أولاً: مقدمة عامة وخلفية تاريخية عن أصل العنفيقولون إن «الدولة» بوصفها الكيان السياسي الأكمل حتى الآن، تتميز عن غيرها من الموجودات الاجتماعية بخاصية «احتكار العنف»، بما فيه «العنف المسلح»، ونراها حقيقة. ففي حالة الكيانات السياسية «ما قبل الدولة»، وإن شئت فقلْ: قبل العصر الحديث وفق التحقيب الأوروبي، وجدنا أن السلطة العامة التي تمارسها باسم مجموعة اجتماعية معينة، كانت محل منازعة قوية من قبل المجموعات الاجتماعية المختلفة الأخرى. لقد كانت الدول المستقرة حينئذ تتمتع سلطاتها بقدر واسع نسبياً من الشرعية، ومن المشروعية القانونية، طوال شطر كبير من التاريخ المكتوب، عبر الحضارات القديمة كما في الشرق الأدنى القديم وحضارة وادي النيل، وكذا الحضارة الوسيطة وأبرزها الحضارة العربية الإسلامية التي استمرت قوتها الذاتية ودافعيتها الجمعية عموماً زهاء عشرة قرون (من القرن السادس إلى السادس عشر الميلادي).
وهكذا كانت الدولة عموماً تمارس السلطة في قلب خضم من المنازعة الاجتماعية المستمرة من قبل الكائنات المجتمعية المختلفة، المنظّمة غالباً، سواء أكانت هذه المنازعة آخذة الشكل العفويّ أو النظامي، وبينهما درجات كثيرة. بل كانت الدولة في حالة الاتساع المفرط لإقليمها المسيطر عليه، مادياً أو معنوياً، الدولة الإمبراطورية، تتسع لعدد من السلطات الفعلية المتنوعة، سواء داخل المركز نفسه (عاصمة الدولة)، أم في المناطق الطرفية (أو الولايات حسب التعبير التراثي). وتلك هي الحالة التي اتّسمت بها «الدول» الإسلامية المتتابعة المعروفة في بطون كتب التاريخ، ابتداء من «الخلافة الراشدة» إلى الأموية فالعباسية والفاطمية في المشرق العربي الحالي (ومن بعدها: الأيوبية فالمملوكية) مقابل دول الأدارسة والأغالبة ثم المرابطين فالموحدين وغيرهم (في المغرب)، ومن بعد في الجميع تقريباً: الدولة العثمانية. وكان للأندلس تاريخ مشابه خلال القرون السبعة وأكثر، التي استغرقها الحكم العربي في إسبانيا، عبر الخلافة الأموية، ثم ما يعرف بــ«ملوك الطوائف».
مقابل الحضارة العربية الإسلامية، كانت أوروبا في شطرها الغربي خلال العصر الوسيط مسرحاً «أنموذجياً» لتنازع السلطات داخل «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» في إطار النظام الإقطاعي «الأنموذجي»، ودع عنك تنازع السلطة بين الإمبراطور وبابا الكنيسة الكاثوليكية. وكان الشطر الشرقي المسيطر عليه من الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو «البيزنطية» مسرحاً مناظراً لتنازع السلطات بين المركز والأقاليم الطرفية، وداخل كل إقليم على حدة (حالة مصر مثلاً قبل الفتح العربي).
أما العصر الحديث الأوروبي، فقد تميز سياسياً أول ما تميز ببزوغ الدولة ككائن جمعي يمارس سلطته على إقليم مخصوص معيّن الحدود، يعيش فيه «شعب» يملك حق تقرير مصيره الجمعي في إطار «الدولة ــ الأمة» أو «الدولة القومية» Nation-State. لكن «الدولة القومية» في الغرب، بقيادة البورجوازية الصاعدة زراعياً فتجارياً وصناعياً ثم مالياً وتكنولوجياً، «حققت ذاتها» عبر «الاستعمار» كظاهرة وسمت العلاقات الدولية تحت ظلال «الرأسمالية العالمية»، وذلك من قِبل أوروبا الغربية (والشمالية) إزاء كل من عالم ما وراء البحار over seas (إفريقيا وآسيا عموماً) والعالم الجديد (الأميركتين) والأوقيانوسيا (أستراليا ونيوزلندا).
