نظر جمال عبد الناصر إلى سفيره لدى واشنطن، وقال له، وكأنه يقرأ من الغيب: «أيّ تعويل على أمريكا هو وهم مش ح ينوبنا منه غير الخيبة الكبيرة». هزّ السفير المصري أحمد حسين برأسه دلالة على عدم موافقته على رأي عبد الناصر، وقال: «لا يا ريّس. مشكلتنا مش مع الحكومة الأمريكية. مشكلتنا مع الكونغرس. وإذا إحنا وافقنا على شروط الإتفاق، فأنا واثق إن الأمريكان حيلتزموا بكلمتهم معانا». ضحك عبد الناصر، ونظر إلى أمواج بحر الإسكندرية أمامه، ثم التفت إلى مخاطبه وقال: «انت واهم يا أحمد. ما تحطش ثقتك في الأمريكان خالص. الناس دول هيوَدّوك البحر ويرجعوك عطشان. وهتشوف!». لم يقتنع السفير المصري، وظل يجادل رئيسه لمدة ساعة كاملة. واستمع عبد الناصر بصبر إلى جميع حجج الرجل. ثم قام من مقعده، وفرَد ذراعيه أمامه، وحرّكهما يميناً ويساراً. كان جمال عبد الناصر يرتدي الشورت القصير، وقميصاً رياضياً. وبدا واضحاً للرجال الذين كانوا متحلقين حول مائدة، في «كابينة» شاطئ مصيف برج العرب، أنّ الرئيس ملّ من مناقشة سفيره العنيد. وساد الصمت برهة من الوقت، ثم التفت عبد الناصر إلى أحمد حسين، وقال له: «أنا هريّحك ع الآخر يا أحمد. روح لجون فوستر دالاس، وقل له إنّ مصر قبلت كل شروط أمريكا. وشوف بنفسك هو هيقول لك إيه؟!». دهش أحمد حسين بشدة من انقلاب موقف عبد الناصر فجأة، وقال له متعجباً: «إنت قبلت يا ريّس كل شروط الأمريكان. مش لازم نفاوضهم في الشروط دي؟!». قال عبد الناصر بحسم: «لا. روح عند صاحبك الأمريكاني، وقل له إنّ مصر تقبل كل اللي عايزاه أمريكا». ثم استدرك عبد الناصر قائلاً: «بس ما تعمل شِ، وما تقول شِ حاجة قدّامه تمسّ من كرامتنا. عشان لا هو ولا غيره م الأمريكيين حيِدّوك حاجة. هم، مِ الأول، ما كانوش ناويين يدّونا. وطول الوقت كانوا يعشّمونا بالفلوس، وبيضحكوا علينا. لكن ما دمت انت لسة متعشّم فيهم. فأنا قابل تمشي معاهم لآخر المشوار». صمت السفير المصري ثم قال: «طيب، خلينا نحاول بس». أجابه عبد الناصر: «براحتك. حاول زي ما انت عايز. بس أنا عارف إن السكة دي مقفولة في الآخر. ومتأكد إن الأمريكان هـ ينسحبوا م المشروع كله». صمت الرئيس قليلاً، ثم سأل سفيره: «انت راجع امتى لواشنطن؟». قال السفير: «بُكره». نظر عبد الناصر إليه ملياً، وقال له: «قبل ما ترجع لأمريكا. اشتري لك من أي مكتبة كتاب عن قناة السويس، واقراه». لم يفهم السفير مغزى كلام رئيسه، فقال: «اش معنى عن قناة السويس، يا ريّس؟!». ارتسمت ابتسامة غامضة على وجه عبد الناصر، وتمتم: «بعدين هتفهم».
