لدراسة الديموقراطيّات والحديث عنها مواسمُ أكاديميّة، كما أنه كان لدراسة «المجتمع المدني» موسمُه الأكاديمي المزدهر في التسعينات من القرن الماضي. مناسبة الحديث عن دراسة الديموقراطيّات هو صدور كتاب «كيف تموت الديموقراطيّات» لأستاذيْن في جامعة هارفرد، ستيفن ليفتسكي ودانيال زيبلات. والدراسة هذه ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وقد رافقتها مقالات صحافيّة وأكاديميّة عن الموضوع. هي من إفرازات مرحلة صعود دونالد ترامب. وقد سبق المؤلّفان ليفتسكي وزيبلات، في الحديث عن اعتلال الديموقراطيّات، كتاب وان لينز، «تفكّك الأنظمة الديموقراطيّة» الصادر في ١٩٧٨، وتلاه كتاب «مشكلات التحوّل والتدعيم الديموقراطي: جنوب أوروبا وجنوب أميركا أوروبا ما بعد الشيوعيّة»، الصادر في ١٩٩٦. والإسباني لينز وُلد في ألمانيا ولهذا شغله موضوع انهيار الديموقراطيّة في بلد كان يُعتبر قدوةً للديموقراطيّات الغربيّة. ويسترشد المؤلّفان كثيراً بكتاب لينز (الأوّل) ويستعينان بمعاييره للحكم على خطورة بوادر تدهور السلوك والمعالم الديموقراطيّة في بلد ما.وليس الحديث عن خفوت البريق الديموقراطي بريئاً سياسيّاً في أميركا. النخب المتنفّذة هنا قلقة للغاية من عهد ترامب، كأن العهود التي سبقته كانت أقل عداءً للديموقراطيّة منه. إن مرتبة الولايات المتحدة في سلّم حريّات التعبير، الذي تعدّها سنويّاً منظمة «مراسلون بلا حدود»، في انخفاض مستمرّ في الألفيّة الجديدة (كما أن نسب النساء في الكونغرس لا تزداد على عكس أنظمة ديموقراطيّة وتسلّطيّة أخرى). وعهد باراك أوباما شهد أكبر زيادة في الملاحقة القضائيّة من السلطة التنفيذيّة ضد محرّرين ومحرّرات. وصدور فيلم ستيفن سبيلبرغ («ذا بوست») أتى في سلسلة من ردود الفعل الثقافيّة والفنيّة والأكاديميّة والإعلاميّة ضدّ عهد ترامب. الأخير ليس أميركا جديدة، بل هو أميركا القديمة عينها لكن بلسان ووجه سوقي وبذيء. وتعتري صفوف النخبة الحاكمة (المتحكّمة في السلطة والواقعة خارجها) حالة من الذعر خوفاً على وضع الإمبراطوريّة من جراء لمسات حكم وخطاب ترامب. والخوف ليس على الديموقراطيّة عند هؤلاء بقدر ما هو على المصالح الاستراتيجيّة للإمبراطوريّة. لكن للإمبراطوريّة القدرة على الإمساك بزمام الأمور عندما تريد، حتى لو عاكست إرادة الرئيس الأميركي: هو هدّدَ بضرب كوريا الشمالية وهي ــ أي قيادة الإمبراطوريّة الأميركيّة ــ لم تردْ حرباً. هو أراد نسف الاتفاق النووي مع إيران وهي أرادت الحفاظ عليه. هو أراد إهمال «الناتو» وهي أرادت الحفاظ على الحلف وتعزيزه. هو أراد الانسحاب الفوري من أفغانستان وهي أرادت نشر المزيد من القوّات. هو أراد الانسحاب من سوريا، وهي أرادت البقاء فيه من أجل مواجهة النفوذ الإيراني. هي أرادت الحرص على العلاقة مع أنظمة الخليج، وهو كان يدعو إلى ترك أمر الدفاع عنها لنفسها. وفي كل هذه الأمور، كان للإمبراطوريّة ــ في حالة التسيير الذاتي ــ ما أرادت، لا ما أرادَ الرئيس الأميركي.
