رهنت السعودية مجمل نشاطاتها الدبلوماسية والاستخبارية والاعلامية والمالية على مدى عامين بمشروع إسقاط النظام في سوريا... وربطاً بهذا المشروع، دخلت في خصومات مع كل من يعارض أو ينأى بنفسه عنه. وكانت القطيعة المصحوبة غالباً بأعمال عدائية وحدها الرد على القريب والبعيد ممن لا يعتنقون المقاربة ذاتها في الأزمة السورية...أكثر من ذلك، انفردت السعودية بقرار الحرب والسلم في جبهة المعارضة السورية بكل تشكيلاتها، الى حد طمس التنوع السياسي والايديولوجي داخل أطياف المعارضة، ولم يعد هناك سوى لون واحد يرتبط بها مباشرة (أيديولوجياً ومالياً واستخبارياً)، أو بصورة غير مباشرة (أيديولوجياً في الحد الأدنى)...
وفي عملية تعبئة شاملة لقدراتها المالية على حساب قضايا محلية مستعجلة (الفقر، البطالة، الخدمات العامة... إلخ)، كانت على استعداد لرصد مليارات الدولارات إرضاءً لأحقاد شخصية مع النظام السوري، بعضها يتعلَّق بتهمة ضلوع الأخير في قضية اغتيال الحريري، الأب، وأخرى لعلاقته مع إيران، وثالثة لدعمه حزب الله... في نهاية المطاف، اختطف النظام السعودي إرادة المعارضة السورية، ورسم خارطة طريق تنتهي الى خيار الحرب دون سواه، حتى وإن أدّى الأمر الى قتل ثلث الشعب وهدم سوريا على رؤوس بقية الثلثين.
قائمة الاعداء فتحت منذ عامين، وراحت العائلة المالكة تجنح الى صناعة الأعداء، وباتت بمثابة صندوق باندورا في إطلاق الشرور تلبية لهدف النيل من رأس النظام السوري.
تغيّر العالم من حولها، وانقلبت موازين القوى على الأرض، وتخلّت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون عن خيار الحرب، تفادياً لمصير كارثي قد تؤول اليه المنطقة في حال وقعت الواقعة العسكرية الشاملة، ولكن في الرياض ثمة من يفكر وفق منهج الثأر والانتقام دون حساب لاحتمالات الخسارة...
وإذا كان ثمة ما يدعو إلى الارتياب والتريّث في الشهور الثلاثة الماضية حيال ما ينبغي فعله في الملف السوري، فقد بات المشهد شديد الوضوح بعد الاتفاق الايراني ــ الدولي في جنيف، والمؤسس على تفاهم روسي ــ أميركي. في النتائج، فشل مشروع إسقاط النظام في سوريا، ولم يعد الميدان مكاناً لتغيير الواقع السياسي.
نعم، سعت السعودية بالتعاون مع حلفائها (الأردن وإسرائيل على وجه التحديد) نحو تنفيذ الخطط المرسومة من قبل قادة عسكريين أميركيين وبريطانيين وفرنسيين استعداداً لحرب عسكرية متدحرجة تفضي تدريجاً الى شل القدرات العسكرية لدى النظام السوري وتنتهي بسقوطه.
فشلت المحاولة الاخيرة لإسقاط النظام في سوريا، ولا تزال السعودية غارقة في خصوماتها. وسقطت مبررات العداوة مع دول المنطقة، من لبنان الى إيران، ومن اليمن الى السودان، ومن تونس الى الجزائر، ومن قطر الى تركيا، وتصرّ السعودية على أن الوقت لا يزال متاحاً لجهة تحقيق ما خطّطت له.
الثورة المضادة التي قادتها السعودية أحالت ربيع العرب الى فوضى، وعلى وقع الانخراط الكثيف في الأزمة السورية تمزّقت الروابط بين الكيانات القائمة، وباتت مساحة انتشار الاضطرابات السياسية والأمنية مرشّحة للاتساع، فيما يجري الحديث عن سايكس بيكو جديد، على غرار ما تحدّثت عنه روبن رايت في مقالة لها في (نيويورك تايمز) في 28 أيلول الماضي.
السؤال الى أين تريد السعودية أن تمضي وقد وصلت الى حائط مسدود؟ فقد جلبت لنفسها خصومات بالجملة، فهل تريد مواصلة السير في سياسة الخصومة والقطيعة والحرب ضد الدول العربية كافة الى حدّ لم يبق لها من صديق حقيقي. بل الأخطر من ذلك، ماذا لو توافقت مجموعة قوى دولية وإقليمية على إعادة رسم خرائط المنطقة، فبمن تلوذ، وإلى من تلجأ، وقد صنعت قائمة أعداء، وليسوا أعداءً عاديين؛ فالدول التي تخاصمها السعودية هي مؤثرة في المعادلات الجيوسياسية في المنطقة، ولا يمكن تجاوز أدوارها، ولا خيار أمام الرياض إن أرادت إعداد خطة انسحابها من الأزمة السورية، أو فك عزلتها الاقليمية، ووقف مسيرة الخصومة مع الدولة العربية والاسلامية، إلا أن تلجأ إلى هذه الدول، التي هي ذاتها على استعداد لمنحها الفرصة الكافية من أجل خروج مشرّف من كل الازمات التي وضعت نفسها فيها.
