّة الطب في الجامعة الأميركيّة ولم يمارسا العمل الخاص ليوم واحد. التحقا بالمخيّمات الفلسطينيّة في الأردن على عجل لأنهما كانا في سباق مع الزمن طيلة عمريهما. لا أعتقد أن هذا النوع من التفاني لا يزال موجوداً: أي أن يتخرّج المرء بشهادة طب (أو شهادة العلوم السياسيّة أو الكيمياء) ويفرّغ حياته كلّها للعمل على تحرير فلسطين. بعضنا يختلق الأعذار: بأنه ليس هناك منظمات تلائم طباعنا وأهواءنا وسياستنا، وأننا علمانيّون، فيما التنظيمات السائدة دينيّة. لكن هذا عذر انطبق على حدّاد وحبش في أوائل الخمسينيات، وكلاهما رفضه. ماذا فعلا لحلّ الأمر عندما لم يجدا بين التنظيمات ما يعجبهما؟ هما خلقا منظمة جديدة تعمل وفق أهوائهما على تحرير فلسطين، كل فلسطين. جورج حبش لم يتوقّف منذ النكبة عن خلق منظمات تعنى بالقضيّة الفلسطينيّة. الصداقة بين الاثنيْن كانت تاريخيّة ودراميّة: تشبه الصداقة بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، مع أن شخصيّة عامر لا تستحق المقارنة بسبب غياب الموهبة والقدرات والتركيز والكفاءة.
الثنائيّة بين حبش وحدّاد كانت مميّزة: أكمل أحدهما الآخر وعرفا باكراً ضرورات تقسيم العمل. لم يسع حدّاد إلى الجماهيريّة لأنه علم بحدود قدراته (على عكس حواتمة الذي سعى إلى تقليد حبش في كل شيء تقريباً). ولم يسع حبش، الذي كان متواضعاً ويعرف حدود مواهبه الجمّة، إلى التنطّح والتدخّل في تنظيم وتخطيط عمليّات عسكريّة ليست من اختصاصه. لم يسع حبش يوماً إلى التدخّل في شؤون العمل الأمني والعسكري، لأنه احترم آراء ذوي الكفاءة، وأفرد لهم مساحة قياديّة لم يستحقّها بعضهم. قد يكون الانفصال بين حبش وحدّاد في عام 1972 من نكبات القضيّة الفلسطينيّة. قد تكون الرغبة في إرضاء الاتحاد السوفياتي وراء الانفصال (ليس من جانب واحد، أي رغبة حبش في ممالأة موسكو، وإنما محاولة سوفياتيّة تخريبيّة في العمل الفلسطيني الثوري ــ لكن لا دليل قاطعاً على ذلك بعد).
المناسبة عن موضوع حدّاد صدور كتاب بسّام أبو شريف عنه. يجب بداية القول إن النشر العربي، بخلاف دار الآداب (على يد المؤسّس وعلى يد الرفيق سماح) ودار الطليعة في عزّها والبعض الآخر القليل من دور النشر، يفتقر إلى مُحرّر قوي يفرض التحرير على الكاتب (والكاتبة). إن عدم التحرير في النشر العربي يعود إمّا إلى غرور المؤلّف الذي يدفع بالمخطوطة مع أمر واحد: لا تعديل في كلمة واحدة فيها (هكذا كان شارل مالك يفعل عندما ينشر مقالة أو خبراً في مجلّة الجامعة الأميركيّة في بيروت). وتحرير المخطوطات وتهذيبها وتشجيبها يعود بالنفع على القارئ وعلى الكاتب على حدّ سواء. ينطبق هذا على كتاب أبو شريف. تتكرّر الروايات في الكتاب عدة مرّات (مثل قصة تسمّم حدّاد في حديقة منزل أكرم الحوراني في بغداد). بعض الروايات يتكرّر سردها في الكتاب. كذلك فإن الكتاب كُتب على مراحل، ويظهر أن الكاتب ينسى أنه كان قد روى حدثاً معيّناً من قبل في قسم سابق. هذه عثرات كان يمكن تلافيها من قبل مُحرّر متخصّص.