مرتبة الولايات المتحدة في سلّم حريّات التعبير في انخفاض مستمرّ


أما المعايير التي يعتمدها المؤلّفان في تشخيص حالة هزال أو انهيار الديموقراطيّة، فهي أربعة: ١) رفض أو ضعف الالتزام بقواعد اللعبة (الديموقراطيّة) ٢) نفي الشرعيّة السياسيّة للخصوم ٣) التسامح مع التشجيع على العنف ٤) القابليّة للجم حريّات الخصوم، خصوصاً في الإعلام (ص.٢٣ ــ ٢٤). لكن هل ترامب غيّرَ قواعد اللعبة إلى هذه الدرجة أم أن الديموقراطيّة الأميركيّة تعاني من ضعف وسقم منذ بداياتها؟ لكن الكتاب بين أيدينا يعتمد على جملة افتراضات تضفي طابعاً سياسيّاً انتقاميّاً على محتواه. بات الحنين إلى عهد جورج دبليو بوش سمة من سمات الليبراليّة المُنتفضة على عهد ترامب، مع أن الحرب على الحريّات بلغت أوجها في عهده، ولم تتوقّف في عهد أوباما. إن قانون «باتريوت» الذي مُرِّرَ على عجل (بموافقة الحزبيْن) مثّل تراجعاً كبيراً في وضع الحريّات في البلاد. وليس تقدّم الديموقراطيّات حتميّاً، وإلاّ فإن جمهوريّة «فايمر» الألمانيْة تكون تقود العالم اليوم. يعاني الكتاب الحالي من نواقص سياسيّة ومنهجيّة تجعل منه كتاباً سياسيّاً معنيّاً بقضايا سياسيّة (أميركيّة داخليّة وخارجيّة) لا بقضايا أكاديميّة. يفضّل المؤلّفان مثلاً أمثلة مأخوذة غالباً من دول غير متحالفة مع الحكومة الأميركيّة، فتراهما يكرّران الإشارة إلى تجربة فنزويلا (تحت حكم شافيز ومادورو) أو كوبا، أو حتى النظام الديموقراطي في تشيلي بين عاميْ ١٩٧٠ و١٩٧٣، من دون أن يذكر كثيراً الدول الاستبداديّة المتحالفة مع الحكومة الأميركيّة. والكتاب يورد أمثلة عدة عن تناقص الديموقراطيّة في روسيا تحت حكم بوتين من دون الإشارة إلى استبداديّة سلفه يلستن. ويظهر انحياز المؤلّفيْن الصارخ في نهاية الكتاب (في فصل «إنقاذ الديموقراطيّة») عندما قارنا بين عهد ترامب وعهود أسلافه وتوصّلا إلى هذه الخلاصة: «بين سقوط جدار برلين ورئاسة ترامب، اعتمدت الحكومات الأميركيّة سياسة خارجيّة داعمة للديموقراطيّة بصورة عامّة» (ص. ٢٠٥). وهذا الزعم يتناقض مع سياسات ثابتة ــ لم تتغيّر عبر العقود والإدارات ــ في تبنّي ودعم أنظمة الاستبداد عندما تتحالف مع الإدارة الأميركيّة. والمؤلّفان تعاملا مع تناقص الديموقراطيّات حول العالم أو انكماشهما من دون الإشارة إلى تخريب غربي متعمّد للديموقراطيّة في كثير من الدول (لم يمتْ سلفادور أليندي بالذبحة الصدريّة والكتاب تجاهل الدور الأميركي في تخريب الديموقراطيّة التشيليّة).
