تشير التجربة التاريخية للانتخابات في ظل الاحتلال الأجنبي إلى أن الانتقال من مستوى التحليل النفسي للأحداث إلى الجانب الجيوسياسي التطبيقي قد يجعل حياة الناس جحيماً لا يطاق. مع ذلك، لا مناص من العناية بالربط بين التاريخ القريب للبلاد والنتائج الحالية للانتخابات، إن كانت سليمة أو مزورة، والتي هي حصيلة ملموسة للاحتلال الأميركي منذ عام 2003. هنا سنبدأ، ولاحقاً نوضح، بأن الحالة في العراق تعيش في ظل موضوعين متلازمين ومتماسكين أحياناً ومتناقضين دائماً. الأول أن الزمن مادياً يعبّر عنه بأن الساعات بيد الاحتلال، وروحياً يأخذ شكل الوقت المهدور بيد الناس. والثاني أن الحالة الفعلية في العراق، وفي كل المستويات، تعيش في ظل ما يسمى «الحرب بين الناس»، وهي المرحلة الثالثة في التشريح القدير الذي عرضه المحلل العسكري الأميركي آندرو باسيفيتش. المرحلة الأولى هي المقاومة المسلحة الهجينة والخائبة ضد الاحتلال، وقد انتهت عملياً في عام 2007. والمرحلة الثانية بين عامي 2006 – 2007، هي الحرب «الأهلية» الفاشلة والمغلقة أيضاً. إن الحرب بين الناس هي الأخطر، فهي فضفاضة وتحمل في طياتها مختلف الاحتمالات المتناقضة والمجهولة. بهذا المعنى فإن «الحرب بين الناس» هي انكسار عضوي للحرب العامة بمفهومها التاريخي الاجتماعي الذي هو الخط العام للحروب «الخارجية والأهلية»! إن السبب غير المباشر لـ«الحرب بين الناس» هو بقايا «الفيض السوقي» الداخلي للعراق حيث لا يستتب «النظام» في المجتمعات «المائية» النموذجية للدولة المركزية في كل إنجازها الاجتماعي أو استبدادها السياسي.إن التشكيلات السياسية العسكرية لـ«الحرب بين الناس» تعاني تاريخياً من الوعي المقلوب، وهو الاستلاب السياسي والاجتماعي في نشاطه العسكري المنهار. وهو لا يحدد بالضبط بوصلة الاتجاه في المسؤوليات السياسية ويعاني من شقاء وخيبة في حصيلة نشاطاته المكتظة بالرغبات المتعاكسة. ولعلّ خير شرح لهذا الوعي الشقي هو قول القرآن الكريم: «أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (سورة الملك – الآية 22). من هنا بدأ النسيج الإعلامي الاحتلالي يشير إلى أن الانتخابات عززت فكرة عدم الاطمئنان إلى نموذج الفلوجة، لأنه لا توجد فيها مرجعية متماسكة دينياً ومذهبياً، ولا يمكن الاطمئنان إلى نموذج النجف، لأنه لا يوجد فيها هيئة موحدة سياسياً. إن هذا التضليل ضروري للتكرار، وهو جزء من الخفّة غير المحتملة للمزاعم الرائجة ضمن دوائر البحث عن مضمون الحكومة العتيدة، وهي آلية للتاريخ القريب المستعمل حيث يتجاذب ويتنافر الخطاب السياسي بالمضمون الديني والخطاب الديني بالمضمون السياسي، ويضيع المكون الكردي بين الأرجل، بالرغم من أن قوميته قد تحولت أيضاً إلى طائفية جديدة.
لكن المياه الجارية الآن للصراع حول الحكومة العتيدة تدفعنا أيضاً إلى التشبث بمفهوم ذاكرة الخفايا ودوره في كشف المعلومات المستورة تحت أكداس من المناورات اللاهثة للجميع، ومن الضروري التحديد بعد الاحتلال مباشرة في نيسان 2003. فبعد فشل الحاكم الأول جاي غارنر، من 21 نيسان إلى 12 أيار 2003، وكان عملياً مسؤولاً عن مكتب إعادة الإعمار (!) ضمن سلطة الائتلاف المؤقت، تقرر تعيين بول بريمر بكونه الحاكم السياسي للبلاد. لقد استُثنيَ حزب الدعوة بقيادة إبراهيم الجعفري، والتيار الصدري الناشئ من معادلة النخب التي ستتولى المسؤولية إلى جانب الحاكم الأميركي. وكان بول بريمر يريد تكوين حكومة كولونيالية نموذجية، وهي خليط من الأميركيين العسكريين والتكنوقراط يعمل تحت إشرافهم الكثير من النخب العراقية المتعاونة. لكن إحدى هذه الشخصيات (عدنان الباجه جي) طرح فكرة تشكيل حكومة تكنوقراط عراقية تعمل تحت سلطة الائتلاف المؤقت، فرفض ذلك بريمر، ولكن عدنان الباجه جي تراجع عن موقفه، ومن خلال وساطة مباشرة من قبل دولة الإمارات الخليجية وبالتنسيق مع إبراهيم الجعفري جرى الضغط على بريمر بموافقة واشنطن، وأعلن تأسيس مجلس الحكم العراقي، من 13 تموز 2003 إلى 1 حزيران 2004، التابع لسلطة الائتلاف المؤقتة. ويذكر الدكتور سليم الحسني، وهو من قادة حزب الدعوة، وقد تركهم منذ فترة، في سلسلة مقالات «إسلاميو السلطة»، الرقم 119، أن إبراهيم الجعفري، في خضم تشكيل مجلس الحكم وفي 5 تموز 2003 اقترح على بول بريمر أنّ يضم التيار الصدري إلى مجلس الحكم باعتباره حركة جماهيرية لها وزن مهم في الشارع الشيعي، وقد وافق بريمر، ولكنه رفض ذلك حين اشترط التيار الصدري أن يكون أحد أقطابه هو المسؤول عن مجلس الحكم.
