لم يكن حفل توقيع مذكرة التفاهم الذي جرى في مقر البنك الدولي بواشنطن يوم الإثنين 06 /12 / 2013 يشبه ما سبقه من احتفالات بروتوكولية بين دولتين أو مجموعة من الدول. فإعلان مضمون الاتفاق كان مفاجئاً لقطاعات واسعة من الشعبين الأردني والفلسطيني، لأن الأطراف الثلاثة التي وقعت الاتفاق، هي كيانات، ليست على مستوى واحد من الحقوق السياسية/الوجودية في عرف القانون الدولي: حكومة العدو الصهوني، ممثلة بوزير الطاقة والتعاون الإقليمي سيلفان شالوم، والأردن، بشخص وزير المياه حازم الناصر، وسلطة الحكم الإداري الذاتي، ممثلة برئيس سلطة المياه شداد العتيلي. الإعلان ظهر للعلن بعد سلسلة من الحوارات والنقاشات التي جرت داخل الغرف المغلقة، وفي سرية كاملة، على مدى أشهر عديدة، كما أوضح سيلفان شالوم (هذا أمر لم يجر تحت الأضواء، ومر بمد وجزر، لكننا في النهاية أفلحنا في التوصل إلى اتفاق تاريخي) مما يكشف عن طبيعة زياراته السرية المتكررة للعاصمة الأردنية.ركز العديد من المسؤولين في عمّان على تصوير ما حصل بـ «الإنجاز الكبير، لما يحققه من فوائد متعددة للأردن»، كذلك فعل أكثر من مسؤول في رام الله، لكن ما تجاهله الطرفان هو ما حققته حكومة العدو من مكاسب استراتيجية، في تنفيذ حلم قديم، راود مخيلة مؤسس فكرة الكيان/الدولة. سيلفان شالوم عبّر بأحاديثة المتتالية لأكثر من وسيلة إعلامية عن أهمية هذا الإنجاز. قال إن «هذه خطوة تاريخية تحقق نبوءة هرتزل. فقد تطلب الأمر زمناً طويلاً جداً...إن مشاريع كهذه تجري من أجل الحفاظ على السلام»، مضيفاً «إن المشروع مؤسس على الجدوى الاقتصادية لتحلية المياه وعلى البعد البيئي لإنقاذ البحر الميت، لكن لا بد من التركيز على البعد الثالث، وهو سياسي – استراتيجي».