تتميز «الدولة» بوصفها الكيان السياسي الأكمل بخاصية «احتكار العنف»


في ضوء ما سبق، يمكن القول إن العنف المسلح الممارس من الكيانات المتنازعة فيما قبل الدولة الحديثة ــ بالمعنى الأوروبي ــ أصبح محرماً مجرّماً في «الدولة»، سواء الدولة الغربية العريقة (نسبياً) أو دولة ما بعد التحرر من الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأميركا ــ أي في عصر «ما بعد الكولونيالية». بهذا المعنى، أصبح احتكار العنف المسلّح أبرز خصائص الكيان المجتمعي المسمى الدولة. ولكن الدولة وفق المعنى المذكور، في إطار المثالية السياسية في الفكر الغربي السائد، (ينبغي) أن تقوم على التوافق المجتمعي الحر، الذي تذعن الكيانات الفرعية من خلاله للولاء الطوعي للكيان الأكبر، على قواعد من التشارك الاقتصادي، ونوع من التكافؤ الاجتماعي، والمشاركة السياسية المتنامية ضمن الديموقراطية، الحمّالة الأوجه.
هكذا، لا يكون احتكار العنف خاصية مجانية للدولة، ولكنها سمة مخلّقة من باطن الممارسة الاجتماعية المعقدة، فلا تكون محض ميزة مضافة لقوة اجتماعية بعينها في مواجهة سائر القوى.
فهل تحقق ذلك بالفعل؟ لا لم يتحقق. ولم يتحقق في الغرب الأوروبي بالذات، نتيجة التكوين الطبقي ذي الطابع الانقسامي الأشدّ في ظل سطوة الرأسمالية، وما تلاه من مظاهر لصراع طبقي صارخ، خاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واشتد تحت وطأة تفاقم الاحتكارات. فقد وضع كل ذلك قيوداً حديدية في العالم الأوروبي، ثم في الامتداد الأوروبي بأميركا الشمالية منذ (استقلال) الولايات المتحدة عام 1776 سواء على حدّ التشارك الاقتصادي، كما ينبغي له أن يكون، أو التكافؤ الاجتماعي من ثم، فالمشاركة الجماعية الحرة في السلطة العامة.
أما «دمقرطة العلاقات الدولية»، فكانت سراباً من السراب في ظل الاستعمار الأوروبي للقارات الثلاثة ــ إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ــ بل لم تبرز على مسرح الفكر الاجتماعي والخطابات الأيديولوجية إلا في عالم ومرحلة «ما بعد الحرب العالمية الثانية»، في إطار ظروف خاصة معقدة، أبرزها تشكل المجموعات الدولية الثلاثية آئنذ: الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والكتلة الشرقية (الاشتراكية) بقيادة الاتحاد السوفياتي، وعالم حركات التحرر الوطني وعدم الانحياز في «العالم الثالث» أو «القارات الثلاث».
في إطار ترسخ الدولة ككائن سياسي، تحت لواء الشعار الديموقراطي، وتسرب أفكار التكافؤ والعدل الاجتماعي في ظل «الكينزية» في الغرب و«الاشتراكية» في الشرق و«نمط التطور اللارأسمالي» في العالم الثالث، من 1945 إلى 1975 تقريباً، تم الاعتراف، في الغرب خاصة، بأن العنف المسلح الممارس من قبل الفواعل غير الدولة يعتبر عملاً محرماً، ومجّرماً داخل الدولة لتحقيق أهداف خاصة لمجموعات بعينها باعتبارها «إرهاباً». وهذا ما نعتبره «العنف محل الإدانة»، العنف المدان. وقد تم ذلك الاعتراف، رغم حالة «الإنكار» العملي لجوهر العنف المدان والإرهاب، التي جسدها التدخل الاستعماري من دول الاستعمار القديم والجديد في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وما حروب كوريا وفيتنام وحرب الجزائر التحريرية سوى أمثلة بارزة على جدل الاعتراف والإنكار. ثم إن مثالاً فجّاً واستثنائياً إلى حدّ بعيد للاستعمار قد برز في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو الاستعمار الصهيوني، العنصري الاستيطاني، في فلسطين (1948-...). وقد مارس الكيان السياسي الصهيوني الاستيطاني تجاه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ما أصبح يطلق عليه «إرهاب الدولة». كذلك إذن، أصبح الإرهاب كظاهرة عامة قريناً لإرهاب الدولة كظاهرة مخصوصة ولصيقة إلى حدٍّ كبير بممارسة الكيان الصهيوني.