لكن الكتاب مهم بسبب شح المعلومات عن الرجل. العنوان الفرعي له («ثائر أم إرهابي») نافر باللغة العربيّة، لأن ليس هناك خارج إعلام آل سعود من يتهم حدّاد بالإرهاب. هذا العنوان ــ واضح ــ مُعدّ لطبعة إنكليزيّة. وأبو شريف كاتب مشوّق يحسن سبك الرواية، وله خبرة طويلة في ذلك. والكتاب ــ يبدو لي على الأقل ــ محاولة من أبو شريف للعودة إلى ماضيه، والقفز على مرحلة مشينة قضاها في الحوارات مع الإسرائيليّن وتوّجها ــ أو بلغ دركها ــ في الاشتراك في تأليف كتاب مع مسؤول استخباري إسرائيلي سابق. الكاتب يعود إلى بداياته ويفصّل مع مرحلته الفتحاويّة. هل يعود ذلك إلى إبعاده عن موقع السلطة بعد وفاة عرفات؟ الجواب عند أبو شريف، ولا يمكن التخمين، لكن القارئ سيُفاجأ بأن أبو شريف الكاتب هو أبو شريف زمن حقبة الجبهة الشعبيّة وليس أبو شريف زمن حقبة عرفات.
لكن هل كان حدّاد على هذا القرب من أبو شريف؟ قد تكون الحقيقة غير ذلك، لأن من كان يعرف حدّاد وعظام تلك المرحلة من العمل الفلسطيني لا يتحدّث عن قرب أو علاقة مميّزة بين حدّاد وأبو شريف. هناك مبالغة هنا. الصحيح ــ وأغفل ذلك المؤلّف ــ أن حدّاد كان مولعاً جدّاً بغسان كنفاني وكان من قلّة صغيرة جدّاً ــ تقلّ عن أصابع اليد الواحدة ــ يستشيرها حدّاد في أمر عمليّاته وفي قراءته للوضع العربي والدولي. كان حدّاد يستمع إلى تحليلات كنفاني ويستفيد من شبكة علاقاته الإعلاميّة. وكان أبو شريف معروفاً حتى وفاة كنفاني كمساعد له، وليس أكثر، مع أن اغتيال كنفاني ومحاولة اغتيال أبو شريف ساهما في صعود أبو شريف، وليس بسبب التعاطف فقط.
يكشف الكتاب الكثير عن داخل الجبهة الشعبيّة وعن طبيعة صنع القرار. هناك الكثير عن شخصيّة حدّاد وعن دوره في الكتاب. الجدال في موضوع مساهمات حدّاد وجدواها سيطول، كما أن الجدال في موضوع فعاليّة أو عدم فعاليّة أعمال الفرع الذي رأسه حدّاد بعد ترك الجبهة سيستمرّ إلى سنوات أيضاً، وهذا الجدال صحّي. هل كانت عمليّات حدّاد بموازنة مكافآتها من تحرير الأسرى ومن كسب تمويل للجبهة مفيدة أم ضارّة؟ هل كانت العمليّات مسؤولة عن لصق صفة الإرهاب بالشعب الفلسطيني أم أن العدّو كان سيفعل ذلك ــ وهو فعل ــ من دون عمليّات حدّاد؟ النقاش في كل ذلك ضروري من أجل استخلاص عبر لمراحل لاحقة من الكفاح الفلسطيني المُسلّح.