أن يكون إصبعك تحت ضرس أميركا
حدث هذا الحوار في ظهيرة يوم 8 تموز/ يوليو 1956. وكان النقاش يدور حول مدى صدق الأميركيين في تعهداتهم بتمويل مشروع السد العالي، في أسوان. كانت قضية السد وقتها هي مشروع مصر القومي. وكانت البلاد تحتاج إلى تمويل ضخم لكي تنجز حلمها الأكبر. وقدّر الخبراء أنّ السد يحتاج بناؤه إلى مليار دولار، وهو مبلغ بالغ الضخامة، زمنذاك. ولزم المصريين أن يدبّروا أربعمئة مليون من ذلك المبلغ الإجمالي بالعملات الصعبة. ولم يكن أحد وقتها يستطيع أن يقرضهم هذا الكمّ من المال سوى البنك الدولي. وحتى ذلك البنك نفسه عظُم عليه جمع المقدار المطلوب لوحده. وارتأى رئيسه يوجين بلاك أن يتم اللجوء إلى كبار الدول المساهمة في البنك الدولي ليساعدوا في تأمين جزء من تكاليف بناء السد. وكان الاقتراح أن يدفع البنك الدولي مئتي مليون دولار، وأن تدفع بريطانيا والولايات المتحدة النصف الآخر من المبلغ الذي تحتاج له مصر. وكان على عبد الناصر حينئذ أن يتفاوض مع أميركا لكي تُقرض بلاده ما تحتاج له لبناء أكبر مشاريعها الاقتصادية. ولم يتفاءل الرئيس المصري خيراً بدخول إصبعه تحت أضراس دول الغرب، لكن لم يكن باليد حيلة! وبدأت المفاوضات التي قادها، في أول الأمر، السفير المصري في واشنطن أحمد حسين، في منتصف عام 1955. وكان الديبلوماسي المصري يظن أنه يستطيع أن يثير اهتمام جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي لكي ينظر في مطالب القاهرة المالية الضخمة بجدية، إن هو لوّح أمامه بأنّ حكومة بلاده بإمكانها أن تلجأ إلى الاستدانة من السوفيات كخيار بديل من دول الغرب وبنوكها. ولم يكن دالاس غِرّاً ليبتلع هذه الحيلة الساذجة، فهو يعلم أن الروس لا يستطيعون إقراض مصر كل ذلك المبلغ المالي الذي تحتاج إليه.
سقط بند جوهري يتعلق بقبول الصلح مع «إسرائيل» حدده الأميركيون شرطاً أساسياً

على أنّ الأميركيين لم يرغبوا في أن يسدوا أبوابهم في وجه المصريين تماماً، فلقد كانوا يراهنون، وقتها، على إمكانية اجتذاب عبد الناصر إليهم، لكي لا ينجرف، أكثر من اللازم، نحو المعسكر الشيوعي. وكانت هناك علامات كثيرة تثير غيظ واشنطن وقلقها من سلوك حكام القاهرة الجدد. ففي شهر أيلول/ سبتمبر 1955، كسرت الحكومة المصرية تقليداً راسخاً في المنطقة تحتكر بموجبه الدولُ الغربية مهمة توريد السلاح وبيعه في منطقة الشرق الأوسط. ولقد كان إعراض عبد الناصر عن الغرب، وتوجهه نحو الروس، وعقده صفقة ضخمة معهم لتسليح الجيش المصري، إنذاراً قوياً هال الأميركيين وقعُه وتبعاته. ولم يكتفِ عبد الناصر بالتوجه نحو الروس، ففي 20 أيار/ مايو 1956، بادر إلى الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية التي كانت واشنطن تعتبر حكومتها مارقة وغير شرعية، وتفرض حظراً شاملاً عليها، وتحجر على الدول الأخرى التعامل معها. واعتبرت أميركا أن الاعتراف بحكومة بكين هي «الخطيئة» الثانية التي يرتكبها عبد الناصر في أقل من عام واحد. إذاً، فقد كان على هذا الرجل أن يدفع ثمن استفزازاته غالياً. لكن لا بأس، فها قد أجبرته ظروفه أن يُدخل أهم مشاريع بلاده بين فكّي أنياب أميركا.

