(ليس هناك مقابل عادل للاستقلال السياسي مهما بلغت قيمة الرشوة).كارل شميت من كتاب مفهوم السياسي

تغيّر الواقع في سوريا منذ شباط/ فبراير 2011 حتى الآن، من كونه متّسماً بحركة احتجاجات اجتماعية وسياسية ضد النظام في سياق ما عرف بـ«الربيع العربي»، إلى حرب تشتبك فيها مجموعة من الجهات المحلية والخارجية. ومع ذلك فإن التفسير السائد للأزمة السورية يختصرها في حراك «ثوري» ضبابيّ الملامح ضد نظام «استبدادي». لكن إذا ما أردنا اليوم النظر إلى المسألة السورية بقدر من الاتساق مع ما يحدث على أرض الواقع، فلا بديل من التعامل مع حرب على الأرض وثورة في الخطاب. وسيكون لدينا ــ بطبيعة الحال ــ أسباب وجيهة للارتياب في استمرار دعاية «الثورة ضد المستبد بشار الأسد» (1)، وهي الدعاية التي بات يستجدي القائمون عليها، وبإلحاحٍ، جيوش الغزاة كي تجتاح سوريا، كما فعلت مع ليبيا وقبلها العراق.

حول ما جرى
في صميم الصراع على سوريا، يكمن صراع روايات عن تحوّل «الاحتجاج السلمي» إلى حرب حقيقية، يوازيه جدل عنيف حول طبيعة الطرف المتسبّب في ذلك. وفي هذا السياق، من الأفضل الاستماع إلى مقولة: «لا تصدق ما تسمع، وصدق نصف ما ترى»؛ فخريطة الجماعات الجهادية المسلحة التي تحارب باسم «الثورة» وحجم مبيعات السلاح للأردن والإمارات وقطر والكويت والسعودية وتركيا (وهي الدول ذات الصلات الوثيقة بفصائل المعارضة المسلحة) لا يدعان مجالاً إلا لرواية تشير إلى أنه وإن كانت الاحتجاجات التي شهدتها سوريا عفوية إلا أن التحول إلى العنف لم يكن كذلك، بل كان الشيء الوحيد المخطط له في الأزمة.
تحوّل الاحتجاجات التي اندلعت في فبراير 2011 إلى حرب مفتوحة، بدأ بعد أشهر قليلة، وبالتحديد في آب/ أغسطس من العام نفسه، حين أعلن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أن «الوقت حان ليتنحّى الأسد جانباً»، بالتزامن مع صدور تأكيدات من الاستخبارات الأميركية بأن «أيام الأسد أصبحت معدودة». وكانت تصريحات السيّد أوباما بمثابة الضوء الأخضر «للحلفاء الإقليميين» لتسليح «المعارضة السورية» بهدف إطاحة النظام، وإن كان يمكن تأويلها في الآن نفسه بأنها كانت بمثابة إعلان لتأييد «الطرف الصحيح» في الربيع العربي، كم درج أوباما على أن يفعله (فعل ذلك مع انتفاضتي تونس ومصر، ومتأخراً كالعادة).
على كل حال، جرى تفسير تصريحات «السيّد» واقعياً من قبل تركيا والسعودية وقطر على أنها تشجيع من الرب الأبيض (أوباما أسود في الحقيقة، لكنه يحكم باسم البيض، وهو أسوأ شيء في تاريخ الأميركيين السود) لدعم محاولات إطاحة بالأسد، فبدأت تركيا بتوفير الملاذ الآمن لـ«الجيش الحر» بينما بدأت قطر، المفعمة بالتفاؤل، بتوفير السلاح لـ«جماعات المعارضة»، واثقةً من الخبرة الثمينة التي اكتسبتها في تجربة إطاحة النظام الليبي؛ فبسبب، ونتيجة، لهذا التفكير السياسي البسيط والساذج، ألقت قطر بثقلها المالي والإعلامي في الساحة السورية.
لم يقرأ أوباما المشهد السوري جيداً في 2011، وظن أن الوضع هناك هو نسخة مكررة من الوضع في مصر وتونس، وتجاهل البرقيات الواردة من الديبلوماسيين الأميركيين المقيمين في دمشق، والتي كانت تشدد على أن النظام يمتلك قدرة على الصمود أكثر مما يتخيّل الرئيس المتحمّس. خدعت تصريحات أوباما «الحلفاء الأوفياء» (2)، فأميركا لم تكن لديها نيّة فعلية لتوجيه ضربة عسكرية في هذا الوقت المبكر ضد النظام السوري، وبالتالي شعروا أن أوباما ورّطهم وتركهم.
