كيف تبني الثقافات الزمن؟ وفي أي زمان من ثقافتنا نعيش؟ يحيلنا السؤال مراراً على تجريد مؤداه احتياجنا الواقعي لفهم العلاقة المتجاسرة بين الوعي والزمن والوجود. كان الفيزيائي المعاصر إيتان كلاين في سؤاله عن الزمن يرى في الوقت حاجة عقلية كيما يوازن الإنسان بين الزمن ووعيه الخاص بماهيته، ما الشكل الذي يتخذه الزمن؟ «الساعة» ـــ هي الأخرى ـــ كانت مطلع القرن الخامس عشر المنجز الأبرز الذي مكّن الإنسان من اخفاء الزمان وراء قناع الحركة المُشيَّئ والمنتظم.
سؤال الزمان الذي ما بارح الفيزياء، عاد مع نهاية القرن العشرين بصفته مسألة إدراكية «اجتماعية، ثقافية، ولغوية» في آن واحد، بدا الزمن مسألة متصلة بالوعي والذات، بالتجربة والمعرفة، بالوهم والخيال والذاكرة، وهو ما أطلقت عليه علوم الثقافة العقل المتجسد.
في قراءة الحركة الإسلامية يعجِزك أبداً هذا التداخل الغريب بين أزمنة وعيها الخاص. للحركة زمانان على الأقل، عقلان متجسدان في مقولتي التاريخ والمعرفة، ينتصران ويأتزران، يتساوقان ويتسابقان في انتاج ثقافة الواقع وثقافة المثال كل حين.
إن كل تحليل أو نقد للحركة الإسلامية ينأى بنفسه عن تفحص أغوار العقل التاريخي لهذه الحركة، سيظل دون أدنى شك بعيداً عن فهم ماهية الفكر السياسي الإسلامي، فضلاً عن فهم ثقافة الحركة الإسلامية المعاصرة. في الحقيقة، أخطأت الكتابات الثقافية المقارنة في قراءة الحركة الإسلامية كحركة ثورية مرة، وفي قراءتها كحركة تحررية مرة أخرى. للإسلام السياسي (مع تحفظي على استخدام هذا المصطلح) كما للحركة الإسلامية نظامه الخاص في تأويل المعنى والمراد، وهو ما ينبغي أن يكون جلياً في تطلعنا لاستقراء هذه الحركة من داخل سياقها المنظومي الخاص، بعيداً عن اسقاطات التثوير أو التنوير أو أي اختزالات مفاهيمية أخرى.
يمثل القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري لحظة مهمة في ميلاد وبلورة الرؤى الثقافية الخاصة بالاسلام السياسي راهناً. وعلى عكس انطباع الكثيرين ممن تتطلعوا إلى الإسلام السياسي باعتباره وريثاً وخلفاً لسلفية القرون الإسلامية الأولى (تحديداً لقرني النبوة والخلافة)، فإن القرون السبعة الأخيرة أضمرت في ما أضمرت نوعاً مغايراً من مؤسسات التأويل الخاصة بالثقافة السياسية. لقد تعهدت السلطة إعادة إنتاج وتقعيد الإسلام السياسي من خلال تكثيف خطاب ما على حساب آخر، كما أوكلت الخطاب السياسي لنوع مختلف من مؤسسات «الإقطاع الديني». يعبّر الدكتور سهيل زكّار في قراءته لتاريخ الدولة العربية في المشرق عن تحولات المجتمع والثقافة في تلك المرحلة بالقول: «لقد شهد العالم العربي إلى جانب الإقطاع العسكري اقطاعاً دينياً كان جديداً كل الجدة في تاريخ الإسلام»، هو اقطاع ما برح يكون نوعاً من الاستجابة لشرائط الاقطاع العسكري المهيمن.
