ما يلفت في عملية الانتخاب هو الاحتفاء بها كمنتج من منتجات الحرية. وما يلفت في صيغها، أنها نقيض الحرية. انتخب. عليك أن تنتخب. وإن لم تنتخِب، فسيحدث كذا وكذا. لا تنسحب. دائماً، ثمة شرط. ثمة ما يدفعك إلى أن تفعل، أو أن لا تفعل. ما يلفت في لبنان، هو «السَّلبطة»، وهي مفردة إذا ذهبنا مذهباً ألسنياً، فإن أول ما قد نفترضه، أنها مشتقة من «سُلطة». أنت حر، ولكن، «إياك أن لا تنتخب». بمعنى ما، لست مجبراً على الانتخاب، إلا إن كنت تحصّل أقل من مئة دولار في الشهر، وتعيش في غرفة يمكن أن يسقط سقفها على رأسك في أية لحظة، أنت وأولادك السبعة. وفي هذه الحالة، سيبحث عنك مراسل تلفزيوني مغمور، وجد نفسه فجأة خلف الكاميرا، وقدّم لنا نحن المشاهدين البسطاء تفاهته، على أنها «صحافة استقصائية». وكما هو واضح هنا، هذا دفاع صريح، عن الشخص الذي يتلقى رشوة، لأن الدولة والنظام ما انفكوا يكسّرون عظامه، ويريد المراسل التلفزيوني ــ وستشاهدون هذا غداً بكثافة ــ أن يعطيه محاضرة في العِفة. وكما نعرف جميعاً، كلبنانيين، ونحن نعرف بعضنا جيداً، التلفزيونات ليست محايدة. والفقراء لا يمكنهم التصويت على قواعد إبستمولوجية ولا تهمّهم التحليلات الجيوسياسية، وإن كانوا رغم محاولات النظام الحثيثة والطويلة، ما زالوا يتحدثون أفضل بكثير مما يتحدث مرشحو الكرامة والبصل البلدي. وكما نعرف جميعاً، لا يوجد محايدون في لبنان. يوجد أشخاص يتخيّلون. يتخيّلون أنهم محايدون. يتخيّلون أنهم قادرون على التغيير. يتخيّلون أن التلفزيونات صادقة، وأن المراسلين لا يعملون في محطات لديها أجندات. لا يوجد محايدون، سوى هذا الذي يقيم مع أولاده السبعة، في غرفة، قد يهطل سقفها على رأسه ورؤوس أولاده، والذي يطلب منه النظام، بإصرار، أن ينتخب، وأن يمنح الشرعية للنظام، الذي كسّر عظامه، وإلا فسيكون... كذا وكذا وكذا.لا أحد مجبر، ولكن، لم يعد الأمر متعلقاً بإصدار الأوامر، أو بالإجبار على الانتخاب. صار الأمر متعلقاً ببناء سردية جديدة، بنيت ونشأت وارتفعت على جثث ضحايا وشهداء وأبرياء. سردية عن أهمية الانتخاب، عن تسجيل موقف ضدّ الآخر، من دون الانتباه إلى أنه موقف ضدّ الذات. سردية هدفها المواءمة بين الإكراه والتكريه على أساس تقني، وبين بناء ذات مستسلمة ومنهارة طوعاً. وهذا ينتج نظاماً، كالنظام الذي نعيش فيه، بحيث يتبدل العقد الاجتماعي، ليصير قبولاً من المواطن، أو ما يتفق على أنه مواطن، بالقبول بلعبة مضحكة اسمها الانتخابات، على أساس أن هذا هو الحلّ العقلاني الوحيد للمشاركة في النظام. مشاركة من القعر من أجل البقاء في القعر، فما هو مهم، أن تبقى مشاركة المواطن (والمفردة في غاية السذاجة) مفرغة تماماً من أي إطار معرفي. وكما اخترعت الأنظمة النيوليبرالية مفاهيم التعمية خاصتها، لتعميم هذه العلاقة بين المواطن والفرد، مثل الحديث الطريف عن التنمية وعن البيئة والطاقة الشمسية، تُخترع في لبنان نيوليبرالية بإضافات أساسها أنتروبولوجي، فيصير سلاح حزب الله حدثاً، ويصير التصويت ضدّه ومعه، وتُخترع حقوق المسيحيين، فيصير مجد لبنان أكثر من مزحة، ومطروحاً كلوغوس دموي وعنصري. والمشكلة أنه لا يمكن تفادي كل هذه الخرافات بالانتخابات، قبل تفادي خرافة الانتخابات نفسها.
قبل أعوام، كان يمكن القول إن انتاج سُلطة في رقعة جغرافية مثل لبنان، يفترض لها إدارة علاقات القوة في المجتمع عبر الدولة، كان ممكناً، أو بدقة، كان واضحاً. كان العثور على مواقع القوة متاحاً، بحيث يمكن الإشارة بالإصبع، إلى حيتان وإلى ديناصورات وكائنات أخرى، قد تشكّل معاً أذرع الدولة، وهي أذرع تتقاتل ضدّ بعضها، ولكنها تنفرد في لحظة الدفاع عن جسد النظام الذي تنتمي إليه. هذا الجسد، الذي يسمّيه اللبنانيون العاجزون: الدولة. الدولة التي يشتمها سائق سيارة الأجرة، ويقول صاحب الحِرفة المعطلة، إنها الدولة، سبب كل بلاء. وصار ينتمي إلى هؤلاء بمن يسمّون في الأدبيات المتداولة «طلاب الطبقة الوسطى» في الجامعات الخاصة، وأساتذة الجامعات نفسها، وغيرهم. حتى المنتمون إلى النظام، وإلى الدولة، ينتقدون الدولة، وينتقدون النظام، عندما يطلّون عبر برنامج تلفزيوني، يعمل بدوره على تعويم النظام، وتعويم أركان الدولة. النواب يجلسون في موقع متقدم، ويمدون أرجلهم على الآخرين، لكنهم ينتمون إلى النظام نفسه. إنه الجسد نفسه، الذي لا يمكن اللبنانيين الانفصال عنه. إنهم أذرع الجسد، وهم لا يتقاتلون إلا على لحم الجسد الذي ينتمون إليه. غداً سيذهبون إلى الانتخابات. غداً سيأكل اللبنانيون بعضهم. سيغادر الرجل غرفته مع أولاده السبعة. سيتركهم تحت رحمة السقف. وغالباً، لن نُفاجأ، إذا صار لحركة أمل 14 مقعداً بدلاً من 12 أو لتيار المستقبل 20 مقعداً بدلاً من 24. ولن نُفاجأ إذا سقط قتيلان أو ثلاثة أو عشرة. ولن نُفاجأ بأي شيء. ستشرق الشمس صباح الاثنين، وسننتبه أنه كان من الأجدر أن نقاطع. وكالعادة، سنقول بيننا وبين أنفسنا: فات الأوان.
* من أسرة «الأخبار»