الليبراليون والإسلاميون سطوا على فصاحة اليسار ومعجمه عن الثورة


وبالإضافة إلى تلك القراءة الخاطئة، كان الخطأ الأكثر فداحة في سجلّ تعاطي الغرب مع الأزمة السورية هو قرار فرض عقوبات على سوريا في أواخر 2011، وبخاصة وقف استيراد دول الاتحاد الأوروبي للنفط السوري، وتسبب القرار في نكبتين لسياسة الغرب تجاه سوريا: الأولى أنه دفع النظام السوري إلى الالتجاء إلى روسيا وإيران بهدف الحصول على الدعم المالي، وبالتالي جرى استدعاء حليفين للنظام أحدهما تاريخي والآخر موضوعي إلى ساحة الأزمة. والثانية أن العقوبات بدلاً من أن تردع رجال الأعمال السوريين وتجبرهم على التخلي عن النظام، حفّزتهم على الالتفاف حوله، فضلاً عن أن النظام (كما هو وارد ومتوقع ومفيد في البيئة العربية) ألقى باللوم على «الغرب المعادي» في التسبّب في معاناة السوريين الاقتصادية.
وعلى ذكر استدعاء روسيا وإيران، يتصاعد طنين خطاب إدانة «الاحتلال» الروسي والإيراني لسوريا، وتتعالى موجة هذا الخطاب مع النغمة «الثورية» التي تروج أن «الجماعات الجهادية» تحارب القوات الروسية و«الميليشيات الإيرانية» المحتلة دفاعاً عن الشعب السوري، ضداً من واقع أن الحليفين الإيراني والروسي بعد ذلك جاءا إلى سوريا كرد فعل مباشر لتغلغل نفوذ تلك الجماعات ومحاولتها الرامية هدم الدولة السورية بالكامل. وهي الجماعات التي موّلتها السعودية وقطر اللتان اتفقتا على هدف إطاحة النظام مع اختلاف الأهداف؛ فالسعودية كانت ترمي إلى ضرب النفوذ السياسي لإيران عبر تدمير أكبر حلفائه في المنطقة، فضلاً عن ضمان التحكم في النظام المتوقع تشكيله بعد إسقاط بشار الأسد، فيما كانت قطر طامحة إلى توسيع نفوذها المرتبط بالإسلام السياسي الذي كان متوقعاً له، وبكثيرٍ من التفاؤل، أن يحكم مصر وتونس، وكانت سوريا هي المحطة التالية. وحين انهار الإسلام السياسي في مصر عقب 30 يونيو وتراجع عن الصدارة في تونس إثر ذلك، كانت سوريا محط آمال إمارة الغاز.
تحفّظ الغرب على تمويل الجماعات الجهادية، إلا أن السعودية وقطر تكفّلتا بالقيام بذلك، في ظل تأييد أميركي غير معلن لتلك السياسة، وأسهمت الدولتان في تدفّق الأموال والأسلحة على المقاتلين، فضلاً عن الدعم القادم من البحرين التي دشّنت الحملة الشهيرة («تجهيز غازي») وأسفر الدعم السخي والمتعدد المصادر عن التنافس الشرس بين الجماعات المسلحة على تلقّي الأموال والأسلحة والأوامر. ووصل الأمر إلى درجة أن مساعد وزير الدفاع الأميركي آنذاك ديريك شوليه قال: «بعض شركائنا ألقوا كل أنواع الموارد في الصراع، ووصلت الموارد إلى الأيدي الخاطئة. ولم يكن بعض شركائنا يأبه، سواء انتهى الدعم في أيدي جبهة النصرة أو جماعات أخرى. لذا أمضينا الكثير من الوقت في إقناعهم بدعم المعارضة المعتدلة».
ومع اشتداد حدة القتال بين الجماعات الجهادية المتنامية والجيش السوري، حاولت السعودية وقطر فرض «خطة سلام» برعاية جامعة الدول العربية في نوفمبر 2011، بحجة «حماية الشعب السوري»، وتلتها خطة سلام أخرى في ديسمبر من العام نفسه، وتخلت الدولتان عن الخطة الأولى بعد أيام، فيما دامت الخطة الثانية مدة شهر ونصف شهر تقريباً، ثم تخلّتا عنها بشكل مفاجئ على أمل أن يكون فشل الخطة الأخيرة للسلام «ذريعة حرب» لا غبار عليها لمجلس الأمن. وكانت روسيا قد تعلمت من «الدرس الليبي»، فاستخدمت حق الفيتو ضد قرار التدخل في سوريا. فعلت ذلك بمعيّة الصين.