لكن المؤلّفيْن سرعان ما يلاحظان بُطلان خلاصتهما فيضيفان: «هناك استثناءات عدة: عندما تكون المصالح الاستراتيجيّة الأميركيّة (في مكان ما) على المحك، مثل الصين وروسيا والشرق الأوسط، فإن الديموقراطيّة تختفي من الأجندة»، أي أن المؤلّفيْن هنا يجدان تسويغاً لسياسة إهمال الديموقراطيّة في تلك الحالات التي ترتأي فيها الديموقراطيّة أن مصالحها الاستراتيجيّة على المحك. وكيف يوفّق الكاتبان بين سياسة دعم الديموقراطيّة ــ التي يزعمان حرصهما الشديد عليها ــ وبين سجل أميركا الحقيقي في محاربة الديموقراطيّة بكل الوسائل (العنفيّة والماليّة والتخريبيّة) عندما يخالفُ رأيُ الشعوب الخياراتِ السياسيّة والاقتصاديّة الأميركيّة؟
والكلام عن تناقص أو سقم الديموقراطيّة يخالف أدبيّات التسعينات عن الابتهاج بالعصر الديموقراطي، أو ما أسماه سامويل هنتغتون في كتابه «الموجة الثالثة: الدَمقرَطة في أواخر القرن العشرين». والابتهاج بالديموقراطيّة في حينه كان في حقيقته ابتهاجاً بنشر النفوذ والهيمنة الأميركيّة حول العالم. لم يحكم بوتين ديموقراطيّاً وكان يصادر حقوق شعبه وممثّليه، ويستبدّ في اتخاذ القرارات. ومن المؤكّد أن فوزه في انتخابات ١٩٩٦، الذي شاركت فيه الحكومة الأميركيّة وصندوق النقد العالمي (عبر وعود بقروض ترتبط بفوز يلتسن فقط)، كان عبر التزوير في صناديق الاقتراع. هذه الأمثلة لا ترد في الكتاب المشغول بمخالفات عهديْ تشافيز ومادورو. ولم يتطرّق الكتاب مثلاً إلى حالات عنصريّة فاقعة ضد أهل «الروما» في جمهوريّة التشيك (في عهد فاسلاف هافيل) أو في فرنسا أو في الدول الموالية لأميركا. وصعود المجاهرة بالعنصريّة الدينيّة ضد الإسلام والمسلمين ــ ومن أحزاب ذات اليمين وذات اليسار ــ لا تعني غرض هذا الكتاب الحريص على مصالح أميركا «الاستراتيجيّة».
لا شكّ أن هناك أعراضَ أمراض في الديموقراطيّات الغربيّة قاطبةً. هناك مجاهرة بالعنصريّة ضد المهاجرين والمسلمين (واليهود في بعض البلدان). كما أن الإعلام في كل دول الغرب بات يتركّز في أيدٍ احتكاريّة قليلة، وهو لا يعتمد، كما كان في السابق، على تمويل المشتركين أو الإعلانات المحليّة، بل على تمويل شركات كبرى أو أصحاب مليارات. كما أن المروحة السياسيّة تتجّه باطراد نحو اليمين العنصري في كل دول الغرب، إضافة إلى تبنّي الأحزاب الليبراليّة وــ حتى الاشتراكيّة، كما في فرنسا ــ لعقائد اقتصاد السوق الاحتكاري والعداء للمهاجرين والفقراء. ولا تحاول الكتابات الأكاديميّة الليبراليّة ــ مثل هذا الكتاب ــ لوْم الجمهور الأبيض المسيحي في هذه الدول بقدر ما يدعو إلى مزيد من العطف نحوهم وأخذ معاناتهم المفترضة في الاعتبار (مع أن دراسة جديدة أظهرت أن دوافع الطبقة العاملة البيضاء في أميركا في دعم ترامب لم تكن بسبب القلق الاقتصادي بل بسبب القلق على موقع العرق الأبيض). ودولة الرعاية الاجتماعيّة تتعرّض لحروب ضروس في كل دول الغرب، وهبات الدولة المخصّصة للفقراء والمعوَزين تتقلّص في هذه الدول لأن الحرب ضد الفقراء والمهاجرين باتت عقيدة الأكثريّة.
ويفصل الكتاب في تقييم الديموقراطيّة الأميركيّة بين حقبتيْن: ما قبل ترامب وما بعده، ما يمنح الديموقراطيّة الأميركيّة فضائل وميزات لا تستحقّها البتّة. لا يمكن بداية الحديث عن ديموقراطيّة، بأي شكل من الأشكال، في أميركا قبل القرن العشرين. كان الحكم في أميركا بيد أقليّة طبقيّة وعنصريّة صغيرة، وكان المؤسّسون الأوائل من أصحاب فكر يكنّ الكثير من الاحتقار للأكثريّة الشعبيّة (شهد تأسيس الجمهوريّة فصلاً بين فريقيْن: فريق دعاة الفدراليّة، أي المؤمنين بدولة مركزيّة قويّة، وفريق معارضي الفدراليّة. وكانت الخلفيّة الطبقيّة للفريق الأوّل هي كبار الملّاك وأصحاب المزارع الذين شغّلوا العبيد في الجنوب وبقايا رموز العصر الملكي، فيما كانت الخلفيّة الطبقيّة للفريق المناهض جلّها من أصحاب الدكاكين وصغار المزارعين من البيض المحدودي الدخل). ويحمل النظام الأميركي الكثير من العناصر غير الديموقراطيّة ولهذا هو «جمهوريّة» لا «ديموقراطيّة»، أي أن هناك في الدستور الأميركي ما هو غير قابل للنزع، ولو بالإرادة الشعبيّة الأكثريّة. إن العقليّة النخبويّة للمؤسّسين قلقت أشدّ القلق من تنامي حقوق الناس العاديّين من البيض الفقراء، وهي صمّمت النظام السياسي لإنقاص الإرادة الشعبيّة وحفظها بيد النخبة الطبقية ــ السياسيّة الحاكمة. وليس مجلس الشيوخ الأميركي إلا نادياً للأثرياء وهكذا أراده المؤسّسون (بقيت الامتيازات والشروط الماليّة والتملكيّة لأعضاء مجلس الشيوخ حتى أواخر القرن التاسع عشر، وكان الكثير منهم يُعيَّن محليّاً).
