عند الإعداد للانتخابات النيابية في عام 2009، برز داخل الحزب الشيوعي رأي معارض للمشاركة مقابل رأي متحمس لها. كنت أميل إلى المشاركة، وشاركت شخصياً بالصلة مع أحد المسؤولين عن لوائح المحادل يومذاك بهدف نقل مطلب الحصول على موقع على إحدى اللوائح. وأذكّرك حضرة الأمين العام بأنك بعد هذا اللقاء ذكرت في المكتب السياسي أنها كانت «أسوأ لحظة في حياتك» حينما سمعت جواب ذاك المسؤول: «نحن محشورون مع حلفائنا وأصدقائنا». وكنا قد حذرناكم يومذاك من أنكم تركضون وراء أوهام. وها هي تتكرر اليوم بوجه آخر.وكان تقييم الهيئات القيادية لنتائج تلك الانتخابات أنها «كارثية»، وأن من غير المفيد بعد اليوم مشاركة الحزب في أي انتخابات على أساس القانون الأكثري. ومع مطلع الاستحقاق الحالي، قرّرت اللجنة المركزية المشاركة في العملية الانتخابية، لكن بعد وضع معايير سياسية لطبيعة المشاركة ونوعية التحالفات، على أساس:
ـــ لا تحالف مع الثنائيات والوحدانيات المذهبية، ولا تحالف مع أحزاب السلطة وتوابعها.
ــ نعم للتحالف مع اليساريين والعلمانيين والديمقراطيين الراغبين في تحقيق الدولة العلمانية الديمقراطية.
وبناءً عليه، نظّمت جولات في كل لبنان لطرح المشروع السياسي الجديد، والاستفادة من هذا الاستحقاق الانتخابي من أجل بناء كتلة شعبية علمانية ديمقراطية ثابتة تعبّر عن نفسها بعد الانتخابات النيابية. وكانت هذه الخطوة محل تقدير ومحط اهتمام عند كل من سمع الأمين العام في الندوات والخطابات والمقابلات.
لكنك، حضرة الأمين العام، ذهبت إلى ممارسة غير منسجمة مع قرار اللجنة المركزية، فبالغت في التأكيد على أن العملية الانتخابية الراهنة وعبر هذا القانون هي محطة للتغيير الديمقراطي، علماً بأن هذا القانون سيعيد إنتاج الطبقة السياسية ذاتها. إن مفهومنا الثابت أن القانون الوحيد الذي يشكّل مدخلاً للإصلاح السياسي هو القانون الذي أكدت عليه كل القيادات السابقة، أي «القانون النسبي غير الطائفي على أساس لبنان دائرة واحدة». وبالتالي، لم يعد مفهوماً هذا الترويج لهذا القانون، واعتباره مكسباً ديمقراطياً ومحطة للتغيير، لأن هذا الموقف هو إسهام في تضليل الرأي العام.
كما أنكم بدأتم بالتراجع التدريجي عمّا أقرّته اللجنة المركزية حينما أعلنتم «ضرورة التفاهم مع قوى الاعتراض الديمقراطي لبناء تفاهمات انتخابية في كل الدوائر بالتعاون مع حيثيات سياسية واجتماعية لها ثقل شعبي وغير مرتبطة بأطراف النظام السياسي».
هذا موقف ملتبس لا يعبّر عن حقيقة موقف اللجنة المركزية، ويحتاج إلى تحديد وتعريف مفهوم الاعتراض الديمقراطي، لأن ربطه بتفاهمات انتخابية مع حيثيات سياسية كيفما كان لا يصبّ في مشروع سياسي محدد، بل يفرّغه من أي مضمون سياسي اجتماعي، ويفتحه على كل المعترضين على السلطة القائمة لا على المعارضين للطبقة السياسية الحاكمة. وبالتالي، فأنتم في تحالفاتكم وخياراتكم الحالية إنما طبّقتم الشق الأول من مضمون هذا الموقف وأغفلتم الشق الثاني القائل «غير مرتبطة بأطراف النظام السياسي».
بدل أن يكون الحزب رافعة للوائح التغيير الحقيقية، أصبح ملحقاً ثانوياً


فأنتم انخرطتم كغيركم من أطراف السلطة في تحالفات غريبة عجيبة حيث يتحالف اليساري مع اليميني، والاشتراكي والإقطاعي وأحزاب المعارضة مع أحزاب السلطة. وهذا لا نجد له مثيلاً في أي بلد في العالم، بما يؤدي قبل بدء العملية الانتخابية إلى نسف مفهوم الديمقراطية من جهة والى دفن النسبية المشوّهة من جهة أخرى. فتمّ تشكيل لوائح فارغة من أي مضمون سياسي واجتماعي، بما فيها التي شاركتم فيها (استثناء دائرة الجنوب الثالثة)، علماً بأن مكوّني تلك اللوائح لا همّ لهم سوى تأمين حاصل انتخابي، إلا أن أفراد اللائحة أنفسهم يشهرون خناجرهم بعضهم ضد بعض في عملية التسابق على الصوت التفضيلي.