شهدت تلك المرحلة تحولاً في خطاب النظرية السياسية الإسلامية، بدا ثمة انقطاع عن الميراث السياسي الفلسفي والأخلاقي الذي شهد صعوداً ذروياً أواخر القرن الحادي عشر، كان على الإقطاع اللاهوتي الجديد تغليب حضور التراث السلطاني ليؤازر بنى السلطة المترهلة. وبالرغم من الدور الكبير لحركات الفتوّة والآخيان والعيارين والأحداث (وهي جلها حركات صوفية) في بغداد وسوريا والأناضول، في مقاومتهم جور السلطة المستبدة ومفاعيل الغزو الخارجي، إلا أن النظرية السياسية الوليدة ما كانت لتبارح مرتكزات فقهية ثلاثة: الشوكة، الكفاية، والمصلحة، في قبال اقصائها لفضاءات نظرية وواقعية ثلاثة: العقل، المجتمع، والتصوف. بامكاننا مطالعة الملامح العامة للرؤية السياسية حينها في كل من مقدمة ابن خلدون - باب الملك والخلافة والمراتب السلطانية -، وكتاب السياسة الشرعية لابن تيمية، والموافقات للشاطبي. لقد أقصت الدولة الغزالي المتصوف وأبقته فقيها سلطانياً، وكذا فعلت بابن رشد، إذ استنبتته في حاضرتها فقيها ودانته فيلسوفاً، إمامة الإنسان مع ابن عربي كانت ستضعه هي الأخرى على طرف النقيض لسلطان الدولة، وعلوم السلطان.
يتلخّص الفقه السياسي لتلك المرحلة في حصره مجال السياسة الشرعية بالسلطة، ثم ايجازه الاجتماع السياسي للسلطة في صاحب الشوكة والسلطان، بعد حصر مسألة الحسبة والحدود بالحاكم وجعلها امتداداً حصرياً له. لقد انقلب هرم الاجتماع السياسي الإسلامي العام رأساً على عقب، مذ صارت السلطة حائلاً بين الإسلام وفاعليته القيمية والمجتمعية. وهي السلطة نفسها التي ستعود مع العهد العثماني كمسألة هوية قبل كل شيء، تحت وطأة الغرب هذه المرة، وهواجس انفصام الذات.
مرة جديدة قصُرت الدراسات الثقافية في قراءة التحولات النظرية للمؤسسة الثقافية مع تغيّر مباني السلطة المنتجة لها. مع الخلافة العثمانية عادت مقولة نظام الملك تحت حشد من شرائط الواقع المستجد. عام 1876 أحال العثمانيون دستورياً مؤسسة السلطنة على خلافة. لم تكن الخلافة تحولاً عرضياً، هي لم تكن مؤسسة سياسية فحسب، لقد عهدت هذه المؤسسة إعادة انتاج الوعي الإسلامي وفق مقتضيات السياسة والمصلحة آنذاك. مثلت الخلافة في القرن الأخير من وجودها إطاراً مرجعياً للحركة الإسلامية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى يومنا المعاصر. عملت الخلافة بهذا المعنى على اعادة تأويل الفقه السلطاني ضمن مقولات تأسيسية: مقولة الجماعة والهجرة، الحاكمية، مقاصد الشريعة/ المصالح المرسلة. بامكاننا مراجعة الخطاب الثقافي لمؤسسة الخلافة في قرنها الأخير مع كل من ضيا باشا وأحمد جودت ومذكرات عبد الحميد. وبغض النظر عن مقولة المقاصد التي استُعيدت على هامش السلطة الثقافية الرسمية، فقد كان لمقولتي «الجماعة والهجرة»، والحاكمية مركزيتيهما في بناء عموم المجال الثقافي للحركة الإسلامية، شارطتين نفسيهما على عقل هذه الحركة وما سينتجه طيلة القرن الأخير.
ردة دار الحرب ودار السلام من جهة، والحاكمية التي استعادها عبد الحميد الثاني في مذكراته من جهة أخرى، كانت ستعبّر عن عميق الأزمة المضطربة بين السلطة والجماعة كمجال وهوية، وكذا نقده لتجربة القرن الأخير من الإصلاحات التنظيمية، التي آلت إلى تفكك وحدة الجماعة والسلطة على حد سواء. السلطة في مذكرات عبد الحميد مناط بها وجود الجماعة وحقيقتها الفعلية. تفكك السلطة في مذكرات عبد الحميد كان يعني سقوط الجماعة وعجزها عن انجاز هويتها الرسالية والحضارية.
لم يُكتب لهذه الردة أن تنجز مهمتها. عام 1917 سقطت الخلافة رسمياً من أعلى هرم سلطة المؤسسة السياسية، ومعها سقطت ديناميات المقول الثقافي. مثلت لحظة انهيار الخلافة نقطة تحوّل في مجال السلطة المناطة بها إعادة انتاج الاجتماع الثقافي من خلال مؤسستي التحديث والتقليد، وهما المؤسستان اللتان لم تنجزا مهمتيهما طوال القرن التاسع عشر. سيشهد الخطاب السياسي بعدها حالة من النقوص القسري عبرت عنه عناوين ثلاثة: ثقافة الفرقة، ثقافة الهجرة والتكفير، وثقافة المصلحة.
