ميلاد السيد المسيح... حدث يتجاوز التوقيت الزمني، وإن كان لاقتران الحدث بالزمن المحدّد في لاهوت الأديان معنى تغييريّ؛ إذ يحوِّل الحدث المقدّس في الأديان ماهيّة الزمن الخاص فيجعل منه زمناً مقدّساً... وإنّي وإن لم أكن مهجوساً بتوقيت ميلاد المسيح (ع)، إلّا أنّ الذي يعنيني هو أن أفرح لفرح طوائف دينيّة _ إنسانيّة واسعة من الإخوة المسيحيين.هذا الفرح المتّسم بالبهجة التي تعتريهم يعني لي الكثير، رغم ملاحظات أشارك فيها بعض اللاهوتيين حول خروج أشكال من مظاهر الفرح عن حشمة قداسة المناسبة.
لكن، قبل هذا، فأنا المسلم الذي لا يؤمن بألوهيّة المسيح، ولا بكثير من السيرة الشخصيّة التي نقلها لنا الإيمان المسيحيّ. أعلن إعجابي بحدث الميلاد، حتى لكأنّه أيقونة التجلّي الإلهيّ على الإنسان (كلمة الله). أيقونة المزود الذي يحتضن طفل المحبة وحوله شعشعانيّة نور السلام، فوق الطفل سماء وليل مشحون بنجوم، يظهر فيها استثناء لحركة نجم طبيعيٍّ تسيِّره إرادة الهدي والنعمة السماويّة، حركةٌ طبيعيّة محكومة بحكمة إرشاد لملوك الأمم نحو مصدر تجلّي النور السماويّ (كلمة الله)، ليصل ملوك أناسيِّ الدنيا إلى قرب إنسان المحبة والتجلّي فيركعون. في ركوعهم شغف وحب ورجاء سلام.
وهناك، في الأيقونة وجه ملائكيّ ممزوج بهالة من الرحمة، ودمع العشق النديّ، وقلق الرجاء الطموح، وإشراقة الإيمان بوعد الله، رغم صعوبة التهمة وقساوة جلاوزة الأعراف والتقاليد والنزعات الدينيّة الإقصائيّة التي سعت لتطال أخت هارون بأشرف ما عندها.
البتول التي قالت لربها نعم، لترسي إيمان عقيدة في الحياة «لا لرضا المخلوق على سخط الخالق»، فلم تأخذها في الله لومة لائم.
أيقونةٌ مفرداتها: الثبات، إرادة الثقة والأمل، البراءة، الحب، الطفولة، وأخيراً... السلام.
قد أسأل نفسي في الميلاد عن سرّ هذا الانجذاب نحو أيقونة حَدَث الولادة، وقد تصحّ مني الإجابة لأنّ الولادة حياة... ثمّ قد تسائلني نفسي، كيف يُجيز لي إيماني أن أرغب برمز دينيّ آخر؟ وهنا أقول، وبصدق: إنّ الإسلام الذي أؤمن به هو دين صالَحَ كلّ دين، وكلّ وجهٍ للمحبة والسلام العزيز، ثمّ قبل هذا وذاك، متى كانت الأديان قُطّاع طرق الصلة بين الإنسان والإنسان؟ وبين الروح والروح؟ وبين الحب المسيحيّ والرحمة المحمديّة؟
من قال: إنّ الدين يحجب عنّا أن نرى في وجه مريم، وجه آمنة؟ ومن يجرؤ على إعلان أنّ نور طفولة المسيح يمنعنا عن نور ولادة محمّد؟ وهل السماء والأرض والجبال والطير ودواب الأرض، والنجوم التي هلّلت بالسلام لولادة المسيح هي غير تلك التي هلّلت لولادة رسول الله محمّد (ص)؟ أليست البسمة صنو الدمعة حينما يجمعهما البلاء والمحبة؟
أليست صورة طفل المزود هي عين صورة الطفل الذبيح في كربلاء؟ بمعنى آخر، أيقونة الدنيا التي تمثّل تجلّيات الله، فيها ولادة الفرح وموت الطفولة في آنٍ واحد... وفيها أنّ البلاء والجلجلة وكربلاء مسار الزمن المقدّس والأرض المقدّسة. وأنّ قُطّاع الطرق إلى الله، هم أنفسهم قطّاع صلة الناس بالناس، والدين بالدين، وحزن الناس لحزن الناس، كما فرحهم لفرحهم. قُطّاع الطرق إلى الله هم أنفسهم من تَرَصَّد المسيح ليشقّوا صدره ويوغلوا رماح الكراهية في قلبه الحبيب. وهم أنفسهم من انهالوا على رسول الله محمّد ليدموه، وهم أنفسهم من قطعوا رأس الحسين والرجال والأطفال وسبوا النساء. إنّهم من كفروا بالمحبة، وجحدوا الرحمة والسلام، وخاصموا الإنسان باسم الدين حتى لم يبق من الدين إلّا اسمه.
لكلّ هؤلاء في الميلاد، وعند كل ميلاد نقول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ (سورة القصص، الآية 88)
لا بدّ من أن يأتي يوم الولادة الأكبر ليبقى وجه الله الواحد الأحد المتجلّي في هذا العالم والإنسان، ولتشرق الأرض بنور ربها، ويبور عدوّ المحبة والرحمة، ويحيا من يحيا عن بيّنة.
* مدير معهد المعارف الحكميّة
للدراسات الدينيّة والفلسفيّة