ولم يكن تحرير أربعة ملايين من العبيد في عهد لينكن تحقيقاً للديموقراطيّة. إن مرحلة «إعادة البناء» (التي تلت انتهاء الحرب الأهليّة وفوز «الاتحاديّين» في عام ١٨٦٥) لم تُنجز تحقيق الديموقراطيّة (التي كانت النساء مستثنيات منها). فقد عمد الحزب الديموقراطي في الجنوب إلى استخدام حيَل وألاعيب «قانونيّة» من أجل تخفيض اقتراع السود في الولايات الجنوبيّة. كما أنه قيّد حركة وعمل السود. وقد نجح الحزب الديموقراطي في تقليص وتهميش اقتراع السود: ففي ١٨٨٠ بلغت نسبة اقتراع السود ٦١ في المئة لكنها انخفضت إلى ٢ في المئة بحلول ١٩١٢ (ص. ٩٢). والحرب ضد اقتراع السود والفقراء لم تتوقّف حتى بعد أن ألغت الولايات الجنوبيّة (في الستينات وما بعد) معظم الإجراءات والقوانين التي قيّدت حريّة اقتراع السود، عبر امتحانات كتابيّة أو عبر تعقيد إجراءات الاقتراع بحيث تصبح شبه مستحيلة لغير المتعلّمين (الذين كانت نسبهم ولا تزال أعلى عند السود واللاتينيّين من البيض). ويشترك الحزبان الحاكمان هنا في تمهيش دور الفقراء في الاقتراع: هذه واحدة من الدول القليلة في العالم التي يجري فيها الاقتراع في يوم عمل (الثلاثاء) وفي شهر شتوي (تشرين الثاني، نوفمبر). ولو أضفنا تعقيد الاقتراع (عبر فرض التسجيل للاقتراع قبل الاقتراع) فإن عمليّة إقصاء الفقراء وتخفيض مشاركتهم تصبح واضحة ومقصودة.
على رغم أن قوانين الحقوق المدنيّة وحقوق الاقتراع سُنّت في الستينات، فإن الأدوار باتت معكوسة في ولايات الجنوب بالنسبة إلى تخفيض نسبة اقتراع السود. فالحزب الجمهوري النافذ (بعد أن تضاءل دور الحزب الديموقراطي منذ حملة «استراتيجيّة الجنوب» التي لجأ إليها ريتشارد نيكسون في ١٩٦٨) بدأ في هذه الألفيّة بالحد من اقتراع السود عبر فرض شروط إضافيّة للاقتراع، منها مثلاً تقديم أوراق ثبوتيّة، وأوراق الهويّة الرسميّة ــ مثل بطاقة سوق السيّارة ــ هي أقل توافراً عند السود والفقراء البيض من غيرهم. وولاية كارولينا الشماليّة تبنّت خططاً عدة لتخفيض دور السود في الاقتراع، وشمل ذلك إعادة رسم الدوائر الانتخابيّة إذ حُصرَ الناخبون السود في دوائر معزولة مقتطعة من دوائر أخرى كان للسود فيها تأثير في حظوظ مرشحين بيض (هذا عزّز حظوظ المرشحين الجمهوريّين البيض).
