تتزامن خلال الأيام القليلة القادمة مناسبتان بالغتا الأهمية بالنسبة إلى الشعب اللبناني عموماً وإلى الطبقة العاملة على وجه الخصوص: ذكرى عيد العمال في الأول من أيار، والاستحقاق النيابي الانتخابي في السادس منه. وحتى لو بدا أن تزامن هذين التاريخين يرتدي طابع الصدفة البحت، فإن واقع الأمور في الإطار اللبناني يشير إلى ما هو أبعد من ذلك، وتحديداً إلى وجود ارتباط موضوعي بين صيرورة هاتين المناسبتين وتبعاتهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمع حلول الأوّل من أيّار ترتفع الأمنيات والآمال المشروعة بضرورة تحسين شروط عمل ومعيشة الأجراء والعمال، في حين يتأكّد في المقابل بحسب التجربة المتراكمة أنه يصعب – إن لم يكن يستحيل - ترجمة هذه الأمنيات إلى حقيقة ملموسة وراسخة، من دون إجراء تغيير جذري في بنية السلطات الحاكمة وعلى رأسها مجلس النواب، إفساحاً في المجال أمام إنتاج سياسات اقتصادية واجتماعية أكثر كفاءة وعدالة وانحيازاً إلى مصالح العمال والأجراء... أي بكلام آخر إن تحسين أوضاع الطبقة العاملة محكوم بأن يمرّ بالضرورة عبر تصويب وجهة الاقتراع الانتخابي وإسقاط التحاصص الاقتصادي والفساد السياسي اللذين يتغذّيان من نظام التمثيل السياسي الطائفي.إن الطبقة العاملة اللبنانية – والى جانبها أطياف واسعة من العمال غير اللبنانيين – تعيش في الظرف الراهن صنوفاً شتّى من العوز والقهر والاستغلال التي يتحمّل مسؤوليتها تحالف كبار صنّاع القرار وأصحاب المصارف والريوع المالية والعقارية ومتعهّدي المضاربات والصفقات العمومية المشبوهة. ولم يعدم هذا التحالف وسيلة إلا واعتمدها في مأسسة الفساد، متلطّياً خلف زعامات طائفية لا وظيفة فعلية لها سوى تسهيل إخضاع عموم الناس لتلك الحلقة الضيّقة من حيتان المال، عبر استمرارها في النفخ والاستثمار الى ما لا نهاية في العصبيات الطائفية والمذهبية المصطنعة، التي لا هدف لها سوى تأمين انتظام الناس ضمن استقطابات عمودية تعيق نمو وعيهم الاجتماعي والطبقي. ويظهر أهمّ معالم هذا الاستغلال الفاقع مؤخّراً في اتساع الفجوة على امتداد نحو عقدين من عام 1996 الى عام 2017، بين تطور متوسط الأجر الفعلي لعمّال وأجراء القطاع الخاص وتطور تكاليف المعيشة عموماً، في وقت لم تعوّض فيه تصحيحات الأجور المتعاقبة في هذا القطاع سوى نصف الزيادة المحقّقة في تكاليف المعيشة خلال تلك الفترة. ومن المهمّ لفت النظر إلى أن هذا الواقع ينطبق على نحو 600 ألف عامل لبناني منخرطين في العمل المأجور في القطاع الخاص، ويضاف إليهم أكثر من نصف هذا العدد من الأجراء غير اللبنانيين (ومعظمهم سوريون غير نظاميين). ويكفي أن نلاحظ كيف تطور متوسط الأجر الفعلي لهذه الفئة من الأجراء اللبنانيين مقارنة مع تطور الأرباح المعلنة للمصارف العشر الكبرى المملوكة أساساً من بضع عائلات وعدد محدود من كبار المساهمين، كي نتبيّن حجم الخلل الفاقع في توزّع المداخيل المتأتية عن العمل، والمتميّزة في بلد كلبنان - بحسب ما توصّلت اليه العديد من الدراسات الحديثة – بقدر قياسي من التركّز، إذا ما قورنت بمثيلاتها في غالبية بلدان العالم الأخرى.
