قضايا المشرق | تميزت العلاقة الأردنية الفلسطينية بأنها نمت في أتون الصراع مع الحركة الصهيونية حتى قبل نشوء دولة إسرائيل؛ فقد سعى الملك عبد الله الأول ـــ وهو ما قاده إلى سياسة تنازلات نحو الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية ـــ إلى الاستيلاء على القرار الفلسطيني، في مشروعه لإقامة مركز سياسي ـــ ديني مجابهة آل سعود بعد استيلائهم على الحجاز، وتجريدهم الهاشميين من المركز السياسي ـــ الديني الأول للمسلمين في مكة والمدينة.تمكن الملك عبد الله الأول، سنة 1950 من ضم الأراضي التي تبقت من فلسطين، غربي نهر الأردن، بعد قيام دولة إسرائيل. وهي الأراضي التي اصطلح على تسميتها «الضفة الغربية» ودرتها التي يريد: القدس الشرقية.

ثلاثة عناصر ساعدت عبد الله الأول على نجاح عملية الضم تلك، هي: (1) النجاحات العسكرية النسبية التي حققها الجيش العربي الأردني ـــ وقد كان أداؤه الأفضل بين الجيوش العربية في حرب الـ 48، وخصوصاً استبساله في الدفاع عن أسوار القدس وتمكنه من الاحتفاظ بها، و(2) الدعم السياسي من البريطانيين الذين وجدوا في ضم الضفة الفلسطينية إلى المملكة الأردنية، ومنح اللاجئين الفلسطينيين بعامة، المواطنة الأردنية، حلاً واقعياً للمأساة التي تسببوا بحدوثها في فلسطين، (3) ضعف الحركة الوطنية الفلسطينية لصالح النخب الإقطاعية والتقليدية التي فضلت، في مؤتمر أريحا 1950، الانضواء تحت العرش الهاشمي، بما يمكنها من الاحتفاظ بامتيازاتها.
بعد هزيمة حزيران 1967، سقط العنصر الواقعي الرئيسي لما عرف بـ«وحدة الضفتين» ـــ والمتمثل في وجود الجيش الأردني في الضفة الغربية ـــ بينما اتخذ صعود حركة المقاومة، بقيادة فتح، مضموناً انفصالياً عبّر عن ردة فعل متطرفة على طمس الهوية الوطنية الفلسطينية لمدة عقدين في ظل المملكة الأردنية، ما أوجد نهجاً فلسطينياً معاكساً يقوم على محاولة طمس الشخصية الوطنية الأردنية، الأمر الذي قاد إلى الصدام الأردني ـــ الفلسطيني عام 1970، وانتهى بخروج الفصائل الفلسطينية من الأردن. ونجم عن ذلك نشوء حالة من العداء والشكوك، سممت العلاقات بين الشعبين. اضطر النظام الأردني، تحت ضغوط داخلية وخارجية، إلى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، في مؤتمر القمة العربية في الرباط سنة 1974.
ولم يؤدّ هذا الاعتراف الى تهدئة الأمور بين النظام الأردني والقيادة الفلسطينية، بل استمرت الشكوك، وتنامى الكيد المتبادل، وانتهاج الطرفين سياسات ونسج علاقات مشبوهة وضارة بقضية الشعبين. وساهم الطرفان في تأجيج المشاعر المتعصبة المعادية للآخر، لدى الشعبين الأردني والفلسطيني. وفي الوقت نفسه، استمر النظام الأردني في محاولة استقطاب الجمهور الفلسطيني حوله ومحاولة تشكيل أطر سياسية تعارض منظمة التحرير بين الفلسطينيين في الداخل والخارج، إلا أن انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عام 1987، حسم الموقف في الضفة الغربية لصالح المنظمة، فاتخذ النظام الأردني قراراً بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية سنة 1988 مع الاحتفاظ بسلطة الهاشميين على الأماكن المقدسة باعتبارها حقاً تاريخياً لهم. وتسابق الطرفان بعدها على اجراء محادثات سرية، ولم يكن أحدهما معنياً إلا بالوصول إلى اتفاق مع إسرائيل أسرع من الآخر، ما أوصل الإسرائيليين إلى ما يريدون في اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين عام 1993 ومعاهدة وادي عربة مع عمان، في العام التالي.