خلفية تاريخية موجزة

في التقرير المهم الذي نشره مركز الإعلام والمعلومات قبل سنوات، والذي استندتُ إلى ما ورد فيه _ باقتضاب_ من سرد تاريخي، إضاءة ضرورية للمرور على المراحل الأساسية البارزة، في بدء الفكرة وتطويرها.
شهدت مرحلة السبعينات من القرن الماضي، حالة واسعة من النقاش في الدوائر السياسية والأكاديمية، محلياً وإقليمياً ودولياً، حول فكرة ربط البحر الميت بأحد البحار المفتوحة، لكن بدايات الفكرة، ظهرت في مراحل التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر، على التحكم في الطرق المؤدية إلى المستعمرات في الشرق، وخاصة، مع تبلور فكرة حفر قناة السويس لدى الفرنسيين، مما دفع بالبريطانيين إلى البحث عن ممر بحري دون المرور بالقناة.
وقد طرح المهندس البريطاني وليام آلن عام 1850م فكرة ربط البحر الميت بالبحر المتوسط عبر قناة تبدأ من خليج حيفا إلى وادي الأردن، بحيث يمكن رفع منسوب المياه في البحر الميت وخليج العقبة إلى درجة تمكن من إبحار السفن من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر عبر البحر الميت، وعرض هذه الأفكار في كتاب له بعنوان «البحر الميت – طريق جديد للهند».
لم يمنع احتلال بريطانيا لمصر وسيطرتها على قناة السويس من التفكير في تطوير الفكرة، فأرسلت حاكم السودان البريطاني، الجنرال تشارلز غوردون، إلى فلسطين لدراسة فكرة «وليام آلن». وبالفعل، قدم غوردون أفكاراً جديدة، أسهمت في إدخال بعض التعديلات عليها، لكن الحماسة البريطانية للفكرة تراجعت، ما دفع ببعض العلماء والمنظرين السياسيين الصهاينة إلى التقاط الفكرة والعمل على تطويرها. قام المهندس السويسري ماكس بوركارت، الذي اعتنق اليهودية، واتخذ له اسم ابراهام بن ابراهام، بتعديل وتطوير ما طرحه آلن وغوردون ليتلاءم مع الحلم الصهيوني في فلسطين، الذي كان يراود أبرز دعاة الغزو اليهودي/الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، والذي كانت ترجمته العملية: الاستيلاء على الأرض والمياه وإنتاج الطاقة. وفي عام 1899، أرسل بوركارت إلى تيودر هيرتزل نتائج أبحاثه التي تضمنت مخططا موجزا للمشاريع، اقترح فيه شق قناة من خليج حيفا إلى غور بيسان، ومن ثم السير بمحاذاة نهر الأردن، وصولا إلى البحر الميت. بهدف استغلال فارق الارتفاع 400م ما بين سطح البحر المتوسط والبحر الميت لتوليد الطاقة. و قد قام تيودور هيرتزل بعرض هذا المشروع في كتابه «الأرض القديمة – الجديدة»، الذي صدر عام 1902، والذي أشار فيه إلى التصاميم المتعلقة بمشروع قناة البحار الذي أرسلها إليه بوركات.
تتابعت جهود العديد من المهندسين من أجل تطوير الفكرة (النرويجي يورث عام 1919، والفرنسي بيير جنادريون عام 1925، والأميركي والتر لاودر ميلك عام 1944) وربطها بزيادة عدد الغزاة اليهود، الذين يتطلب استعمارهم للأرض_ وخاصة في النقب_ المزيد من المياه. من أجل ذلك قامت الحركة الصهيونية بتشكيل «لجنة استقصاء الحقائق في فلسطين» بهدف دراسة ومعرفة إمكانات استيعاب المستوطنين اليهود في فلسطين بناء على استغلال أقصى للأراضي والمياه الفلسطينية. ونشرت اللجنة أول تقرير لها عام 1943 يتضمن عدة اقتراحات، منها: تحويل مياه نهر الأردن لأغراض الري، وتعويض انخفاض مستوى البحر الميت الناتج عن ذلك بنقل مياه البحر المتوسط عبر قناة إلى البحر الميت، إضافة إلى استغلال ذلك في توليد الطاقة.

الكيان والتعامل مع الفكرة

نشطت جهود الخبراء في تقديم عدة اقتراحات عن حفر سبع قنوات لربط البحر الميت بالبحر المتوسط في الفترة ما بين 1950- 1955. ثم جاءت خطوة الرئيس جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس، ومنع سفن العدو الصهيوني من المرور فيها، لتزيد من نشاط حكومات العدو، لإيجاد بديل عن القناة من خلال ربط البحر الميت بالبحار المفتوحة المجاورة. وأدى شمعون بيريز أثناء ترؤسه وزارة التعاون الإقليمي دوراً بارزاً في نقل الفكرة إلى حيز التنفيذ. وهنا لا بد من التنويه بدور الحكومة التي ترأسها مناحيم بيغن، لأنها أخرجت فكرة المشروع من وحدانية التفكير والتنفيذ إلى دعوة الأردن للمشاركة في تنفيذ المشروع الصهيوني لربط البحر الميت بالبحر المتوسط، الذي طرح في ذلك الوقت، لكن الحكومة الأردنية والعديد من المنظمات الدولية تعاملت بتلك الفترة مع المشاريع المقترحة بنقد واضح، لما يحمله التنفيذ من العديد من الأضرار البيئية والجيولوجية للمنطقة. لم يتأخر الموقف الأردني طويلاً. فقد طرحت الحكومة الأردنية مشروعاً بديلاً يربط الميت بالبحر الأحمر. رفضت حكومة العدو المشروع الأردني. ودعا مناحيم بيغن الأردن الى المشاركة في تنفيذ مشروع حكومته.
وجد المشروع فرصة جديدة للظهور بعد مؤتمر مدريد للسلام وانعكاساته على الموقف الأردني، حيث بدأ بحث المشروع على نحو جدي بتاريخ 25/7/1994 بعد اتفاق «وادي عربة» السيّئ الذكر، حيث شكلت لجنتان: واحدة لترسيم الحدود، والأخرى لبحث قضايا المياه، وقد أعلنت الأخيرة في آب 1994 التوصل الى اتفاق حول إنشاء قناة البحرين، الواردة أساساً في ملحقات الاتفاق الثنائي بين الكيانين، لكن ظل تنفيذ المشروع معطلاً بسبب تعثر المفاوضات على المسارات الأخرى، واندلاع الانتفاضة ومعارضة مصر للمشروع الذي يهدد مصالحها في قناة السويس.