أعقب ذلك تنفيذ وكالة الاستخبارات الأميركية، على مدار عام 2013، برنامج تدريب وتجهيز «معارضة مسلحة معتدلة»، وبالتحديد «للجيش الحر»، مع غضّ الطرف عن سلوك ضباطه الذين باتوا يتعاملون بوصفهم «أمراء حرب» فعليين، ما تسبّب في شرخ بينهم وبين الأهالي (3) الذين لم يكونوا في حاجة إلى سوء سلوك هؤلاء الضباط كي تزداد نقمتهم على الأميركيين. ورافق ذلك اتجاه بعض ألوية «الجيش الحر» لإظهار طابع ديني على سلوكها، من أجل الوصول إلى التمويل الخليجي، سواء السعودي أو القطري، وكان رفع راية إسلامية وتبنّي خطاب طائفي آنذاك سبباً كافياً للحصول على دعم رجال الأعمال السلفيين في الخليج. بل وصل الأمر إلى أن الكثير من مقاتلي «الجيش الحر» انشقوا عنه وانضموا إلى صفوف الجماعات الجهادية الصرفة التي تكاثرت في فترة وجيزة، بفضل تدفق الأموال والأسلحة و«المجاهدين»، في وقتٍ كان يطلب فيه «الحر» تمويلاً من تركيا.
أما عن مبيعات السلاح ما بين عامي 2011 و2014، فقد جنت أوروبا 21 مليار يورو جرّاء تجارة السلاح مع الدول السابق ذكرها، فيما جنت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 18 مليار يورو من التجارة نفسها، وفقاً للتقارير الرسمية التي شملت الموافقات الممنوحة لإصدار تراخيص تصدير السلاح، وتراوح استعمال تلك الأسلحة بين دعم الجيوش المحلية وبين إرسالها للفصائل المحاربة في سوريا (4). لذا فإن الانتقادات التي طالت أوباما لعدم تسليمه أسلحة فتاكة إلى فصائل المعارضة تتجاهل واقعاً قائماً ومعترفاً به، بأن واشنطن لم تقلع عن توريد المعدات العسكرية الفتاكة إلى حلفائها العرب، وتوافق ضمنياً على أن تكون سوريا هي الوجهة النهائية لتلك المعدات (5). هكذا كان التحول من «السلمية» إلى الحرب ناتجاً من قرار سياسي اتخذته أميركا وحلفاؤها ولا شأن له بقمع مظاهرة هنا أو هناك.
ومع ذلك، غالباً ما ينظر الخطاب الثوري إلى التأثير السياسي والدعائي والتدخلات الغربية والخليجية في وعلى الأزمة، من تمويل وتسليح وتعليمات ودعاية ودعم وتنازع على شراء الولاءات، على أن ذلك «فعلاً دخيلاً» على الثورة، ومجرد شوائب لحقت بالظاهرة الثورية أو بالجسد الثوري، أو هي في النهاية شيء ثانوي إلى جانب القضية الكبرى، وأحياناً ينظر إليها كفشل وعدم كفاءة أو نقص خبرة الفاعلين الذين لم يتمكنوا من صيانة نقاء الثورة، إذ يجري تخيلها على أن لها طبيعة مغايرة للثورة. لكن مشكلة تستعصي على الإخفاء كامنة في صلب هذا الخطاب، وهي أن ثورةً لا تحدث في الفراغ كنزاع مفاجئ بين معارضة ونظام، وبالتالي لا يمكن استبعاد الجانب «الخارجي» الذي يحدث داخل الثورة نفسها التي تحوّلت إلى ساحة لكل هذه التدخلات، فهذه الخارجيات، الهوامش، الأعراض الجانبية، هي التي جعلت من الثورة في بلد مثل سوريا ممكنة أصلاً.

إسرائيل أولاً!