وإن لإرهاب الدولة وجهين: وجه غير مجسد ووجه مجسد. الأول غير ملموس، كعنف رمزي وأيديولوجي وسياسي ودعائي وإعلامي، قائم على «القهر» كظاهرة كلية. والثاني مجسد ملموس، مادي، اقتصادياً وعسكرياً، وبالذات عسكرياً، كعنف مجسد بالسلاح، عنف مسلح باختصار.
ولا يعمل هذا الإرهاب وإرهاب الدولة منعزلاً عن المحيط المجتمعي الداخلي والخارجي، فكلاهما يغذي ويتغذى بالآثار التفاعلية الارتباطية، داخل نظام «الفعل وردّ الفعل» على الدوام.

ثانياً: محاولة تفسيرية ديالكتيكية
يختلف شرّاح الإرهاب والعنف المسلح المدان في تفسير الظاهرة على مروحة دائرة بين قطبين، أولهما ما يمكن أن تسمى الرؤية الأمنيّة ــ الآنية، وثانيهما ما يسمى نظرية «الأسباب الحقيقية». فأما الأول، فيرى أن الظاهرة تعود إلى ثغرات ذات طابع عرضي في المنظومة الأمنية في لحظة معينة عبر الزمن، ومن ثم فإن مدخل العلاج يكون من خلال «فرض الأمن» في المكان ــ الزمان.
وأما الثاني ــ الذي نميل إليه ــ فيرى أن ظاهرة الإرهاب والعنف المسلح يجب منذ البدء تمييزها بدقة عما عداها. فليس كل استخدام للقوة المجسدة من لدن «الهيئات غير ــ الدولة» بمثابة عنف مدان أو إرهاب. إن المقاومة «المسلحة» لإرهاب الدولة وللاستعمار الأجنبي هو استخدام مشروع للعنف المسلح. وهناك أيضاً الحركات الاجتماعية، المعترف بطابعها الجماهيري – الثوري، التي تقوم في مواجهة نظم حاكمة على النسق الفاشي الصريح (أو النازي إن شئت) مثل نظام «بينوشيه» الذي أعقب الإسقاط الدموي الشامل لنظام سلفادور ألليندي في دولة شيلي بأميركا اللاتينية في مطلع السبعينيات. ومن الأمثلة أيضاً: الثورة الكوبية التي قادها فيديل كاسترو ضد نظام باتيستا اعتباراً من عام 1959، وثورة «الساندنيستا» في نيكاراغوا مطلع الثمانينيات نموذج آخر.
ابتداء من التمييز بين العنف المدان والعنف غير المدان ينبغي البحث عن «الأسباب الحقيقية» للظاهرة. ويمكن اختزال الأسباب الحقيقية الموجبة للعنف غير المدان (أو المبرر) في كلمة واحدة: الظلم. قد يكون الظلم داخلياً، موجهاً من قوى اجتماعية وسياسية معينة، تستعين بالقوة المجسدة وغير المجسدة سبيلاً للاستبداد بالقوى الممثلة للأغلبية الاجتماعية الساحقة. وقد يكون الظلم خارجياً، موجهاً من دولة باغية أو مجموعة دولية طاغية، ضد شعوب بعينها، بغية منعها من حقها الطبيعي في تقرير مصيرها القومي، بما فيه فرض «سيادة الدولة على مواردها».
في هاتين الحالتين، الداخلية والخارجية، تتوفر «أسباب حقيقية» للعنف المبرر أو غير المدان (المجد للعنف الثوري إن شئت). وعدا الأسباب الحقيقية للعنف الثوري، هناك أسباب حقيقية مختلفة للعنف «الرجعي» أو الإرهابي، إن صح التعبير، حيث يكون العمل العنفي راجعاً إلى عوامل أفرزته أو أوجبته دون مناص. هذه العوامل ليست مقصورة على الجانب الأمني، المحدد مكاناً وزماناً، فذلك يكون، حيث يوجد، بمنزلة «قمة جبل الجليد» كما يقولون، أو الجانب الظاهر على السطح فحسب. إنما تكون تلك العوامل متسعة لعالم الجذور الكائن في «البنية العميقة» وليست «البنية الظاهرة».