لكي تعرفوا من هم أصدقاؤكم الحقيقيون
كانت خطة واشنطن لمعاقبة القاهرة بسيطة وخبيثة: إنّ حلم المصريين بالسد العالي، سيكون هو نفسه الحبل الذي سيلتف حول عنقهم، فإمّا أن يروّضهم، وإمّا أن يخنقهم. واستقبل وزير الخارجية الأميركي دالاس وزير المالية المصري عبد المنعم القيسوني وقال له إنّ أميركا تقبل بمساعدة مصر من أجل بناء سدّها. ولم ينس دالاس أن يغلّف موافقة بلاده في غلاف من العبارات الإنشائية، فقال للقيسوني: «إنّ العالم الحر يهب لمصر سلاح الحياة، وأما الشيوعيون فيبيعون لكم أسلحة الموت. وإذا أنتم نظرتم في هذا مليّاً، فستعرفون عندها من هم أصدقاؤكم الحقيقيون!». وبعد هذا العرض الأميركي للنوايا الحسنة، دخل دالاس إلى الأمور الجدية، وبدأ يعرض سلسلة الشروط الأميركية. فقال: «إنّ حكومتنا لا تستطيع أن تمنح أموالها لمصر شيكاً على بياض، وهي لا بد أن تأخذ موافقة الكونغرس. والكونغرس لن يوافق على إعطاء دولار واحد للمصريين إن لم يبرهنوا على حسن سلوكهم». وكان هذا الشرط الأول يعني أنّ قرار مصر - من هنا فصاعداً - يجب أن يكون تحت وصاية أميركا. ومضى دالاس للشرط الثاني، فقال: «إننا لا نستطيع أن نمنحكم مبلغ المئتي مليون دفعة واحدة. ولكننا سوف ندفعها على عشرة أقساط. وأنتم تعرفون أنّ القروض الأميركية تندرج ضمن المساعدات التي تحتاج إلى تصويت متجدد عليها من الكونغرس كل عام». وكان الشرط الثاني يعني أنّ مستقبل شعب مصر، طيلة عشرة أعوام، سيكون تحت رحمة حفنة من أعضاء الكونغرس يتبدل بعضهم أكثر من مرة، في فترة بناء السد العالي. وحتى إذا تعهدت هيئة في الكونغرس بتمويل السد، فإنها لا تستطيع أن تلزم الهيئة التي تأتي بعدها بتعهداتها السابقة. ولم تكن هذه كل شروط الصفقة، فلقد أضاف الأميركيون طلباً جديداً: «يتوجب على البنك الدولي أن يكون هو المشرف على ما تستورده القاهرة من الخارج، لكي يتأكد الدائنون من قدرة المصريين على الإيفاء بالتزاماتهم المالية». ولم يتورع هربرت هوفر مساعد دالاس في أن يقول للسفير المصري أحمد حسين: «يجب أن تتعهد مصر في بيان رسمي بامتناعها عن عقد صفقات جديدة مع الاتحاد السوفياتي؛ فهذا أمر ضروري لكي تتمكن حكومتكم من دفع ديونها لاحقاً، بدل أن ترهن قطنها ثمناً لأسلحة تستوردها من الشيوعيين». وكان هذا الشرط الجديد فظاً ولا يستند إلى أساس، فلم ترهن مصر قطنها لأحد. لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد خبّأ الأميركيون شرطهم الأخير ليكون مسك الختام: «إذا رغبتم في عوننا، فيجب أن تعقدوا سلاماً مع إسرائيل. وهذا السلام سوف يكون لصالح مصر، لأنها إن رغبت حكومتها في تعمير البلاد، فيجب عليها أن تزيل كل أسباب التوتر والحروب». وكان هذا الشرط الذي يدخل فيه الأميركيون بند «إسرائيل» ضمن بنود الصفقة، هو بيت القصيد.

ماذا لو استجاب عربي لنداء الطبيعة؟!