إن نجاح وديع حدّاد كان في مجال صيانة تنظيمه، قبل «الفصل» في عام 1972، وبعده. عرف حداد كيف يحمي نفسه ويحمي تنظيمه من أخطر شرّ إسرائيلي في التنظيمات الفلسطينيّة: شرّ الاختراق الموسادي. (والصيانة الأمنيّة هي أيضاً عنصر أساس في فعاليّة تنظيم حزب الله في مواجهة العدوّ الإسرائيلي). الكتاب يكشف للمرّة الأولى حقائق (أو فضائح) عن اختراق تنظيم الجبهة الشعبيّة نفسه ــ على مستوى القيادة ــ من قبل جهات معادية. تتكرّر قصّة أبو أحمد يونس في الكتاب، وهي قصّة لم يُنشر عنها بعد الكثير. أبو أحمد يونس كان مسؤولاً أمنيّاً رفيعاً في الجبهة، وكان في الآن ذاته صاحب مؤسّسة إجراميّة محترفة. ويوحي أبو شريف بأنه كانت له ارتباطات مشبوهة جدّاً (وكان عمله الأمني مضرّاً بأمن الجبهة بالذات). لكن الجبهة أبقت عليه في موقعه لسنوات طويلة، وعندما صدر قرار إعدامه لم تشمل مضبطة الاتهام الكثير من الأخطار في سيرته. (قصّة أبو شريف عن اغتيال السفير الأميركي في بيروت فرنسيس ميلوي غير دقيقة، لأن إيقاف السيّارة لم يكن مُعدّاً له، وقامت به فرقة من حزب العمل الاشتراكي العربيــ لبنان قبل أن يأتي أبو أحمد يونس ويتسلّم الملف).
إن دور أبو أحمد يونس والمحاولة الانشقاقيّة الخطيرة للقيادي الآخر وليد قدّورة (الذي شكّل في حينها ظاهرة شبابيّة لافتة في الجبهة على ما يذكر الرفاق الذين عاصروه ــ روى لي عن تلك المرحلة الرفيق صلاح صلاح وغيره) أمران بالغا الدلالة. (قدورة ثبت تورّطه في التجسّس لمصلحة المكتب الثاني اللبناني، لكن الرفيقة هيلدا حبش تصرّ على أنه كان يتجسّس لمصلحة العدوّ الإسرائيلي، ولقد صدر قرار بإعدامه، لكن علاقة قرابة ربطته بقيادي آخر في الجبهة أنقذته من موت محتّم في أشهر الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، حين رحل إلى دولة الإمارات ليعمل في وسائل إعلامها).
بكلام آخر، لم يعمل حدّاد في بيئة حاضنة: لا في لبنان ولا في الجبهة الشعبيّة نفسها. يكشف أبو شريف الكثير عن علاقات أكيدة بين الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة اللبنانيّة في السبعينيات وبين العدوّ الإسرائيلي. استعان العدوّ بجهاز واسع من العملاء في قطاعات مختلفة من الدولة اللبنانيّة. يحقّ لأبو شريف قبل غيره أن يصبّ جام غضبه على الدولة اللبنانيّة في رأسها، لأن الطرد المفخّخ الذي انفجر بين يديه كان يحمل ختم وزير البرق والبريد آنذاك، جميل كبّي، العضو في كتلة صائب سلام: أي إن إجراء الختم من قبل الوزير جاء بعد مطالبة رسميّة من تنظيمات المقاومة الفلسطينيّة لأجهزة الأمن اللبنانيّة بتشديد الرقابة على الطرود البريديّة، يعني أن الطرد مرّ على أجهزة فحص الطرود والرسائل. هل هناك حاجة إلى عبقريّة للاستنتاج أن هناك في مكتب الوزير من عمل لمصلحة الموساد، وأنه كان يسهل العثور عليه آنذاك بعد أن انفجر الطرد الذي يحمل ختم الوزير؟ كان هذا في زمن اغتيالات قادة المقاومة، والذي استعان فيه العدوّ بغطاء كامل من الجيش اللبناني ــ أو بعضه ــ وبعض قوى الأمن الداخلي، مثل الفرقة 16 التي منعت أحداً من التقدّم نحو الفرقة المهاجمة في فردان في 1973 قبل إكمال المهمّة البشعة.