ولدراسة البنية العميقة دراسة (عميقة)، تنبغي الإحاطة بتلابيب الظاهرة جميعاً، في مركزها ومحيطها، وفق الطريقة الديالكيتكية في البحث، أو ما يمكن أن نسميها منهجية «الجدلية الاجتماعية» ذات السمة «التشعيبية» أو المعقدة. هنا يبرز «الكل المتشعب» الذي تتعدد عناصره وتتفاعل أخذاً وعطاءً، على قاعدة من التناقضات التي تقوم بين الشيء وضده (Thesis & Antithesis)، ومنهما ينبع المركب الجدلي المنتظر (Synthesis). هذا الكل المتشعّب التناقضي في طابعه الجوهري، يشهد التطور عبر الزمن من البسيط إلى المعقد فالأكثر تعقيداً بالتالي، وبذلك تكتيل دائرة «الديالكتيك» الاجتماعي بامتياز. بهذا المعنى نستطيع أن نقدم اللوحة التصويرية الآتية: الديايكتيك الاجتماعي لظاهرة العنف المسلح المدان والإرهاب مع نوع من التطبيق على الظروف المصرية.
في نوع من التعليق التحليلي على هذه اللوحة التصويرية، كتطبيق للطريقة الجدلية تنزيلاً على فهم الظاهرة، يمكن تتبّع الخطوات التفسيرية، مع شيء من التطبيق على الحالة المصرية كما يلي:
(1) منبع العنف كائن ــ أو كامن بالأحرى ــ في التناقضات الاجتماعية:
تتحدد التناقضات الاجتماعية بالصراع على أربعة أمور رئيسية: الثروة والسلطة والمعرفة (أو الوعي) والسلاح، هذا إذا استخدمنا استعارات (ألفن توفلر) العائد إلى ثلاثة عقود تقريباً خلت.
الصراع الاجتماعي على الثروة (والدخل) أول مفاتيح الديالكتيك، وعلى قواعدها تنشأ الطبقات الاجتماعية أول مرة. بعدها الصراع على الإمساك بناصية السلطة العامة أو السياسية. وبينهما صراع رأس المال الرمزي وفق «بوردييه» وأضرابه من رواد ما بعد الحداثة في علم الاجتماع والاجتماع السياسي (بودريار، جيل دى لوز... الخ)، بالإضافة إلى البحث عن «المكانة» عند ماكس فيبر من قبل، وهذا صراع بينيّ وليس رئيسياً على كل حال. والثالث صراع على امتلاك المعرفة، بما فيها العلم والفن والوعي الاجتماعي. ورابعها التناقض على قاعدة حيازة القدرات العسكرية واستخدامها في حسم الصراعات السابقة.

المعالجة الأمنية بمحدوديتها الظاهرة شكلت سبباً إضافياً لتفاقم هذه الظاهرة


في التناقض المعقد على هذا النحو، يسكن جذر الممارسات الاجتماعية، بما فيها ممارسة العنف. وفي مصر المعاصرة تبرز أوجه التناقض جميعاً، من تناقض على حد الثروات والدخول نتجت عنه جماعات طبقية (وربما طبقات)، ونشأ بعضها واندثر بعض آخر، طوعاً أو كرهاً، وخاصة بعد ثورة 23 يوليو 1952 حتى 1970، في حقبة «تدخل الدولة الاجتماعي للعدل والتنمية» عموماً، ثم منذ 1971 في الحقبة الممتدة للانفتاح الاقتصادي و«الليبرالية الجديدة»، على موجات متقطعة مختلف ألوانها حتى الآن. وقد نشأت فاشتدّت صراعات على السلطة، بين النخب السياسية الممثلة للشرائح الاجتماعية، خلال ثلاثة أرباع القرن الأخيرة، وكانت لها انعكاساتها على «نخبة القوة» Power Elite جيلاً من بعد جيل (حزب الوفد نموذجاً).