فهِم جمال عبد الناصر أن كل تلك الشروط التي يضعها الأميركيون أمامه، هدفُها النهائي واحد من أمرين: فإمّا أن يستطيعوا احتواءه، والسيطرة عليه، وتسييره وفق رغباتهم، وإمّا أن تتورّط مصر في معمعة بالغة التكلفة شديدة الضخامة. ثم تتكشف المكيدة حالما يشرع المصريون في تحويل مجرى النيل، فإذا بالغربيين ينسحبون من المشروع كله، ليغرق جنوب مصر في الماء، ويغوص عبد الناصر في كومة هائلة من الصخور والأتربة والحجارة التي فجّرها لبناء السد. وفي 8 كانون الأول/ ديسمبر 1955 أرسل الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور مبعوثه الشخصي روبرت أندرسون إلى عبد الناصر ليشجعه على أن ينجز «صفقة القرن» مع الإسرائيليين. وفي اليوم التالي اجتمع عبد الناصر مع أندرسون في قصر الطاهرة، في القاهرة. وأخرج المبعوث الأميركي صورة لبرقيات أذاعتها وكالات الأنباء العالمية تشير إلى أنّ الرئيس إيزنهاور دعا كبار مستشاريه إلى دراسة تمويل السد العالي. وأنه ينوي التقدم، في الأيام القادمة، إلى الكونغرس لطلب الاعتمادات المالية اللازمة له. وقال عبد الناصر إنه يشكر الرئيس إيزنهاور، ويتمنى أن تتحقق هذه الأنباء الجيدة. ووجد أندرسون أن الفرصة مناسبة ليمدح رئيسه، فقال: «إنّ «آيك» (اسم التدليل لدوايت إيزنهاور) رجل يعرف كيف يصل إلى ما يريده. وهو بعد أن قاد الحرب ضد النازيين، يريد أن يقود السلام إلى الأرض المقدسة». واتجه أندرسون نحو هدفه المباشر، فسأل عبد الناصر: «هل يمكن أن تصنع، يا سيادة الرئيس، السلام مع الإسرائيليين؟». وفوجئ عبد الناصر بهذا السؤال، فقال: «إن مسألة فلسطين ليست قضية مصر وحدها، بل هي قضية العرب كلهم. وهو لا يستطيع أن ينفرد فيها برأي. لكن إذا جاز له أن يتحدث باسم الحكومة المصرية، فإنه يقبل شخصياً بقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947». وأضاف عبد الناصر: «ويجب أن يدخل في قرار التقسيم تقرير الكونت برنادوت، مبعوث الأمم المتحدة الذي اغتاله الإسرائيليون، وقد جعل صحراء النقب ضمن حدود الدولة الفلسطينية، لأنّ ذلك يضمن وصل البرينّ الشرقي والغربي للعالم العربي».

بعض المصريين كانوا ما يزالون يأملون خيراً في وفاء الأميركيين بتعهداتهم

وقال أندرسون: «إنّ المطالبة بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة هو أمر معقول، وسوف نحاول أن نجد حلاً لمشكلة النقب». صمت روبرت أندرسون قليلاً ثم سأل عبد الناصر: «وهل تقبل بالاجتماع مع بن غوريون، لكي تحُلّا مباشرةّ هذه المشاكل بينكما؟». وكتم عبد الناصر ضجره، وقال بأسلوب حاسم: «هذا مستحيل، فلا الشعب ولا الجيش في مصر يسمحان بهذا الأمر». قال أندرسون: «ولكن القادة يقودون شعوبهم، ولا يتبعونها». وأجاب عبد الناصر: «القادة يقودون شعوبهم إلى ما يحقق آمالهم، لا إلى ما يخيّب آمالهم». صمت المبعوث الأميركي، وبدا عليه الامتعاض من تشدد عبد الناصر، ثم أحب أن يغيّر مسار الحديث بابتداع أفكار يمكن أن تنال قبولاً عند الرئيس المصري، فقال: «قلت لي إن مشكلتكم هي أن إسرائيل تقطع الاتصال الجغرافي بين طرفي العالم العربي. ماذا لو صنعنا جسراً يمتد بقرب حدود مدينة إيلات في جنوب إسرائيل، ويصل بين مصر والأردن. وتكون السيادة فوق الجسر للطرف العربي، والسيادة تحته للإسرائيليين. أليس هذا حلاً مناسباً يحقق لكم الاتصال الجغرافي الذي تشتكون من كونه انقطع عن العالم العربي؟». فكّر عبد الناصر قليلاً، ثم قال: «تقول لي، يا مستر أندرسون، أنّ الجسر العلوي سيكون تحت السيادة العربية، وما تحته سيكون تحت سيادة أعدائهم. حسناً، ماذا لو أن عربياً وقف فوق الطريق العلوي، واستجاب لنداء الطبيعة، فبال على دولة إسرائيل أو على أحد أفراد شعبها؟!». ومضى الرئيس المصري يضحك ساخراً، وقال: «هل ستنشب عندها الحرب بين العرب واليهود؟!». ولم تعجب أندرسون فكاهة عبد الناصر، وشعر أنه يسخر من أفكاره، ولا يريد أن يقبل بحلول خلاقة لحل نزاع الشرق الأوسط. وحينما عاد أندرسون إلى واشنطن أعلم رئيسه إيزنهاور بأن المصريين ليسوا جاهزين الآن للسلام.

