كما هو الحال في جميع الأزمات السابقة التي واجهتها الدولة السورية، فقد مثّل الإعلام الرسمي السوري نقطة تجاذب حادة في المعركة التي يواجهها نظام الرئيس بشار الأسد منذ أكثر من عامين ونصف عام، بين منتقد لدور هذا الإعلام وعمله كأداة بيد النظام وعدم قدرته على التحول إلى إعلام مهني قومي يتحدث باسم الدولة السورية ككل، ومدافع عنه كإعلام ملتزم وموجه، وإن كان يعترف بمعاناة هذا الإعلام بوسائله المختلفة من نقاط ضعف مهنية وتقنية ولوجستية كثيرة.وبناءً على ذلك، فإن الحديث عن واقع هذا الإعلام من الداخل، وفي ظروف استثنائية، كتلك التي مرت بها البلاد منذ منتصف شهر آذار 2011، يمكن أن يغيّر العديد من القناعات والرؤى المتكوّنة من علاقة وسائل الإعلام الرسمية بالسلطة السياسية وأجهزتها المختلفة، ويوضح على نحو أعمق وأدق نقاط القوة والضعف وتأثيراتها المباشرة في أداء وسائل الإعلام الرسمية، والأسباب الحقيقية لفشل دعوات ومحاولات إصلاح هذا الإعلام طوال السنوات السابقة.
تتضافر عوامل عدة في المسؤولية عن الحالة التي وصل إليها الإعلام الرسمي، منها ما هو مرتبط بموقف وطريقة تعامل مؤسسات السلطة السياسية مع هذا الإعلام، ونظرتها إلى أهمية إصلاح مؤسساته، ومنها ما هو متعلق بالواقع المؤسساتي والمهني للمؤسسات الإعلامية الرسمية، والتشريعات والقوانين الناظمة لعملها.

بين الرغبة والإرادة

في الشق الأول المتعلق بموقف السلطة السياسية، تؤكد الوقائع المتكوّنة خلال السنوات السابقة أن مؤسسات السلطة السياسية لم تقتنع إلى اليوم بضرورة البدء بإصلاح جذري لمؤسسات هذا الإعلام، وإن كانت تبدي بين الفينة والأخرى رغبتها في ذلك، ولا سيما في ظل الأزمة الحالية، لكن ثمة فرق كبير بين إبداء الرغبة وتوافر الإرادة. ويمكننا تحديد أبرز تلك الوقائع بالنقاط التالية:
ـــ عدم اقتناع مؤسسات السلطة السياسية بضرورة إطلاق حرية العمل الصحافي، وما يتطلبه ذلك من منح الصحافيين ومؤسساتهم الاستقلالية الكاملة والحصانة من الملاحقة خارج إطار تشريعات المهنة وتدخلات السلطة التنفيذية، إذ من المثير للسخرية حالياً القول مثلاً إنّ إعلاماً لا يجرؤ على انتقاد قرار حكومي برفع سعر مادة البنزين يمكنه أن يتخذ قراراً بنشر عمود صحافي لمعارض سياسي وطني ينتقد فيه النظام.
ـــ تعثر جميع المشاريع والأفكار الرامية إلى إحداث إصلاح جذري في عمل مؤسسات الإعلام الرسمي، وتحديداً تلك التي طرحت خلال العام الأول من عمر الأزمة، وذلك نتيجة افتقادها في المقام الأول تغطية ودعم مؤسسات صناعة واتخاذ القرار السياسي في البلاد.
وللمفارقة يذكر العديد من الصحافيين العاملين في الإعلام الرسمي، الذين التقوا الرئيس بشار الأسد في مناسبات عدة، كيف أن الأفكار والمشاريع التي شجعهم الرئيس على تنفيذها وجدت من يعرقلها أو يفرغها من مضمونها وجوهرها الحقيقي.
ـــ إضعاف منصب وزير الإعلام مهنياً، وتحويله من موقع مهني وإداري يفترض أن يكون صلة وصل بين الحكومة والإعلام، إلى موقع وظيفي يستخدم للسيطرة والضغط على وسائل الإعلام العامة والخاصة، وهذا الضعف المهني تحقق من خلال إسناد منصب وزير الإعلام إلى شخصيات غير إعلامية، لا تملك المعرفة الكافية بنقاط الضعف التي يعانيها الإعلام الرسمي وسبل تطويره، والأنكى من ذلك أن يترافق ذلك مع تعيين معاونين للوزير لم يمارسوا فعلياً العمل الصحافي بمتاعبه وهمومه.