بين الثروة والسلطة أطياف رموز المكانة ورأس المال الرمزي، ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال قرن ويزيد، على أيدي «الأفندية» عند ثورة 1919، و«الطبقة المتوسطة» بعد ثورة يوليو 1952. أما صراعات المعرفة والتعليم (الثانوي والجامعي)، فكانت ولم تزل قائمة على قدم وساق، تفرز شرائح وتطيح بأخرى، دون هوادة، لتغير نسيج «نخبة القوة» بل الطبقات والجماعات الطبقية أيضاً. وأما الصراع على الجيش وفي الجيش تجسيداً للقدرات العسكرية، فبرز على واجهة المسرح يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952 وما تلاه من أيام كل عقد أو عقدين، أو أقل أو أكثر.
في هذا الخضم التفاعلي الضخم نشأت جماعات العنف والعنف المسلح والإرهاب المنظم وغير المنظم في التاريخ المصري المعاصر، تاركة ببصماتها اللينة أو الخشنة على جنبات المسرح حتى اللحظة.
(2) تمظهرات الديالكتيك الاجتماعي تجتمع في الأيديولوجيات السياسية:
من ماركس (الأيديولوجيا الألمانية) إلى كارل مانهايم (الإيديولوجيا واليوتوبيا)، وألثوسار (من أجل ماركس) إلى عبد الله العروي (الأيديولوجيات العربية المعاصرة)- أو قلْ: الخطابات Discourses من ميشيل فوكو (أركيولوجيا ــ حفريات ــ المعرفة) إلى محمد عابد الجابري في ثلاثية أو رباعية «العقل العربي» ومحمد أركون... وآخرين.
هذا، ومن الأيديولوجيات ما قتل! ذلك مما يتضح من بعض تفرعات العمل العنفي المنبثة في بعض الأعمال الممثلة لما يمكن تسميته بالأيديولوجيا ــ أو الإيديولوجيات السياسية ــ الإسلامية، حين (تنطلق الكلمات من فوهة البندقية). ومن أحدث ما يرصد في هذا المجال خلال نصف القرن الأخير ما يمكن أن يطلق عليه «الفكر القطبي» في منتصف الستينيات من القرن المنصرم العائد في بعض منه إلى أبي الأعلى المودودي، وبعض اجتهادات ما يسمى «التنظيم الخاص». ثم جماعات وتجمعات العنف المسلح، تحت رداء التأويل الديني، في مصر بصفة خاصة، بدءاً من السبعينيات والثمانينيات: من جماعة صالح سرية في حادثة «الفنية العسكرية» إلى جماعة التكفير والهجرة ــ شكري مصطفى، ثم «الجماعة الإسلامية» و«الجهاد» ودع عنك تنظيم «القاعدة» في الثمانينيات انطلاقاً من أفغانستان وباكستان، وأخيراً «داعش» ISIS خلال السنوات الخمس الأخيرة تحت راية الخلافة أو «الدولة الإسلامية»، ومنها في مصر («أنصار بيت المقدس»...) ومن حول الجميع زرافات ووحدان من كل حدب وصوب، بما فيها خلايا يقظة أو نائمة، وذئاب منفردة انتسب بعضها مباشرة أو غير مباشرة إلى أجنحة من التنظيم (الأصلي) لجماعة «الإخوان المسلمين»، بعد 30 حزيران 2013. وقد أخذ يرتع الجميع، بألويتهم الأيديولوجية المتباينة، في شبه جزيرة سيناء بصفة أساسية خاصة في الشمال والوسط، وعلى الحدود الغربية لمصر مع ليبيا.
(3) استفحال الوجود العنفي والإرهابي في ظل بيئة حاضنة مفترضة، ودعم أجنبي مكثف، تجنيداً وتمويلاً وتسليحاً وإشرافاً مباشراً وتنظيماً:
البيئة الحاضنة لا نعلم عنها الكثير، ولكننا نعرف أن جماعات العنف المسلح والعمل الإرهابي قد «توطنت» زمناً في كهوف ومغارات، وقرى وأحياء مدينية، في الشمال والوسط من شبه الجزيرة السينائية، تتبع قاعدة «اضرب واهرب». واستطاعت هذه الجماعات أن تجد ملاذاً آمناً أو غير آمن، لأوقات ومدد متفاوتة، بالاستفادة من ظروف الحاجة، لانعدام أو قلة مصادر العمل الشرعي المكسب لجماعات اجتماعية وقطاعات من السكان داخل أو خارج سيناء والشريط الحدودي الغربي.