لم يكتفِ السيّد أوباما بخذلان أتباعه في بداية الاحتجاجات، بل خذلهم في لحظة شوقهم الغامر لغزوٍ داهم، حين ألغى ضربة عسكرية لسوريا رداً على هجوم كيميائي مزعوم، واكتفى بالتعاون مع موسكو في تسليم النظام لترسانته الكيميائية سلمياً، الأمر الذي بدّد الآمال العزيزة على قلب المعارضة وداعميها في غزوٍ يطيح النظام على غرار ما حدث في 2003 في العراق و2011 في ليبيا.
وكان التركيز على ترسانة الكيميائي السورية وراءه ضغوط كثيفة من قبل إسرائيل التي كانت تحلم منذ التسعينيات بنزع سلاح سوريا والعراق الكيميائي (كمعادل من درجة ثانية أو ثالثة لسلاحها النووي، وحققت آمالها في العراق بالفعل) كي تتفرد بتفوقها العسكري الساحق بفضل سلاحها الكيميائي والنووي معاً، بغض النظر عن حديثها آنذاك عن إمكانية نقل الأسلحة الكيميائية إلى «حزب الله».
على المستوى النظري بإمكان إسرائيل أن تعتمد على قدراتها العسكرية وحدها لردع أي تهديد لأمنها، لكن تاريخ المنطقة يثبت أنها ليست بمنأى عن ضربات موجعة جدا من الدول «المتطرفة»، كإيران وصواريخها البعيدة المدى، أو من الكيانات «المعادية» على خصرها أو من القوات المسلحة لدول الجوار «غير الصديقة بالكامل» كسوريا. ومهما كان النظام السوري قدّم خطاباً «معتدلاً» في السنوات التي سبقت «الربيع»، فإنه لم يصل بحال من الأحوال إلى درجة «الاعتدال النموذجي» كدول الخليج ومصر والأردن، في ظل تصلب التكوين السياسي – العسكري للدولة السورية الذي يتّسم بطابع عقائدي معادٍ لإسرائيل.
وكما اعتمدت إسرائيل من قبل على أميركا في نزع سلاح العراق الكيميائي والبيولوجي، كانت تحتاج وبدرجة قصوى وعاجلة، في استثمارٍ للأزمة السورية، إلى نزع سلاح سوريا الخطر، فهذا هو سبيلها الوحيد إلى كسر توازن الرعب الذي ساد منذ التسعينيات نهائياً. هذا الإلحاح الإسرائيلي على نزع السلاح الكيميائي السوري يدعم رواية أن الهجمات الكيميائية كانت «مفتعلة».
وفي صلب دفاعه عن قرار العدول عن الضربة، أكد أوباما أنه حمى إسرائيل من سلاح سوريا الخطر، ومع ذلك واجه سيلاً من الانتقادات بحجة أنه تخلى عن «المعارضين المعتدلين»، وأن تراجعه عن «الخط الأحمر» الخاص بالكيميائي جعل من النظام السوري أكثر جرأةً وثباتاً، وفي النهاية أضعف النفوذ الأميركي في الصراع السوري على الأرض وفي أي مفاوضات محتملة قادمة، واكتسب نقد أوباما مساحة أوسع وأصبح أكثر حدة.
وحين جاء دونالد ترامب، كان يضع نصب عينيه ترميم النفوذ الأميركي الذي تسبّب «ضعف أوباما» في تدهوره، كما يُشاع، ونفّذ ضربة محدودة على مطار «الشعيرات» عقب هجوم كيميائي اتُّهم النظام السوري بتنفيذه. وكان العدوان الثلاثي الأخير رداً على هجوم كيميائي جديد (وهي أكثر الحجج مثالية في زيادة التدخل الغربي في سوريا) استمراراً للسياسة نفسها: ترميم الهيمنة.
بمعنى آخر، أسهمت سيطرة الجيش السوري وحلفائه على المناطق التي كانت تحت حكم «الثوار» في خسارة الغرب أوراقه الرابحة، وقلّلت فعلياً من الخيارات المتاحة أمامه، وهدّدت بتهميش دوره في الحرب أو في غرف المفاوضات. ولا يمكن فهم الضربة الثلاثية الأخيرة لسوريا من دون أخذ ذلك في الاعتبار.