إنها الوصولية والانتهازية السياسية والطفولية اليسارية بامتياز. هذه حالة شاذة، خصوصاً أن عقد التحالفات ينفرط مع إقفال صناديق الاقتراع، فيعود كل طرف إلى متراسه السياسي والاجتماعي، وهو ما يؤدي إلى القرف والإحباط ويسهم في تضليل الناس. كما أنه يتم تزوير الإرادة الشعبية وتعود الطبقة السياسية ذاتها إلى الحكم، وبالتالي يكون السؤال: أيّ كتلة شعبية ستشكّلها بعد الانتخابات؟
لقد دخلت حضرة الأمين العام المعركة رافعاً شعار «صوت واحد للتغيير»، فهل ستغيّر من خلال التفاهمات الانتخابية التي أقدمتم عليها مع عائلات إقطاعية وبعض أحزاب السلطة؟ وهل كان قرار اللجنة المركزية قائماً على تفاهمات انتخابية والدخول في لوائح لا طعم لها ولا لون. وبدل أن يكون الحزب الشيوعي رافعة للوائح التغيير الحقيقية، أصبح ملحقاً ثانوياً بتلك اللوائح، وقد يتحول إلى مطية يصل عليها آخرون.
لقد لفت نظرنا اهتمام بعض أعضاء القيادة بالتحالف مع ما يسمى «حزب سبعة» والحرص عليه. هل تعلم يا حضرة الأمين العام أن هذا الحزب هو نسخة طبق الأصل بشعاراته واسمه وإعلاناته وتوجهاته السياسية، عن أحزاب موجودة في إسبانيا وإيطاليا وبتسميات مختلفة في دول أخرى؟ وهل تعلم أن من شجّع على قيام مثل تلك الأحزاب، فضلاً عمّا يسمى المنظمات غير الحكومية، هو الولايات المتحدة؟ ونحيلك إلى كتاب السياسي الأميركي جورج سوروس بعنوان «أوهام التفوّق الأميركي»، فتجد أن من بادر ودعا إلى تشكيلها ودعمها هو الولايات المتحدة، وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، للوقوف سداً بوجه اندفاعة الشباب منعاً لاعتناقهم الأفكار اليسارية المتطرفة. وقد شبّهوه بمشروع مارشال ما بعد الحرب العالمية الثانية حينما اشترطوا إعادة بناء أوروبا المهدمة بوقف المدّ الشيوعي بقيادة ستالين. وقد تنبّهت روسيا لأمر تلك المنظمات غير الحكومية ومثل تلك الأحزاب، فبادر الرئيس فلاديمير بوتين وعدد من بلدان أميركا اللاتينية ذات الأنظمة التقدمية إلى إقفال مراكزهم ومنعوهم من النشاط.
شخصياً، اخترت الخروج من الهيئات القيادية في الحزب، وكان من الممكن أن أبقى ساكتاً، لكن ما دفعني إلى كتابة هذه الرسالة هو الصورة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي لمرشح الحزب في دائرة صور ــ الزهراني يصطحبه رئيس اللائحة وهما في منزل إحدى العائلات والحيثيات (الصورانية). ألهذا الحدّ وصلت الأمور؟ علماً بأن من هم أعضاء في اللائحة من غير الحزبيين رفضوا مرافقتهم إلى ذلك المنزل.
فهل تعلم من هم أصحاب ذلك البيت الذي ذهب مرشحكم لاستجداء أصواتهم من أجل بناء الكتلة الشعبية الديمقراطية المزعومة؟ فإن كنت تعلم فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم. اسأل كل وطني في مدينة صور وقضائها وقرّر.
بعد كل ما جرى، أرى أنه ليس في معركتك ولوائحك الاعتراضية سوى لائحة واحدة هي في دائرة الجنوب الثالثة التي رفضت الانجرار وراء مقولات ورغبات بعض من هم في القيادة وخيّرتكم بين اعتماد:
ـــ ترشيحات غير حزبية والاكتفاء بدعم أصدقاء.
ــ ترشيحات حزبية مباشرة ومن دون تحالفات خارج قرار اللجنة المركزية ولا ائتلافات مع قوى مشتبه فيها. فترددتم، وحسمت قيادة الدائرة الثالثة أمرها بخوض معركة سياسية لا لبس فيها.
في النهاية، ليس هدفي الاتهام أو التشكيك، بل كل ما أهدف إليه هو أن تعود إلى بداية ما طرحته من مشروع سياسي، وذلك: بأن تبادر قبل فوات الأوان إلى عقد مؤتمر صحافي تعلن فيه انسحاب الحزب من كافة الدوائر، والتخلي عن كل تلك التفاهمات الانتخابية، وهذا ما أفضّله. وإذا كان لا بد من الاستمرار في المعركة، فالاكتفاء بمعركة وحيدة في الدائرة الثالثة في الجنوب، ووضع كل إمكانات الحزب في سبيل تحقيق أفضل النتائج لها.
إضافة إلى ذلك، اقترح عليك التقدم إلى الشعب اللبناني ببيان سياسي تقول فيه إن قرار الانسحاب سببه هذا القانون الانتخابي وطبيعة اللوائح الانتخابية واستخدام التعبئة والتحريض الطائفي والمذهبي من قبل أطراف السلطة، فضلاً عن استخدام المال السياسي من أجل كسب الأصوات... وأن تختم قائلاً: إن ذلك كله سيضع لبنان أمام أوضاع مستقبلية خطيرة نحذر منها، وبالتالي لا يمكن أن نشارك في إنتاجها، ونعتذر من الشعب اللبناني ومن كل القوى الصديقة بالإعلان عن انسحابنا من هذا الاستحقاق.
* قيادي سابق في الحزب الشيوعي