ـــ استحواذ الحكومة على صلاحيات تعيين مديري المؤسسات الإعلامية ورؤساء تحرير الصحف الرسمية. وهذا كان كفيلاً بالقضاء على أي محاولة لتطوير العمل الإعلامي خارج منظومة سيطرة الحكومة ومتنفذيها من جهة، وبإبعاد أي مدير عام أو رئيس تحرير يغرد خارج السرب من جهة ثانية، كما حدث مع كاتب المقال الذي رفض تنفيذ طلب غير قانوني لرئيس الحكومة بكشف هوية مصدر معلومات أحد الصحافيين، فكان القرار بإعفائه من منصبه في اليوم التالي.
ـــ إفراغ قانون الإعلام الصادر عام 2011 من مضمونه المتقدم تشريعياً على كثير من قوانين الإعلام والصحافة في العالم. فمؤسسات الإعلام الرسمي كانت ملزمة خلال عام واحد بتوفيق أوضاعها بما يتلاءم وبنود القانون الجديد وهذا لم يحدث إلى اليوم... ويبدو أنه لن يحدث.
ـــ تغليب معايير الولاء والمحسوبيات والعلاقات الشخصية على معايير الكفاءة المهنية والخبرة والنزاهة في اختيار الشخصيات المناط بها إدارة المؤسسات الإعلامية ومفاصل التحرير، وان كانت هناك استثناءات سمحت لبعض الكفاءات بتولي مسؤوليات معينة إلا أنها تبقى محدودة جداً.
ـــ إبقاء نقابة الصحافيين خارج دائرة التأثير الفعال في الحياة الإعلامية السورية، وتخليها عن مهماتها الرئيسية في حماية حقوق الصحافيين والدفاع عنهم، والإسهام فعلياً في تغيير واقع الإعلام الرسمي بما يتفق والتقاليد المهنية ويواكب المتغيرات التي يشهدها الإعلام في العالم.
أما في ما يتعلق بالشق الثاني الخاص بالواقع المؤسساتي والمهني، فإن هناك نقاط ضعف عديدة لم تعد بحاجة إلى كبير عناء حتى يستدل عليها من قبل المهتمين، ومن هذه النقاط نذكر باختصار ما يلي:
ــ ضعف كفاءة وخبرة الكادر الصحافي والفني العامل في مؤسسات الإعلام الرسمي، على الرغم من ضخامته عددياً، ومؤشرات ذلك تتمثل في تسرب الكثير من الموظفين الإداريين والفنيين غير المؤهلين إلى منظومة التحرير والعمل كمحررين وصحافيين، فاليوم هناك موظفون من الفئتين الثالثة والرابعة، أي إن تحصيلهم العلمي لا يتجاوز المرحلة الإعدادية، ومع ذلك يعملون بصفة محررين، هذا فضلاً عن انتشار وتعمق ظاهرة الشللية العائلية، لذلك كان من الطبيعي حدوث ضعف شديد في المحتوى الإعلامي وانحرافه عن التقاليد المهنية الإبداعية.
ـــ تحول المؤسسات الإعلامية الرسمية إلى بيئة طاردة للكفاءات الصحافية الشابة، التي سرعان ما تجد مكانتها في المؤسسات الإعلامية الخاصة المحلية والعربية.
ـــ ظهور حالات فساد مالي في عمل المؤسسات الإعلامية، فأثناء تولي كاتب المقال رئاسة تحرير صحيفة تشرين خلصت عمليات التدقيق التي أجراها إلى أنّ الحبر الملون المستخدم في طباعة الصحيفة يعود إلى عام 1987، وفي حالات أخرى كان الحبر فاسداً، فيما أكد له خبير ألماني زار الصحيفة خلال عملية تعمير المطبعة (التابعة آنذاك لمؤسسة الطباعة) أن نسبة الرطوبة في الورق المستخدم لطباعة الصحيفة تدل على أن عمره ما بين 10 أعوام ـــ 12 عاماً... وغير ذلك من مظاهر الفساد المنتشرة في باقي المؤسسات الإعلامية الرسمية.
ـــ إخضاع المؤسسات الإعلامية لسلطة الأنظمة والقوانين الإدارية والمالية المطبقة على سائر مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية، دون مراعاة خصوصية العمل الإعلامي وما يتطلبه من أنظمة خاصة تشجع على الإبداع واجتذاب الكفاءات الصحافية الوطنية وتدعم استقلالية هذه المؤسسات.