وتيرة التحوّلات الجيوسياسية والاقتصادية سريعة، وليست هناك وفرة من الفرص أمام السعودية لانتقاء الحلول التي تريد، أو صنع معادلات كما تشاء أو حتى تحلم، فما يتغير على الأرض وفي العالم كبير جداً.
خطر التقسيم وتفكك الكيانات القائمة لم يعد تهويلاً، فهناك متغيرات ميدانية واستراتيجية توفّر بيئة خصبة لإعادة رسم الخرائط، وإن المزاج العام في الشرق الأوسط ليس متنافراً مع مشاريع كهذه، بسبب عودة الاستبداديات للهيمنة على الدول، والانقسام العميق والاستقطاب الحاد بين الدول، ما يجعل السعودية ببنيتها الهشة، والأخطار الأمنية المحدقة بها، مرشحة دائمة لأن تكون في قلب عاصفة التفكك.
قدرة السعودية على العيش في بيئة متخاصمة معها سوف تكون محدودة، لأن قدر الدول والمجتمعات هو التعايش والانفتاح. والاندكاك المطلق في خيارات هلاكية مثل التي تعتمدها الآن في علاقاتها مع الدول القريبة والبعيدة على قاعدة من هم معها ومن هم ضدها في المسألة السورية لا يصدر عن رؤية استراتيجية بعيدة المدى؛ فقد باتت السياسة الخارجية السعودية مسكونة بكل ما هو لحظوي، وقصير الأجل، وسريع الأثر، بخلاف ما كانت عليه في سنوات سابقة حيث كان التريّث، والمواربة، والعمل الهادئ والمحسوب بدقة ثوابت في نشاطها الدبلوماسي وعلاقاتها الخارجية...
الإحساس المتضخم بالقوة قد يدفع بعض الأمراء من أمثال بندر بن سلطان وسعود الفيصل وتركي الفيصل الى مغامرات قاتلة، بناءً على تقديرات خاطئة للقوة الذاتية. وهناك من الأمراء من لا يزال يتصرف على أن المال كفيل بتوفير الحماية، رغم أن هذه المعادلة لم تعد قائمة، وقد أبلغ الأميركيون شركاءهم السعوديين في أكثر من مناسبة قريبة أن عليهم تدبّر أمورهم بأنفسهم، وأنهم ليسوا على استعداد لخوض معارك النيابة لمجرد أن السعودية لديها خصومات مع جيرانها.
لا يزال الأميركيون يتذكّرون ما فعل الملك فيصل في الستينيات من القرن الماضي حين أقحمهم في مواجهة مفتوحة مع جمال عبد الناصر، واعتبروا ذلك خطأً فادحاً لأنهم تحوّلوا الى شريك في حرب لا تعنيهم، ولا مصلحة لهم في نشوبها، لمجرد أن آل سعود يمقتون الحركات القومية العربية، مع أن هذه الحركات لم تكن شريرة، بل كان ينظر الأميركيون الى هدفها المركزي، أي إقامة نظام عربي متماسك، على أنه لمصلحة الولايات المتحدة. فعل الملك فهد (1982ــ2005) الأمر ذاته حين طالب بحضور عسكري أميركي دائم في المنطقة لحماية العرش السعودي. ولكنّ المسؤولين الأميركيين تنبّهوا الى ما يضمره الملك فهد حين اعتقد بأن «وجودنا ومصالحنا في المنطقة منوطة بإرادته ووجوده»، بحسب مذكرة مشتركة صادرة من لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس ووزارة الخارجية الأميركية ورفعت الى بيل كلنتون في بداية عهده في يناير 1993. كشفت التبدّلات السريعة في المواقف الأميركية أخيراً، والتي ظهرت دفعة واحدة بعد التسوية الكيميائية السورية بين الروس والأميركان، عن أن ثمة إدراكاً تاماً وشاملاً لدى الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض لما يخطط له الملوك السعوديون، لخصتها المذكّرة المشار إليها أعلاه بعبارات واضحة: «القيام بتدابير ابتزازية واضحة مشفوعة بتهديدات لعرقلة مصالحنا في المنطقة».
تنبئ المواقف الأميركية الجديدة بتحوّل جوهري في علاقات واشنطن مع شركائها في المنطقة، وعلى رأسها السعودية وإسرائيل. وفي ظل الانشعاب العظيم في البنية الجيوسياسية لمنطقة المشرق العربي، نكون أمام انزياحات خطيرة في مراكز الجاذبية السياسية والاستراتيجية في المرحلة المقبلة، في ظل أحاديث عن نقل أثقال عسكرية واقتصادية لقوى كبرى من الخليج الى الشرق الأقصى. وفي حال صدقت أحجام النفط الصخري في الولايات المتحدة، وتحرّرها تدريجاً من أعباء الشراكة الاستراتيجية في المنطقة، نكون في ظل التمزقات الحالية في علاقات السعودية بجيرانها أمام خطر التفكك بفعل فاعل أو كنتيجة لسياسات قاتلة.
* باحث وناشط سياسي سعودي