السياسات الرسمية الأردنية إزاء الفلسطينيين، والتي انطلقت من مشروع الضم، أدت إلى تجنيس قسم كبير من الفلسطينيين، وأردنتهم. وقد أدى نهج المنافسة مع منظمة التحرير الفلسطينية إلى اتباع مزيج من سياسات العصا والجزرة مع الجمهور الفلسطيني، وفق معادلة تحسين الظروف الشخصية مقابل الولاء السياسي. ويبدو أن القيادة الفلسطينية انسجمت مع سياسات التجنيس والأردنة للاجئين والنازحين، تخلصاً من أعباء قضية العودة. ومن الواضح أنه بعد محادثات سلام ماراثونية استمرت أكثر من 20 عاماً بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، أصبح حق العودة نسياً منسياً. وفي خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2013 تحدث عن حل مشكلة اللاجئين ولم يقل شيئاً عن حق العودة. تمّ وضع القيادة الفلسطينية والنظام الأردني أمام خيار التنافس في نيل رضى الإدارة الأميركية أملاً في الحصول على مغانم، وذلك بتقديم تنازلات سياسية متتالية للراعي الأميركي، سرعان ما ترفضها إسرائيل وتطالب بالمزيد منها، حتى ابتعدت السلطة الفلسطينية بالقضية الفلسطينية من كونها قضية تحرر وطني وحق شعب في وطنه إلى كونها سلطة تقمع شعبها لمصلحة إسرائيل. وأدخلت، لأول مرة في التاريخ، مهنة مفاوض أزلي يستطيب الجلوس الى طاولة المفاوضات ولا يملّ من اللعب في الوقت الضائع.
لم تقدم جولات وزير الخارجية الأميركية كيري العشرة سوى الضغوط على الفلسطينيين للقبول بالترتيبات الأمنية الإسرائيلية والعودة إلى حل المسائل الاقتصادية للفلسطينيين، وسط مغريات أوروبية بتقديم مساعدات مالية واقتصادية واستثمارات ضخمة مقابل الوصول إلى اتفاق إطار، يفرض على الفلسطينيين القبول بتأجيل بحث المسائل السياسية المهمة إلى مفاوضات لاحقة. ونلاحظ، هنا، أنه بينما أكد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، حق الفلسطينيين الحصول على دولتهم، فإنه أردف بأنهم «لن يحصلوا عليها دفعة واحدة». وفي الأثناء، تكثّف تل أبيب حركة الاستيطان والاستيلاء على الأراضي وتهجير الفلسطينيين. وعلينا أن نتذكر بأن عدد المستوطنين الصهاينة ارتفع منذ أوسلو 1993 حتى الآن، أي في ظل المفاوضات المديدة لإنشاء دولة فلسطينية، من 260 ألف مستوطن إلى520 ألف مستوطن.
هل نعيش، بالفعل، عشية حل للقضية الفلسطينية؟ هل سينتهي هذا الكابوس؟ في كل الأحوال، لا حل من دون الاعتراف بـ«يهودية» دولة إسرائيل؛ يعني ذلك، تلقائياً، تقويض حق العودة بالنسبة إلى لاجئي 1948، وعدا عن صندوق توطين اللاجئين الفلسطينيين في أوستراليا وكندا، فإن الحل الواقعي المطروح هو عودة النازحين واللاجئين إلى أراضي الدولة الفلسطينية. وهي عملية لا تتسم بالحد الأدنى من الواقعية، حتى لو استعاد الفلسطينيون كامل سيادتهم على أراضي الـ 1967، فما بالك حين تكون الأرض الموعودة للدولة، مقتطعة بالمستوطنات جوارها وطرقها وبالجدار العازل والاحتياجات الأمنية الإسرائيلية في الغور، و«المعنوية» في القدس... إلخ، وبلا سيادة على الموارد والمعابر؟
تعاني الضفة الغربية من عملية هجرة ناعمة مستمرة أدت إلى وفود ما يقرب من مليون مهاجر اقتصادي من مواطنيها إلى الأردن، منذ 1988 بغرض الإقامة شبه الدائمة. وفي الواقع، ليس هناك فرص معيشية واقعية في الضفة الغربية لعودة هؤلاء المهاجرين الجدد المتزايدين باستمرار، على رغم كونهم يتمتعون، بالفعل، بالجنسية الفلسطينية وحق الإقامة في الضفة. الشطب الفعلي لحق العودة، أي عملياً تصفية جوهر القضية الفلسطينية على حساب الأردن، ستكون خلاصة أي حل آت؛ فالمفاوضات ليست لعبة شطرنج، وإنما محصلة لوقائع ساهم النظامان الأردني والفلسطيني في خلقها، عبر ستة عقود.
* عضو الأمانة العامة
لحركة اليسار الاجتماعي الأردني