التفكير في الحرب
أمام هذا الوضع العاصف، وفي هذه اللحظة الحرجة، هل يمكن صياغة موقف سياسي سليم؟ قبل الإجابة عن السؤال يجب الانتباه إلى مفارقة بالغة الأهمية: أن الليبراليين والإسلاميين سطوا على فصاحة اليسار ومعجمه عن الثورة، وحوّلوهما من خطاب ضد الإسلام السياسي والرأسمالية ورجعية كليهما إلى خطاب إسلامي/ ليبرالي (وهي خلطة فريدة من نوعها). اليسار أصبح هو المحافظ وأصبح الرجعيون ثواراً يتعاطف الجميع معهم.
وأعمق من الخلاف السياسي مع الإسلاميين والليبراليين، هناك تحوّل فعلي في لغة القاموس الثوري (على الصعيد العربي بالتحديد). فحتى 2003، كانت هناك احتجاجات قومية معادية لأميركا، وقبلها انتفاضات الخبز في بلدان عربية متعددة في أواخر السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات، وقبلهما بالتأكيد حقبة التحرر الوطني؛ فكانت الثورة (بألف ولام التعريف) هي العداء للرأسمالية أو الاحتجاج المعروف والتقليدي على الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، أو الانتفاض ضد الاحتلال الأجنبي. الآن نحن أمام لغة ثورية ثقافويّة وهويّاتية مختلفة جذرياً ومنزوعة الثوابت والحدود.

غالباً ما ينظر الخطاب الثوري إلى التدخلات الخارجية على أنها «فعلاً دخيلاً»


هذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها الثقافة في صلب الاحتجاج وتصبح الحرية (بالمعنى البرجوازي) هدفاً أسمى يجب التضحية من أجله في العالم العربي. نحن لا نتحدث عن صيغة من تظاهرات الـ68 التي أخذت طابعاً ثقافويّاً وطعّمت الاحتجاج العمالي من أجل العدالة بنقد ثقافي لتغريب الحياة اليومية، وتسليع الاستهلاك، والزيف الشامل للمجتمع. نحن نتحدث عن احتجاجات بلا رؤية تحوّلت إلى حرب، وعن مدن أصبحت أطلالاً، وعن عدوان عسكري وعن جيل من السوريين أصبح من الصعب إدماجه داخل النسيج العام لمجتمعه بعد اتخاذه مساراً انشقاقياً بالمعنى الحرفي.
ما يحدث في سوريا دليل إضافي على أدلة كثيرة على أننا نعيش في حقبة ما بعد الأيديولوجيا. «الثوار» لا يحملون تصوراً ما يسعون لفرضه. «إسقاط النظام» مطلبهم الوحيد، و«الثورة السورية» فسيفساء من الأفراد غير المنتمين إلى تنظيمات أيديولوجية، وربما إلى أي نسق فكري متبلور الملامح (باستثناء الإسلاميين). وفي حالة انعدام الأدلجة التقليدية، مع ضمور عملية التنشئة السياسية، تمثل الليبرالية السياسية (والاقتصادية تباعاً) الأيديولوجيا العفوية والضمنية لظرف تاريخي يحمل ملامح تسيد الليبرالية عالمياً وظرف محلي يطغي عليه «الاستبداد» وتنزاح إشكالات التبعية العضوية للإمبريالية العالمية والتأخر التاريخي والاستغلال، وكل الأفكار العالمثالثية جانباً.
بمعنى آخر، إن سيادة مجموعة الأفكار (غير المترابطة وغير النسقية) الليبرالية على وعي الجيل الحالي لم تحدث بفعل التلقّي المدرسي للكتابات الليبرالية العالمية، كما كان يحدث في سياق توطين الأيديولوجيات العالمية محلياً في السابق في مختلف البلدان العربية. إذاً لا يمكن الحديث عن أيديولوجيا ليبرالية بقدر ما يمكن الحديث عن «مزاج ليبرالي». فما يسمّى «الربيع العربي» ما زال يتّسم بفراغ أيديولوجي وغياب أيّ نظرية سياسية ترتفع فوق الأحداث وتستطيع تفسيرها.
هذا الفراغ الأيديولوجي أسفر عن انتهازية (ترقى إلى مرتبة العبث) واضمحلال للثوابت (وصل إلى درجة تأييد عدوان عسكري على الوطن) وخلل في الرؤية، وعجز عن تكوين موقف سياسي يمكن تبريره والدفاع عنه لدى الغالبية المطلقة من أنصاره المتحمسين. ومن الطبيعي أن تستغل التنظيمات الأيديولوجية الإسلامية هذا الفراغ في استخدام غير المؤدلجين في خدمة مشاريعها السياسية. على أرضية الفراغ الأيديولوجي وحدها يجري ضخّ مفاهيم تلك الأيديولوجيا، وفرض تصوراتها والخضوع لبرنامجها السياسي من دون وعي.