هذا لا يعني أن ما يرد في الكتاب من عوارض خطيرة لأمراض في النظام السياسي الأميركي هي غير صحيحة. لكن هذه العوارض لم تظهر هكذا فجأة بل هي موجودة منذ عقود وازدادت في عهد ترمب. يروي المؤلّفان مثلاً قصة الملك غير المتوّج، أي فرانكلين روزفلت. هذا كان الرئيس الوحيد الذي امتدّ عهده في الحكم لأكثر من ولايتيْن (لكن تعديلاً دستوريّاً سُنَ وأُقرَّ بعد وفاته ــ التعديل الثاني والعشرين على الدستور ــ وهو منع الرئيس من الحكم لأكثر من ولايتيْن غير خاضعتيْن لأي تمديد). وروزفلت سيطر على السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة في آن، وهدّد بإقصاء قضاء المحكمة العليا عندما لم يتجاوبوا مع إصلاحاته في الرعاية الاجتماعية. لكن الكتاب يثني على ضوابط النظام الديموقراطي لأن مبادرة روزفلت لزيادة عدد أعضاء المحكمة العليا لم تتقدّم. لكن ذلك لم يكن بسبب الضوابط بل بسبب خضوع المحكمة آنذاك لمشيئة روزفلت، وتجاوبت المحكمة مع إصلاحاته بعد ذلك. لم يذكر الكتاب ذلك، ولا تهديده باستعمال مجلس النوّاب لإقصاء القضاة المعارضين له.
لو اعتمدنا على معايير الكتاب في تحديد مكامن المرض في الديموقراطيّة الأميركيّة، لأمكن تشخيص الأمراض التي يحدّدها الكتاب لكن في عهود سبقت عهد ترمب. إن معيار «الالتزام الضعيف» بشروط اللعبة الديموقراطيّة لم يبدأ في عهد ترامب. إن انتخابات ٢٠٠٠ كانت سابقة. الحزب الجمهوري كان صارماً في أنه لن يقبل بأقل من فوز مرشحه جورج بوش، وهو اعتمد في ذلك على خضوع المحكمة العليا (في أكثريّتها المحافظة) لمشيئة الجمهوريّين. ثم متى يكون الحكم ديموقراطيّاً إذا كانت نتيجة الانتخابات تتقرّر في محكمة عليا يُعيْن أعضاؤها التسعة من قبل الرئيس الحاكم؟

الثقافة الشعبيّة الأميركيّة تمجّد العنف لكنها تزهو بأنها تحلّ خلافاتها بالحسنى


ونفي الشرعيّة السياسيّة عن الخصم لم يبدأ في عهد ترامب. هذا أيضاً له سوابق في التاريخ الأميركي المعاصر. لقد كان الحزبان الحاكمان (اللذان تناوبا على الحكم في عهد حرب فيتنام الطويلة) يتهمان معارضي الحرب بالتعاطف مع العدوّ ومع الشيوعيّة. ولا تزال الممثّلة جين فوندا تعاني تهم التخوين لأنها زارت مواقع «الفيتكونغ» أثناء الحرب (لا يجب أن ننسى أنها زارت أيضاً سفينة للعدوّ الإسرائيلي في صيف ١٩٨٢ كي تهلّل لجنود الاحتلال وترفّه عنهم). والكثير من الديموقراطيّين رفضوا شرعيّة الرئيس بوش في ٢٠٠٠ (خصوصاً أنه لم ينل الأكثريّة الشعبيّة، مع أن انتخاب الرئيس هنا لا يكون عبر الأكثريّة الشعبيّة بل عبر «المجلس الاقتراعي» الذي أراده المؤسّسون «منخلاً» للإرادة الشعبيّة). والجمهوريّون رفضوا شرعيّة بيل كلينتون في ١٩٩٢ لأن مرشحاً ثالثاً (روس بيرو) عطّل إمكانيّة فوز جورج بوش الأب لولاية ثانية. ولأن كلينتون نال نسبة مئويّة أصغر من المعتاد في تلك الانتخابات (بسبب وجود مرشح ثالث قوي)، فإن خصومه اعتبروا ذلك نفياً لشرعيّته السياسيّة. أما فوز أوباما، فكان مرفوضاً من نحو نصف البيض في أميركا. كان هناك تشكيك في حقيقة ولادته وحقيقة ديانته وحقيقة جنسيّته (قاد ترامب نفسه حملة التشكيك في مكان ولادة أوباما وذلك للقول إنه غير شرعي لأن الدستور لا يتيح لمن هو مولود خارج الولايات المتحدة أن يترشّح للرئاسة أو أن يملأ سدّتها. والحدّة في الصراع السياسي الأميركي بلغت حدّتها قبل عهد ترمب. هي تعود إلى مراحل إعادة رسم الدوائر الانتخابيّة في الولايات: كل عشر سنوات بعد نشر نتائج الإحصاء المركزي). فالحزب الديموقراطي أعاد رسم الدوائر الانتخابيّة في الولايات التي يسيطر عليها، كما أن الجمهوري أعاد رسم الدوائر الانتخابيّة في الولايات التي يسيطر عليها. والديموقراطيّة ليست إلا لعبة تتقرّر نتائجها بناء على الشروط التي تفرضها (والشروط ليست من صنع الشعب بل من صنع النخبة الطبقيّة الحاكمة، وتغيير الشروط تأتيك بشروط مختلفة، وهذا مألوف في الحياة السياسيّة اللبنانيّة).