وهـتشوف!
سقط بند جوهري، يتعلق بقبول الصلح مع «إسرائيل»، حدده الأميركيون شرطاً أساسياً من أجل تمويل المشروع المصري. وبسقوط ذلك الشرط فترت حماسة الأميركيين الظاهرية للسد العالي برمته. وعرف عبد الناصر أنّ الرهان على أميركا لن يؤتي أكلاً، ولكنّ بعض المصريين كانوا ما يزالون يأملون خيراً في وفاء الأميركيين بتعهداتهم. وحينما رجع السفير المصري أحمد حسين إلى واشنطن، أدلى بتصريح إلى وكالات الأنباء أعلن فيه أنّ «مصر تقبل بكل المطالب الغربية لتمويل السد العالي، وأنها ترجو مساعدتها على إتمام ذلك المشروع الضخم، وتعتمد على هذه المساعدة». وغضب عبد الناصر لأن سفيره أعلن قبول المطالب قبل أن يجتمع بجون فوستر دالاس، ويسمع ما لديه. وزاد حنق الرئيس المصري من اللهجة المتوسلة التي اعتمدها سفيره لدى واشنطن. وفي يوم 18 تموز/ يوليو 1956، وصل أحمد حسين إلى مقر وزارة الخارجية المصرية ليجتمع بدالاس. ولم تمض دقيقة واحدة على دخوله مكتب الوزير حتى كان لنكولن هوايت، المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية، يعلن انسحاب بلاده من مشروع تمويل السد العالي. وفي مكتب دالاس، قال الوزير الأميركي للسفير المصري بلهجة فيها قدر عال من التعالي والجفاء: «نحن لن نساعدكم في بناء سد أسوان». ومضى دالاس يقول لأحمد حسين بكل غلاظة: «إنّ مشروع بناء السد العالي هو فوق طاقتكم على احتمال تكاليفه. وإذا واصلتم فيه فإنّ أعباءه ستسحقكم». ونظر دالاس بخبث في وجه السفير المصري، وذكّره بتلك الحيلة التي أراد أن يستعملها معه، فأضاف وهو يسخر: «وعلى كل حال، فإنّ أميركا تترك متعة بناء السد العالي للاتحاد السوفياتي إن كان يريد مساعدتكم على تحمل أعبائه». ولم يجد السفير المصري ما يصنعه سوى أن فغر فاهه مندهشاً. ثم إنه بعد أن خرج من مكتب دالاس، التقِطت له مجموعة من الصور المؤسفة، وهو يضع إصبعه في فمه كالأبله. كان جمال عبدالناصر، في تلك الأثناء، في طريقه عائداً إلى بلاده، بعد أن عقد اجتماعاً مع الماريشال تيتو في يوغسلافيا. وكان الرئيس المصري يجلس بجوار رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، في الطائرة، حينما جلب له أحد مرافقيه ورقة فيها نسخة من بيان دالاس. قرأ عبد الناصر بصمت تبريرات الأميركيين للانسحاب من الاتفاق حول مشروع السد العالي، ثم مدّ الورقة إلى نهرو. ولم يجد الزعيم الهندي الكبير ما يقوله سوى كلمات تمتم بها، باشمئزاز: «يا لصلافة هؤلاء الناس!». أحس عبد الناصر بضيق شديد: إنّ ما صنعه الأميركيون لم يكن نقضاً لما تعهدوا به فقط، ولا انسحاباً أحادياً من اتفاق دولي، بل كان تحريضاً وقحاً ضد النظام الحاكم في مصر، ودعوة شديد البذاءة للشعب المصري لإسقاط حكومته. وقرّر رئيس مصر أن يردّ على أعداء بلاده بما يجعلهم يندمون ندماً تاريخياً. ولم يطل الردّ كثيراً، فبعد أسبوع واحد فقط، أعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس رمز السيطرة الأجنبية في أرض مصر. وبواسطة الدخل المالي الذي وفرته عائدات القناة أمكن تدبير المبالغ الكبيرة بالعملات الصعبة، لبناء السد العالي. وساعد الروس في إنجاز هذا المشروع، وبرهنوا - أيامها - على أنهم أصدقاء حقيقيون.
* كاتب عربي