أفسدت البيئة اللبنانيّة على حدّاد عمليّاته، ولهذا احتاج إلى أن ينتقل إلى اليمن (هل كان سعيداً؟). وديع حدّاد لم يفرج أو يكشف أو يكرّس كل طاقاته. كان مشغولاً بأمور كان يمكن في تنظيم أفضل أن تكون في منأى عنه. هو المُخطّط والمُدبّر الذي عرف كيف يجيّر الخدمات التقنيّة والعلميّة لمصلحة عمله ــ أذكر عندما أشار أحدهم لي ذات مرّة إلى غرفة في مخيّم شاتيلا وقال: هذا مختبر علمي لحدّاد ــ. من عاصره في اجتماعات حركة القوميّين العرب كان يقول إنه كان ينبذ الاجتماعات الطويلة المنصرفة إلى السجالات الأيديولوجيّة التي استساغها نايف حواتمة، لكنه لم يكن (مثل أحمد جبريل في ما بعد) متنقّلاً في أيديولوجيّته بناءً على تحالفات ظرفيّة. ثبت حدّاد على ولائه للخط السياسي العام الذي كان جورج حبش يرسمه. لكن حبش من دون وديع حدّاد، ووديع حدّاد من دون حبش، كان بمثابة المعادلة الناقصة، أو المزيج الكيميائي الخالي من العنصر المُحفّز. حبش من دون حدّاد أصبح عرضة للتأثّر من القادة العسكريّين والأمنيّين، مثل أبو أحمد يونس وغيره، كما أن حدّاد من دون حبش أصبح مضطرّاً (في عرفه) إلى اللجوء إلى حماية نظام من أسوأ الأنظمة العربيّة (نظام صدّام، وتواطؤ المخابرات العراقيّة في تسميم حدّاد كجزء من صفقة دوليّة مُرجّح: أذكر أن عنوان جريدة «فلسطين الثورة» الفتحاويّة حملت اتهاماً لصدّام بتسميم حدّاد غداة موته). أفسد كارلوس على حدّاد عمل تنظيمه وخلق مشكلة بين أعضاء جدد. لم يكن يريد حدّاد ــ كما أبلغ حدّاد كارلوس بعد فشل عمليّة فيينا سياسيّاً بالرغم من نجاحها التقني ــ أن يصنع نجوماً. كان يريد أن يصنع أبطالاً، لكن مجهولون إلا من العدوّ الإسرائيلي. تشظّى التنظيم وابتعد حدّاد عن حبش تنظيميّاً. لكن هناك جوانب لم يكشف عنها أبو شريف في روايته. ما هي طبيعة علاقات حدّاد العربيّة والدوليّة بعد انفصاله عن حبش؟ روى لي واحد من أبرز قادة الجبهة الشعبيّة أنه التقى بحدّاد (بعد فصله) وواجهه بتوالي العمليّات الخارجيّة التي ــ اعتبرها الأوّل ــ ضارّة بالعمل الفلسطيني الوطني وطالبه بالعودة إلى رحم التنظيم الأم. حدّاد، وفق الرواية التي سمعتها شخصيّاً، أجاب بما معناه أنه تورّط في علاقة مع الـ«كي.جي.بي.» وأنه ما عاد يستطيع التملّص منه (وأظهر حدّاد في اللقاء المذكور أوراقاً تثبت علاقته بالـ«كي.جي.بي.» لرفيقه السابق). يرفض أبو شريف من دون دليل الرواية عن حدّاد التي وردت في «أرشيف متروخين»، مع أنها ــ على الأقل في جانب ارتباط حدّاد ــ متوافقة مع رواية القائد المذكور. لكن «أرشيف متروخين» مشبوه بصورة عامّة ولا يجوز التعامل معه إلا بحذر شديد.