ويجب أن لا يغيب عن البال أن هذه الفجوة بين الأجر الحقيقي وتكاليف المعيشة، خصوصاً في القطاع الخاص، تترافق في الوقت ذاته مع انحسار رقعة التقديمات الاجتماعية عموماً، ومع تعثّر فرعين أساسين من فروع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (المرض والأمومة، والتعويضات العائلية). كما تترافق أيضاً مع زيادة متواصلة في نسبة الاقتطاع الضريبي، لا سيما الاقتطاع غير المباشر، ومع تلاشي المرافق والخدمات العامة الأساسية، الأمر الذي يضطرّ الأجراء الى الإنفاق - عبر مداخيلهم الفعلية المتّجهة باستمرار نحو التراجع - على بدائل لهذه المرافق والخدمات يتولّى القطاع الخاص إنتاجها وتوزيعها في أسواق تتميّز بسمات شبه احتكارية ويحكمها أساساً هاجس تعظيم الربح. وفي سياق هذا الواقع المرير الذي يعيشه أجراء القطاع الخاص – النظاميون منهم وخصوصاً غير النظاميين – تتكاثر المؤشّرات التي لا تنحصر فقط في مسألة الأجر، بل تعكس تفاقم مجمل جوانب أزمة نظام العمل المأجور في لبنان. ومن أهمّ هذه المؤشّرات: الانخفاض المريع في حصّة الكتلة الإجمالية للأجور من إجمالي الناتج المحلي القائم؛ واستمرار تزايد معدلات هجرة الشباب الذين لا يجدون فرص عمل لائقة تتناسب مع ما أنفقوه من جهد ومال على تحصيلهم العلمي؛ والتباطؤ الشديد في معدّل نمو عدد الأجراء عموماً في مؤسسات القطاع الخاص، نتيجة ازدياد تسرّب هؤلاء إمّا في اتجاه جيش المتعطلين من العمل، أو للانخراط في إنشاء مؤسسات متناهية الصغر وغير قابلة فعلياً للحياة، أو للتحوّل الى مجرّد عاملين لحسابهم الخاص. وتؤكّد هذه المؤشرات في مجملها ضخامة «العوامل الطاردة» التي تعتمل داخل نظام العمل المأجور في البلاد.
لقد تقصّدت القوى الحاكمة وضع اليد على الحركة النقابية اللبنانية وتعطيلها منذ انتهاء الحرب الأهلية، بهدف إخفاء أوجه الخلل الصارخة التي تعصف بنظام العمل المأجور، وإبقاء الأجراء والطبقة العاملة عموماً أسرى نظام التحاصص والاصطفاف الطائفيين، الذي يمنعهم من امتلاك الوعي والاستقلالية في الدفاع عن مصالحهم الحيوية والمشروعة، تجسيداً لحقوقهم: في الحصول على أجر عادل وتقديمات اجتماعية فعّالة بما فيها التغطية الصحية الشاملة، والاستفادة من نظام وطني للتقاعد بدل نظام تعويضات نهاية الخدمة الهجين، فضلاً عن الاستفادة كذلك من نظام لضمان البطالة وغيرها من حقوق.
وإذ ينبغي أن تشكّل الانتخابات النيابية محطّة أساسية لتسليط الضوء على هذه الحقوق وفرض تضمينها في البرامج الانتخابية للمرشحّين وتحويلها إلى معيار يحدّد وجهة الاقتراع، فإن الحزب الشيوعي اللبناني يدعو - انطلاقاً من هذا الارتباط الموضوعي الوثيق بين المناسبتين – أعضاءه وأصدقاءه وكافة القوى اليسارية والديمقراطية والمدنية المعنية، الى استثمار هذه الفرصة لرصّ الصفوف واستجماع الطاقات بغية توجيه رسالة ذات مغزى عبر صناديق الاقتراع الى التحالف الطائفي – الطبقي المهيمن على السلطة والاقتصاد والمجتمع، والساعي بطرق شتّى إلى تأبيد هيمنته. وتشكّل التظاهرة الجماهيرية التي دعا اليها الحزب في الأول من أيّار، أي قبل أيّام من الاستحقاق الانتخابي، خطوة مهمّة في الاتجاه المنشود.
(افتتاحية مجلة «النداء»)