عشر سنوات حاسمة

على أثر اللقاءات المتعددة التي جرت بين حكومتي الكيانين الأردني والصهيوني، جرى التوافق على أن يطرح خلال قمة الأرض (القمة العالمية للتنمية المستدامة) في جوهانسبرغ في ايلول 2002 شكل جديد لتنفيذ الفكرة: خط أنابيب، لا حفر قناة من أجل تقليص المعارضة العربية وخفض التكلفة. طرحت الفكرة في إطار مؤتمر دولي للبيئة، من أجل إضفاء أبعاد بيئية تصرف النظر عن الحقائق السياسية والاقتصادية التي يتضمنها المشروع. وقد أكد شمعون بيريز أنهم اضطروا إلى تغيير المصطلحات من قناة إلى خط أنابيب تجاوباً مع المستجدات الدولية والإقليمية في قمة الأرض، ومن أجل تخفيف المعارضة ضد المشروع، وخاصة من الدول العربية. في المقابل، وجدت سلطة الحكم الإداري الذاتي في رام الله المحتلة نفسها أمام موقف صعب، فرضته التفاهمات بين الجانبين، كما ظهر في الطرح المشترك لهما في مؤتمر جوهانسبرغ، ما دفع بسلطة رام الله لأن تعلن مشاركتها في المشروع لكي تضمن الحفاظ على «حقوقها المشروعة»! بعدما تأكد للجميع أن الأردن والكيان الصهيوني ماضيان نحو التنفيذ من دون مشاركة السلطة. وقد برز التفاهم الثلاثي حول الفكرة/ المشروع، خلال المنتدى الاقتصادي الدولي الذي عقد في الأردن في شهر حزيران 2003.

ذرائع إنقاذ البحر الميت!

ردد عبارة الإنقاذ تلك شارون وبيريز في عدة مناسبات من أجل إستدرار عطف المجتمع الدولي وأنصار حماية البيئة. علماً بأن المدمر الحقيقي للبشر والشجر والحجر والبحر، هم الغزاة الصهاينة. إن انخفاض مستوى المياه في البحر الميت (100سم تقريباً) كل عام ليس سببه فقط التبخر، بل تحويل مياه روافد نهر الأردن للاستخدام في مستعمرات ومشاريع المحتلين، ما أدى إلى انخفاض تدفق المياه في نهر الأردن «كان 1250 مليون م3 في أوائل الخمسينات من القرن الفائت، إلى 200مليون م3 الآن، كما أن الصناعات الكيميائية الصهيونية أدت إلى تبخر نحو 262 مليون م3 ، بحسب الخبير البيئي، د. مازن قمصية»، لكن تلك الذرائع سرعان ما تتهاوى أمام الفوائد الاستراتيجية الكبرى التي يمكن ذكر بعضها (تأمين المياه لمستعمرات النقب، جلب مستعمرين جدد من خلال تطوير الزراعة ومناطق الاستجمام، الاستفادة من المياه لتبريد المفاعل النووي في ديمونا، تطوير الصناعات الكيمائية).