إعادة رسم الدوائر هذه أنتجت مرشحين في يسار الحزب الديموقراطيّ (ويسار الحزب الديموقراطي هنا هو يمين في عدد من الدول الأوروبيّة) وفي أقصى يمين الحزب الجمهوري، أي من المسافة تباعدت بين الجهات والقواعد السياسيّة، ما نسف مساحة التوافق بين الحزبين في المجالس التشريعيّة (الفدراليّة والمحليّة على حدّ سواء)، أي أن انتخاب «الوسطيّين» بات مستحيلاً هنا، والوسطيوّن كانوا الجسر بين الحزبيْن.
أما التشجيع على العنف، أو حسم الخلاف بالعنف، فهذا بدأ في كل العهود من دون استثناء. إن الثقافة الشعبيّة الأميركيّة تمجّد العنف (الاجتماعي والسياسي في التعامل مع الدول الأخرى) لكنها تزهو أنها تحلّ خلافاتها بالحسنى بين الأطراف الداخليّة. لكن تعامل الدولة تاريخيّاً مع المعارضات (من سود وعمّال ويساريّين ومتمرّدين) كان عنفيّاً. وحركة الحقوق المدنيّة انتهجت اللاعنف لكنها ووجهت بعنف الدولة المحليّة. وأميركا لم تتوقّف عن شن الحروب منذ أوائل الثمانينات. لم تتوقّف حروب أميركا، من أميركا اللاتينيّة (تحت عناوين محاربة الشيوعيّة او المخدّرات) إلى الشرق الأوسط ــ العنوان المُفضّل لإرسال القنابل والصواريخ الأميركيّة حول العالم ــ إلى أفريقيا حديثاً. وحرب أميركا ضد الإرهاب باتت في القانون الأميركي المُسنّ من الكونغرس رخصة للرئيس الأميركي لشنّ حروب حول العالم من دون هوادة ومن دون الطلب إلى الكونغرس لترخيص الحرب (الدستور الأميركي يحصر سلطة شن الحروب بالكونغرس لا بالرئيس). والتعديل الثاني للدستور رفع السلاح الفردي إلى مرتبة القداسة.
يمكن أن نقول، كما يقول المؤلّفان، إن هناك سقماً ما في جسم الديموقراطيّات الغربيّة، وفي الجسم الأميركي في عهد ترامب بصورة خاصّة. هذه الصيغة تصلح لمن أخذ الديموقراطيّات الغربيّة على محمل الجدّ ورأى فيها أنظمة فضلى وتجسيد للكمال الإنساني. ويمكن القول إن الأزمات المتتالية في الأنظمة الغربيّة ليست إلا انكشاف الديموقراطيّات الغربيّة على ما هي عليه حقيقة: أنظمة تسلّط طبقي اعتنقت منذ التأسيس عقائد تفوّق عرقي وإثني وديني. وتوافد المهاجرين فرض صراحة كانت مكبوتة في الخطاب السياسي السائد. هذه فرنسا بلد الثورة الفرنسيّة: لقد بات خطابها ضد الإسلام أسوأ من أي نظام تسلّطي. وانتقال السلطة في الغرب من يسار إلى يمين إلى وسط ــ كما انتقال السلطة في دولة الاحتلال الإسرائيلي ــ لم ينعكس يوماً على السياسات الخارجيّة لتلك الدول، خصوصاً في تعاملها مع الدول النامية. صحيح أن فروقاً في البرامج الاجتماعيّة وضوابط الحريّات قد تتغيّر بين حكم وآخر، لكن ذلك لا يغيّر في طبيعة التسلّط الطبقي في صلب كل نظام. ترامب أو فيكتور أوربان أو سباستيون كورز ليسوا إلا الغرب التقليدي، لكن بلسان أكثر صراحة وأقلّ مواربة.
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)