ـــ تخلف البنية التقنية والتكنولوجية لهذه المؤسسات نتيجة إهمال الحكومات وتقاعسها عن توفير الاعتمادات المالية لتجاوز تلك الثغرة، فمثلاً تعاني صحيفتا تشرين والثورة قدم آلاتهما الطباعية التي يزيد عمرها على 20 عاماً. وهو ما تسبب في تراجع جودة الطباعة، وعدم القدرة على زيادة عدد صفحات الصحيفتين والتأخر في الصدور.

مستقبل الإعلام

يرتبط مستقبل الإعلام الرسمي السوري بتطورات الأزمة خلال الفترة القادمة، ومصير الجهود الدولية الرامية إلى إيجاد حل سياسي، وعلى ذلك يمكن القول إن هناك سيناريوهين مختلفين لما سيكون عليه الإعلام السوري على المدى القريب، أو البعيد، هما:
ـــ السيناريو المتشائم الناجم عن استمرار الأزمة وتصاعد تداعياتها السلبية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ففي ظل هذا الواقع، يتوقع أن يحافظ الإعلام الرسمي على وضعه الحالي مع إمكانية تراجع دوره ومكانته نتيجة لاعتبارات تتعلق بنقص التمويل وضعف الإمكانات البشرية والتكنولوجية، عدم القدرة على اتخاذ وتنفيذ قرارات إصلاحية جريئة، واستمرار سيطرة الحكومة على مؤسساته الرسمية، وغياب أي مبادرات استثمارية للقطاع الخاص في هذا الميدان.
ويمكن أن تصبح الأمور أكثر تشاؤماً فيما لو تطورت مجريات الأزمة على نحو سلبي، واستمرت الحرب الدائرة على حالها من التدمير والتخريب. ففي مثل هذه الحالة سيكون الإعلام الرسمي مجبراً على التقوقع أكثر، وإعادة إنتاج الخطاب السابق الواحد.
ــ السيناريو المتفائل والقائم على نجاح الجهود المحلية والدولية في التوصل إلى حل سياسي للأزمة، يلبي طموحات الشعب السوري، ويفتح الباب أمام بناء سوريا الديمقراطية الجديدة. ففي مثل هذا السيناريو سيكون الإعلام الرسمي على باب مرحلة جديدة، تقوم على حرية التعبير والرأي والعمل، كما هو الحال في عدد من الدول المجاورة والمتقدمة.
ويمكن تحديد أبرز الانعكاسات المتوقعة لهذا السيناريو على القطاع الإعلامي المحلي في البنود التالية:
ــ زيادة عدد وسائل الإعلام الخاصة وتنوع اختصاصاتها، وهذا من شأنه رفع قيمة الاستثمارات في قطاع الإعلام، واجتذاب الكفاءات والخبرات الوطنية، والأهم إغناء الساحة الإعلامية المحلية وخلق منافسة شريفة ومشروعة تحفز الإعلام الرسمي على التغيير والتطور.
ـــ تطوير أداء المؤسسات الإعلامية العامة في إطار مشروع مرتقب لإصلاح البنية المؤسساتية للدولة، وذلك عبر معالجة مشاكلها المتراكمة بجدية وموضوعية وتوفير بيئة العمل المناسبة لها من خلال تحويلها إلى مؤسسات تابعة للدولة، لا للحكومة استناداً لتجارب كثيرة.
ـــ توسع هامش الحرية واضطرار وسائل الإعلام الرسمي إلى محاولة مجاراة ذلك الهامش سعياً نحو تعزيز قدراتها التنافسية في مواجهة المنافسين الجدد في السوق.
ـــ تنوع العمل الإعلامي وملكيته، وهذا من شأنه خلق حراك مهني وسياسي كبير، فإلى جانب الإعلام الرسمي والخاص ثمة توقعات بنشاط كبير للإعلام الحزبي. فالإصلاحات السياسية التي سيجري الاتفاق عليها بين أطياف المجتمع السوري، من إصدار قانون جديد للأحزاب السياسية، والسماح لكل حزب بإصدار صحيفة خاصة، خطوات من شأنها توسيع مساحة التأثير لوسائل الإعلام في الحياة السورية خلال الفترة القادمة.
* رئيس تحرير صحيفة «تشرين» سابقاً