من المؤكد أنّ استمرار الهيمنة السياسية للإسلاميين (وليس بالضرورة الأيديولوجية) لا يتحقق فقط بفضل امتلاكهم تنظيمات قوية، بل بفضل الرضا الأميركي في المقام الأول (6) (تخيّل لو كان هناك حراك يساري في سوريا معادٍ للسلطوية والرأسمالية معاً، هل كان هناك منبر إعلامي يفسح له ساعة واحدة في البثّ، أو يمنحه اهتماماً من أي نوع)، الأمر الذي يدفع في اتجاه تبنّي عدد كبير ومؤثر للغاية من المنابر الإعلامية المدعومة بأموال طائلة لأيديولوجيتهم والدعاية لمشاريعهم.
نعود إلى السؤال المطروح أعلاه. وقبل محاولة الإجابة، يجب الاعتراف أولاً بأن هناك مأزقاً يقع فيه اليسار العربي في صدد التعاطي مع النظام السوري؛ فهو يرى النظام السوري برجوازياً، ويعارض في الوقت نفسه حراكاً ليبرالياً/ إسلامياً يرفع شعار «الحرية» ضد الاستبداد، ويعارض كذلك، وبالطبع، أي عدوان استعماري على سوريا.
لكن بعيداً عن مقتضيات أي أيديولوجيا، يتميّز النظام السوري بسمات استعصاء على الإمبريالية. وعلى محدودية تلك السمات، فهي تمثل جانباً تقدمياً (ويكفي في هذا الصدد دعمه للمقاومة في وقتٍ كانت الأنظمة العربية تتبرّأ منها، بل وتعاديها)، لكن كونه استبدادياً وبرجوازياً يضع اليسار في مأزق نظري قديم ومتجدد، لا يجد حله إلا في نظرية «الحد الأدنى» التي توجب تحالف اليسار في البلدان المتخلفة مع البرجوازية الوطنية في مواجهة الإمبريالية. ما يشوّش على هذه النظرية كي تعمل في الخطاب والممارسة بسلاسة هو أن نموّ بذرة برجوازية طفيلية قبل الحرب وسعيها للاندماج في السوق الدولية وانتهاج سياسات اقتصادية نيو ليبرالية هي مسؤولة، بدرجةٍ ما، عما وصلت إليه سوريا.
النظام السوري كان في سبيله قبل «الثورة – الحرب» إلى الدوران الجزئي في الفلك الأميركي، وقدّم خطاباً مهادناً نسبياً تجاه إسرائيل، ولا يمكن تغطية ذلك بحجاب الشعارات التقدمية والسقوط في فخ التماهي مع النظام وشعاراته وتوفير الدعم اللا مشروط له أو تجميل صورته برطانة تقدمية، وبالتالي لا يمكن تبرئة أي توجه «يساري» لدعم النظام من دون مسافة نقدية، بل ومعارضة منه، ومن دون خلق جدل حقيقي حوله.
هذا الجدل الغائب عن اليسار، في ظل، وبفعل، الحرب (هل يمكن الطلب من إنسان وهو يواجه أحدث ما أنتجته مصانع الأسلحة في العالم التفكير؟ يمكن في حالة واحدة، وهي أن يكون أحد مجالات الحرب القائمة ثقافياً وسياسياً بالأساس) حول طبيعة النظام السوري وتركيبه الطبقي وانحيازه أيضاً وموقعه في العالم ودوره، وكذلك التفرقة بين الاحتجاج الشعبي الناتج من مظالم حقيقية وملموسة وبين الحراك الملوّن ليس فقط مشروعاً بل ضروري، ولا يمكن مواجهة فكر وجماعات وإعلام من يرفعون شعار الثورة والتغيير بحجاج بائس حول «الربيع العبري» وخطاب «المؤامرة» الأكثر بؤساً. هذا الجدل مُلحٌّ ومهم، وليس هناك ما يصنع النكبات في واقعنا العربي أكترمن اختزال المواجهة في شعارات الصمود والمقاومة.