ناقل المياه

الاتفاق المعلن حول المشروع كما نقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية يشير إلى ضخ نحو 200 مليون متر مكعب في السنة من خلال أنبوب يبلغ طوله 180 كم، نحو 80 مليون متر مكعب من المياه تجري تحليتها في منشأة تقام في العقبة، تحصل حكومة العدو منها على ما بين 30 و50 مليون متر مكعب لمصلحة مدينة ايلات والعربة. ويحصل الجانب الأردني على 30 مليون متر مكعب لاحتياجاته في الجنوب، و50 مليون متر مكعب صالح من بحيرة طبريا، وتباع المياه لهم بسعر المياه المكررة.
وبحسب الصحيفة، فقد طلب الفلسطينيون أن يحصلوا في اطار الخطة على موطئ في شمال البحر الميت، في منطقة عين فشخة، لكن طلبهم جوبه بالرفض. وبحسب الاتفاق، فإنهم سيحصلون على 30 مليون متر مكعب من مياه بحيرة طبريا مياه محلاة أو مكررة بسعر الانتاج _ إنهم يبيعوننا مياهنا!_ ليحسنوا بذلك توريد المياه لسكان الضفة، كما أن هنالك مشروعات ستنفذ عند مدخل ومخرج الأنبوب على خليج العقبة والبحر الميت، من أجل إنشاء بحيرتين سياحيتين. وكانت قد اشارت عدة مصادر صحافية/إعلامية داخل الكيان إلى أهمية وجود أنبوب نقل المياه داخل الجانب الأردني من الحدود، الأمر الذي تتجاوز فيه اعتراضات أنصار البيئة في داخل الكيان، كما أن تغطية تكلفة مد الأنبوب البالغة ما بين 250 و400 مليون دولار، ستجري من تبرعات دول مانحة، فيما أبدى البنك الدولي استعداده لتقديم قرض.

أنبوب لـ«السلام» الاقتصادي

مع كل الضخ الإعلامي الذي مارسته أجهزة الإعلام وعدد من الكتّاب، في كيل المديح للرخاء الذي توفره تلك القناه للشعبين: الأردني والفلسطيني، فإن قوى سياسية أبدت نقدها الشديد ومعارضتها، للدخول في اتفاقيات مع المحتل، لكن ما سجلته العديد من المنظمات الأهلية الناشطة ضد نهج «التطبيع» بكل ما يحمله من تناقض واضح مع الحقوق القومية والوطنية، كان الموقف الأبرز في مواجهة خطوات الاستسلام التي تجري في مجالات متعددة. المنظمات والهيئات الشعبية الفلسطينية، أعلنت في بيانها أن «المشروع محاولة غير مقبولة لإجبار الفلسطينيين على الموافقة على سلب ملكيتهم وتسوية حقوقهم، وبالتالي، فهو يقوض حقوق الفلسطينيين المائية ويضفي الصبغة الشرعية على حرمانهم ملكيتهم في نهر الأردن. وبالتالي فإن إنقاذ البحر الميت سيدمر مشروع الميزات الفريدة للبحر الميت ونظامه البيئي. إذ من المقرر تحويل البحر إلى بركة ميتة من مياه البحر الأحمر والأملاح الكثيفة الناتجة من تحلية الأخير، الأمر الذي سيؤدي إلى تدمير هذا الموقع التراثي الفلسطيني والعالمي».
كذلك أصدرت جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية في الأردن بياناً دانت فيه «الخطوة ببعدها التطبيعي والسياسي...لأن الأساس القانوني لكل هذا التطبيع، وإلحاق الأردن بالكيان الصهيوني، هو معاهدة وادي عربة الخيانية، واتفاقية أوسلو الخيانية في حالة السلطة الفلسطينية... إنه مشروعٌ يترافق مع تسريبات ينفيها النظام الأردني، عن إقامة منطقة اقتصادية مشتركة، فيما تهيئ الولايات المتحدة لترتيبات أمنية على الحدود مع الغور، مما يوحي بدور وظيفي للأردن والسلطة الفلسطينية في الإقليم ككل تحت جناح الكيان الصهيوني». 
ناقل المياه لن يروي عطش الأرض والإنسان العربي، للماء أو للحرية، بمقدار ما سيوفر لمستعمرات الغزاة، الماء، ما يعني المزيد من جلب مستعمرين جدد، والمزيد من سرقة الأراضي وبناء المستعمرات.
* كاتب فلسطيني