أما الدعم الخارجي المكثف، فهو أمر تتوفر بشأنه قرائن عدة للمراقبين والباحثين، وشواهد إثبات أمام منّصات القضاء، ولسنا هنا في معرض التعرض المحدد أو المفصل لها. غير أن لنا أن نقول إن البيئة المعقدة للإقليم الممتد للمنطقة العربية ــ الإسلامية المركزية قد يسّرت ذلك إلى حدّ بعيد، من هضبة الأناضول إلى منطقة الساحل الأفريقي، إضافة إلى البيئة الدولية المحيطة بنا، خاصة جراء سلوك (الإمبربالية الكبرى) الولايات المتحدة الأميركية، و(الإمبريالية الصغرى) إسرائيل، بين ظهرانينا ومن حولنا مشرقاً ومغرباً عربيين.
(4) المعالجة الأمنية، بمحدوديتها الظاهرة، قد شكلت سبباً إضافياً لتفاقم الظاهرة، منذ ما قبل «ثورة 25 يناير» 2011 حتى وقت قريب:
أشار بعض الخبراء هنا إلى الخبرات المستفادة المستمدة من تجربة «الحرب السورية ــ الروسية» في مواجهة الجماعات المسلحة والإرهابية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة خاصة 2015 ــ 2018 عن طريق تكتيكات «الزحف المتواصل» لتقطيع الأوصال وكسر خطوط الدفاع على مهل، وعزل الجماعات عن بيئتها الحاضنة، ثم الالتحام البشري بعد التمهيد النيراني الجوي والمدفعي، خطوة فخطوة. وهذا ما تم بالفعل، إلى حدّ كبير، في الحملة الأخيرة المسماة «سيناء 2018».
تلك هي الأسباب الحقيقية أو «الموضوعية» الأربعة من وراء الظاهرة العنفية المجسدة عسكرياً، مع علمنا أن هذه الأسباب الموضوعية إنما تفعل فعلها بعامل «التوسط الذاتي» ممثلاً في خصائص السيكولوجيا الفردية والجماعوية للأشخاص الطبيعية أو المعنوية، مما يدرسه علم النفس وخاصة للشخصية «السيكوباثية».

ثالثاً: من «الأسباب الحقيقية» إلى «المعالجة الرباعية»
في ضوء الأسباب الأربعة الحقيقية السابقة، يمكن تحديد المداخل الأربعة الآتية للعلاج الناجع من المرض المزمن للعنف المسلح المدان والفعل الإرهابي الممتد:
1- الإدارة الناجعة، أي الصحيحة والفعّالة، للتناقضات الاجتماعية الكائنة على محاور الثروة والسلطة والرموز والمعرفة والتسلح. وذاك أمر يطول الحديث فيه، وإن كانت مفاتيحه القوية كفيلة بفك مغاليقه القائمة عن طريق:
أ- السير على طريق تحقيق الإنصاف equity والعدالة justice والمساواة equality وتكافؤ الفرص equivalence.
ب- توسيع مسارات المشاركة السياسية الشعبية الحقيقية وعند الجذور.
ج- الفهم الحصيف للسيكولوجيا الاجتماعية للطبقة الوسطى الصاعدة المتوسعة بالفعل خلال العقود الأخيرة.
د- فتح أبواب المعرفة والتعلم ــ في العصر الرقمي ــ لمختلف الفئات الاجتماعية، خاصة ذات المواقع المنخفضة على سلّم الدخل والثروة.
2- توسيع نطاق البحث والدراسة على المستوى الأعمق للأيديولوجيا والخطابات، في أقسام العلم الاجتماعي بمعناه الواسع، داخل مراكز البحث والجامعات، فهماً تكاملياً حصيفاً وتعاملاً.
3- التحسين الجوهري لشروط حياة البيئات الحاضنة، خاصة في القرى والأحياء المدينية المكتظة والتجمعات الصحراوية، بالإضافة إلى تجفيف منابع الدعم الخارجي دون هوادة.
4- الحفاظ على قوة الدفع لتكتيك (الزحف المتواصل) بغير انقطاع وإلى أمد معلوم في الأفق المنظور.
* أستاذ في «معهد التخطيط القومي» القاهرة