هناك جيل كامل أو جيلان من السوريين العرب عموماً لم يتعامل مع أي تجربة استعمارية مباشرة (باستثناء الفلسطينيين وأهل العراق)، وليس غريباً ولا مفاجئاً أن يعتبر أن أي حديث عن الاستعمار والهيمنة الغربية من مخلفات التاريخ تماماً مثل الأنظمة التي تحكمه؛ فما حدث خلال الأعوام السبعة الماضية، يعكس ظهور ثقافة سياسية جديدة مختلفة كلياً عن التراث القومي والاشتراكي الذي أنتجته سوريا على مدار عقود، وهناك قوى اجتماعية جديدة اكتسبت وزناً لا يمكن تجاهله. ورغم أنها ستظل عاجزة تماماً عن إحداث أي انعطافة حاسمة في تاريخ الحياة الاجتماعية والسياسية، إلا أنها قادرة على إرباك أي نظام سياسي بل وتحطيم الدولة أيضاً.
وعلى هذا الأساس، ستكون المهمة التي ينبغي أن تحتل موقع الصدارة في نضالنا «الأيديولوجي» هي تفكيك أسس تلك الثقافة الجديدة وتفنيد مسلماتها وأطروحاتها، وتأسيس هيمنة لا تحتاج إلى أجهزة أمنية ومخابرات وأقبية وسجون أثبتت عجزها عن المواجهة، وأوصلت سوريا (بشكلٍ ما أو بآخر) إلى الوضع الحالي، بل إلى نظرية وثقافة مقاومة وقبول شعبي، هي العاصم من طوفان يسمونه العولمة، ليس «الربيع العربي» سوى موجة من موجاته مخلوطةً برمال المظالم المحلية.
والحاصل أن تصوّر المعركة القائمة حالياً كـ«حرب مناورة» (بلغة غرامشي) تعتمد على العتاد والمقاتلين الشجعان وليس حرب مواقع وثقافة ودعاية سياسية (كما يذهب عامر محسن) يغفل أمرين: أولاً أن المقاتل الذي يدفع صائل العدوان الهجين (خارجي ومحلي) على سوريا ولبنان والعراق لا يمكن التفرقة بينه وبين المعتدي (سواء جندي محترف أو مرتزق) إلا بفكرة قوية في دماغه عن الوطن والأمة وأعدائه، وبالتالي إيمان بقضية محددة الملامح والثوابت، هو ما يمنحه وعيه بذاته وهويته بالأخير، ومن هنا لا بديل من أيديولوجيا قادرة على إنتاج وإعادة إنتاج الذات المقاومة. وثانياً، أن ضمان الحفاظ على الانتصارات المحققة وعدم الانتكاس عنها بل وتعزيزها في المستقبل، لا يتمثلان فقط في العمل الحربي، بل يكمنان في موقع موازٍ هو الأيديولوجيا والسياسة والأفكار التي يجري تقاسمها ونشرها. المعركة مزدوجة: مناورة ومواقع معاً.

هوامش:
(1) أيّدت قطر «الراعي الرسمي» للثورة السورية بحماسة العدوان الثلاثي الأخير، وكذلك فعلت السعودية، وهو ما يسمح لنا بفهم موضوعية العمالة التي تجمع الدولتين، وأن التناقض بينهما ثانوي وليس رئيسياً، وما عُرف بالأزمة الخليجية لا معنى له بعيداً عن ذلك، أو ربما «نعيش في زمنٍ يعادي فيه العميل أخاه العميل» بتعبير الشاعر المصري عبد التواب السيد!
(2) سياسة الغرب تجاه سوريا: تطبيق الدروس المستفادة، وهي ورقة بحثية طرحت ضمن برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مارس 2017)، وشارك فيها كلٌ من: لينا الخطيب، تيم إيتون، وحايد حايد، إبراهيم حميدي، بسمة قضماني، كريستوفر فيليبس، نيل كويليام، لينا سنجاب. وكل المعلومات التي تتعلق بشأن تسليح المعارضة ومواقف أوباما مأخوذة من الورقة نفسها التي كُتبت، وللمفارقة، كتوصيات للغرب تسمح بتدخله، بشكل فعّال، في سوريا!
(3) نفسه
(4) ديانا باشور، جناية الغرب على السوريين: مبيعات الأسلحة الأمريكية والأوروبية إلى الشرق الأوسط بين عامي 2011-2014، مركز الدراسات السورية، جامعة سانت أندروز.
(5) السابق
(6) يذهب إلى ذلك الكاتب المصري السيد شبل
*باحث مصري