من ثقافة الجماعة إلى ثقافة الفِرقة; اتخذت الردة التي عاشها المجال الثقافي الإسلامي تحولات مفاهيمية بعد سقوط الخلافة، الجماعة التي بدأت شرطة تاريخية آلت مع سقوط المؤسسة خطابها إلى مفهوم الفرقة. تتخذ الفرقة من الجماعة رائزاً خيالياً. مع الفرقة تصير الجماعة مفهوماً نكوصياً، تقوم الفرقة على ثقافة القسمة والنجاة، وتمارس فاعليتها داخل المجال الإسلامي، الفرقة مشروع داخلي، يجانب الخارج ويحاذر الآخر، الآخر في ثقافة الفرقة آخر داخلي- إسلامي، لذا سنشهد مع ثقافة الفرقة ارجاءً لكل تحد أو مواجهة مع العدو البعيد، على حساب مواجهة العدو القريب أو المسلم. لذا يتوالد مفهوم الدولة القاعدة كأساس ومبتدأ لأي من أنشطة الفعل السياسي لهذه الجماعة. وهو المرتكز الذي تنطلق منه الجماعة لمواجهة مشروع الكفر العالمي.
من ثقافة الجماعة والهجرة إلى ثقافة الهجرة والتكفير; تتابع الفرقة فاعليتها النفسية التطهرية، يتخذ مفهوم دار الحرب ودار السلام بعداً داخلياً، يصير العالم طوية هجرة الذات، تقوم ثقافة الهجرة على نبذ الخارج، وتمارس انقطاعاً مع كل معطى أو معرفة. تعبر ثقافة الهجرة عن لحظة من لحظات توتر الوعي الداخلي، بامكاننا تسميتها الرافضية الجديدة، رافضية تعيد إنتاج وتعريف الواقع على أساس خاص من الولاء والبراء الجديدين. ينعكس هذا المفهوم على بنى تنظيمات جماعة الهجرة. لا تعتمد تنظيمات الهجرة البنى الهرمية أو السلطوية، هي غالباً ما تقوم على أسس تنظيمات عنقودية أفقية، قوامها البيعة والطاعة.
من مقاصد الشريعة إلى شريعة المصلحة، بدت النظرية المقاصدية بارقة تعد بعودة الاجتهاد إلى حاضرة الثقافة التقليدية. ومع الشيخ طاهر بن عاشور في تونس راح منهج المقاصد يشق سبيله قاصداً مدنية مفتقدة، لكن هذه النظرية التي نمت خارج اسوار النفوذ السلطوي فترة الخلافة، سرعان ما سيطغى عليها النزوع التوفيقي، بين الوافد والأصيل في الثقافة والسياسة، ربما ساعد على ذلك ارتهان المثقف الحركي لشرطة الحداثة وفقه المهادنة، بعد تجربة المنفى التي اختبرها واختمرها في الغرب طيلة وجوده القسري فيه، منذ مطلع الستينيات، وهو الموضوع الذي سنتطرق إليه في مقالنا القادم.
كيف تبني الثقافات الزمن، وفي أي زمن من ثقافتنا نعيش؟ يعود السؤال مداهماً بعد كل هذا السرد. للزمن كما للثقافة حاجته ووجهته كيما تلتمس الأشياء وجودها، وكيما يختبر الوعي مآله. ما مثل الزمن الذي يختبره وعينا ووجودنا كل حين؟ إنها مسألة اختيار واختبار لما نأتنف وما نريد، من الثقافة والنقد، ومن الذاكرة والسرد، ومن الذاكرة والفاهمة التي سمتنا يوماً ما تريد أو ما نريد. هل كل نقد ميلاد لزمن جديد؟ بالطبع لا، لكن النقد لربما ولصدفة شاء التقاط «الثقافي» في راهنيته وآنيته، فدلّ عليه وأوّله بما تغنيه وتدنيه فرادته من أمسه وغده. إنه الشاهد بعد كل حين على موقع العقل في سردية اللغوي والكوني، إنه الفعل الذي يؤذن بميلاد فجر جديد للزمن والمعنى، وأما وأن ثقافتنا قد أُجهدت بما أُجهدت، فلنستمع إلى النقد، أراه منهمكاً اليوم بما يريد إيصاله إلى الآخرين غداً.
* باحث لبناني