هل كان حدّاد عبئاً على الجبهة أم كانت هي عبئاً عليه؟ هل حاول كثيراً أن يبقى على ربط الصرّة مع التنظيم الأم، ما أعاق حريّة حركته؟ هل حساب الربح والخسارة عند حدّاد قلّل من قدرات العدوّ، ومن نجاحه بصورة خاصّة في اختراق التنظيمات الفلسطينيّة كلّها حتى على مستوى القيادة (من المفارقة أن الذي كشف ارتباطات وليد قدّورة في الجبهة الشعبيّة هو أبو الزعيم ــ من أسوأ نماذج الثورة الفلسطينيّة في لبنان والذي قاد في عام 1983 انشقاقاً عن عرفات لمصلحة المخابرات الأردنيّة، لكن عرفات ــ كعادته ــ غفر له في ما بعد وقرّبه ووضعه في مناصب عليا).
قصّة وديع حدّاد لم تُروَ بعد، لكن أهميّتها تكمن في حاجتنا إلى أبطال متفانين من دون الحاجة إلى الاستعانة بأبطال من غير العرب. مات معظم رفاق حدّاد، وتقاعد كل من عمل معه. الصراع على ثروة (التنظيم) المُفترضة أدّت إلى خلافات وصراعات في ما تبقى من تنظيم حدّاد، وحتّى بين ذلك التنظيم وبين الجبهة الشعبيّة التي عانت وتعاني من شح في التمويل. لكن رواية أبو شريف يشوبها عدد من الأخطاء: لم يموّل رفيق الحريري تنظيم وديع حدّاد كما زعم أبو شريف (ص. 134) لسبب بسيط هو أن الحريري ترك لبنان في عام 1965، قبل إنشاء تنظيم الجبهة الشعبية أو تنظيم حدّاد في ما بعد. والحريري كشف في مقابلة مع محطته التلفزيونيّة قبل سنوات أنه توقّف عن تأييد جمال عبد الناصر وسياساته بمجرّد وصوله إلى المملكة (منتهى المبدئيّة عند الحريري، طبعاً، أي إنه غيّر اقتناعاته لحظة وصوله إلى أرض المملكة). لم يموّل الحريري أياً من التنظيمات الفلسطينيّة، لكنه موّل القوات اللبنانيّة والحزب التقدمي الاشتراكي. وقصّة أبو الشريف عن خطف عبد الكريم الكباريتي (لم يكن أستاذاً في الجامعة الأميركيّة كما ورد في الكتاب (ص. 134) بل كان تلميذاً فيها) لا تتطابق مع رواية من عاصرها حول اتهام الكباريتي بالتورّط آنذاك في التخريب على نشاط الطلبة الأردنيّين في الجامعة إلى جانب الثورة الفلسطينيّة.
مضى وديع حدّاد ومضى جورج حبش ومضت مجموعة من أفضل ما أنتج النضال الفلسطيني في تاريخه. لم يلفظهم التاريخ كما لفظ غيرهم عبر السنوات. لكن النضال الفلسطيني يبدو مجمّداً هذه الأيّام، كما أن شبكة العلاقات والنزاعات بين «حماس» و«فتح» تبدو مفيدة في التحالف أو الصراع لتجميد النضال. مثّل وديع حدّاد مرحلة من النضال المُستقلّة، وإن كانت حركته وقعت ــ مثل الكثير من منظمات الثورة الفلسطينيّة ــ أسيرة لشبكة من التحالفات الخارجيّة الضارّة. ما كان يمكن أن يقيم وديع حدّاد في بغداد وأن يستمرّ في ممارسة النضال، خصوصاً عندما كان صدّام يعدّ لإعادة النظر في العلاقة مع الغرب. لكن السؤال عن تقييم وديع حداّد يحتاج إلى مزيد من الأجوبة، والعلاقة بينه وبين جورج حبش تحتاج إلى مزيد من العناية. لكن تاريخ فلسطين ونضال شعبها لا يُكتبان من دون رواية سيرة الرجليْن الفاضليْن الثائريْن.
* كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)