هنا لا بد من الربط بين موضوعين: حكومة التكنوقراط ومن يديرها. ذلك أن الخبير، علي الخضيري، والمستشار لعدة سنوات للوزير الأول السابق نوري المالكي يقول بدقة إن الصراع ليس حول حكومة التكنوقراط، بل على من يكون في رأس الهرم الشيعي. لذلك، فشلت صيغة التحالف الوطني بكونه يمثل القوى الشيعية، وانتقل عملياً الصراع من صيغته الطوائفية بين مكونات بريمر إلى داخلها، ومن ثم بدأ الصراع الطائفي عند الجميع حول المغانم ومن عملياً يقود مكونه. وفي سياق حكم حزب الدعوة، أصبحت كل «كتلة» تفكّر في أن تكون بديلاً للحزب، وتسعى إلى حذفه من المسؤولية حتى لو نجح في الانتخابات التوافقية الاحتلالية. إن حكومة التكنوقراط ذات سيولة سياسية مثيرة بين حدَّي الوهم والحقيقة، حيث تصبح الرغبة في إلغاء الوهم حول الظروف هي الضرورة إلى إلغاء الظروف التي تطلب الوهم! هنا يعود تيار «سائرون» الملفق إلى إلغاء هذا الوهم المسبق الصنع، في ظل التدخلات الخارجية الفعلية، ومنها الأموال الخليجية الوهابية والضغوط العسكرية الأميركية والانخراطات السياسية المباشرة للمندوب السامي الأميركي دوغلاس سيليمان في مفوضية الانتخابات ومراكزها المنتشرة، ليرفع شعاراته في تهييج الشارع، وكأن مرحلة حرب الناس ستتحول عاجلاً أو آجلاً إلى قادسية جديدة جرى تحضير وتحوير حتى أشعارها وأغانيها السابقة. إن إعادة إنتاج الهدف الاحتلالي سياسياً وبعد استهلاك الوقت المحدد للصراع السياسي والتجاوز الذاتي المرتاح للأخطاء المسموح بها، هي سياسة استراتيجية للاحتلال الأميركي جرت دراستها وتدريسها دائماً من خلال مفهوم تطبيع استعمال القوة بجناحيها السياسي والعسكري والتناوب بينهما في ظروف إعادة بناء مكعب «روبيك» العراقي في العلاقة بين المكونات وبين من هو قادر على التأثير المباشر في العلاقة بينها في مجرى صيانة الاحتلال وحراسته.
لن تنجح الكتل، ومنها صاحبة الفوز المبرمج، في إعادة صياغة الحكومة التوافقية في المغانم الثلاثية، السلطة والقوة المسلحة والثروات الوطنية، ما دام هناك الاحتلال الأميركي ومعه كل ساعات الزمن الطوائفي المشؤوم. ذلك أن امتلاك النخب الفاسدة للوقت يبقى ناقصاً إن لم يكن مفقوداً، وأن معظمها، وخاصة «سائرون»، قد ينجحون في الإشارة المباشرة والقريبة إلى ما يريده الناس، لكنهم ضمن إطار عجزهم الاحتلالي لن يفلحوا في الإشارة وتحديد المضاعفات غير المباشرة والبعيدة للانحباس الطوائفي للمحاصصة الرديئة، ولا سيما في ظل ترديد مقولات باهتة عن استقلال العراق عن الصراع في الإقليم، لأنهم إما لا يدركون ذلك، أو هم منخرطون في خديعة لعبة النأي، وهي التهرب من مواجهة التحالف الأميركي الإسرائيلي الخليجي الرامي إلى تدمير المنطقة والعراق واستئصال محور المقاومة، وتحديداً سوريا وحزب الله والجمهورية الإسلامية الايرانية وتصفية القضية الفلسطينية وكل التيارات العربية المناضلة، ومنع إعادة بناء الدولة الوطنية في العراق ليكون لها دورها الخاص في هذا المحور المكافح.
* سياسي وكاتب عراقي