بدأ السؤال خلال نقاشٍ مع أصدقاء حول الوضع الاقتصادي لمحافظتي البقاع، في الدّاخل اللبناني، وأسباب حرمانهما وتهميشهما. تنتبه، أوّلاً، أنّ مدينةً مثل بعلبك لم تكن دوما «هامشاً» طرفيّاً، بل ظلّت لفترات طويلة مدينة حقيقيّة لها دورٌ ومجد، وقد خرج منها نتاجٌ ثقافي وفكري وديني، يدلّ على حياةٍ مدينية نشطة، حتى قرونٍ متأخّرة. أمّا لو عدنا الى التاريخ القديم، ففي «عصرها الذهبي» كانت بعلبك مجمّعاً دينيّاً هائلاً، فريداً في العالم الروماني، ففيها معبدٌ ضخمٌ لكلّ إله رئيسيّ تقريباً، كأنّها الفاتيكان أو مكّة. بل يخبرني حسن الخلف بأنّ هناك نظريّة في أنّ «معبد الشمس» الأسطوري في حمص لم يكن حقّاً في حمص، بل في بعلبك القريبة ـــــ «مدينة الشمس» ـــــ التي يؤمّها أهل المدينة لإحياء المناسبات الدّينيّة وأعياد الآلهة.هذا لم يكن مبنيّاً على فراغ، أو مجرّد أسطورة مرتبطة بموقعٍ ومكان، بل سببه جغرافي واقتصادي ايضاً هو أنّ بعلبك كانت تتوسّط الطريق التاريخي بين حمص ودمشق. كانت المدينة، كلّما صعدت سلطة سياسيّة مستقرّة تدير الاقليم، تتحوّل الى محطّة تجاريّة وواسطة عقدٍ مهمّة، سواء مع الرومان أو الأمويين، وقد اكتسبت في الوقت ذاته طابع مدينةٍ مقدّسة لها دورٌ ديني (كتوسّط مكّة للطريق بين اليمن والشام). في «لبنان الكبير»، أصبح البقاع اجمالاً ريفاً طارداً للسكّان، واقليماً زراعياً حدودياً تخفت فيه سلطة الدولة وخدماتها، ولا دور واضحاً له في منظومةٍ اقتصاديّةٍ أوسع. التنمية، في نهاية الأمر، لا يمكن أن تحصل بالاعتماد على زوّار الآثار والمهرجانات الموسميّة والزراعات «المشروعة» ذات المردود القليل، أو على صناعة «الصفيحة» البعلبكية (وهذه الأخيرة ليست مسألة هيّنة، بالمناسبة، وقد تعمّقت في موضوع اللحم بعجين مثلما فعلت مع الكباب، الذي درسته وقارنت أصنافه وتتبّعت أشكاله ونسخاته المختلفة عبر مطابخ العالم، من تركيا الى الباكستان. ومثلما وصلت الى قناعةٍ تفيد بتفوّق تقليد الشواء الايراني، فإنّ اللحم بعجين في بعلبك والبقاع ـــــ يسمّونه «صفيحة» ـــــ هو الأفضل في الكون).
عودة الى موضوعنا، لا يجب بطبيعة الحال أن نذهب بعيداً في استحضار الماضي وعقد مقارناتٍ مع التاريخ، أو أن ننجرّ خلف وهم أنه في الإمكان «بعث» دورٍ تاريخيٍّ من العالم القديم (طريق الحرير مثلاً) واستنساخه في سياقنا الحالي. الّا أنّ التّاريخ يشرح لنا، اقلّه، «كيف وصلنا الى هنا»، ولماذا وفي أية ظروف ازدهرت مدن معيّنة وأصبحت حواضر وعواصم فيما تهمّشت غيرها وضربها الذبول. «الدّور التاريخي»، بالمعنى نفسه، يضيء لنا ايضاً على ديناميات و«ميزات تنافسية» (طبيعية أو جغرافية أو غير ذلك) أعطت بعلبك وغيرها مجدها الغابر وهي قد تظلّ، في عصرنا الحالي، عامل أفضلية يمكن البناء عليه.
على سبيل المثال، لو قمنا بتجربةٍ ذهنيّة وتخيّلنا واقعاً مختلفاً بعض الشيء، وأنّنا بنينا مطاراً كبيراً في سهل البقاع، في مكانٍ ما بين زحلة وبعلبك. لو كان هذا المطار موصولاً بدمشق عبر قطارٍ سريع (المسافة لا تزيد على الخمسين كيلومترا) فهو سيكون صالحاً لخدمة العاصمة السوريّة. ولو كان موصولاً، من جهة الشمال، بمدينة حمص بالطريقة ذاتها (وهي على بعد 120 كيلومترا)، فهو قد يصبح مطاراً (أو «مطاراً ثانياً») لاثنتين من أكبر ثلاث مدنٍ في سوريا، عدا عن دوره في لبنان. المعادلة ذاتها تنطبق، ايضاً، على طرابلس، حيث يمكن لمطارٍ حديثٍ قربها (لو كانت حدود جوارنا مفتوحة) أن يخدم حمص والساحل السوري معاً، اضافة الى شمال لبنان. لو أضفت الى ذلك أنّ البقاع هو «عقدة الوصل» المنطقية بين البحر المتوسط والداخل العربي، فإنّه من الطبيعي أن ترافق المطار بنيةٌ تحتية لنقل البضائع برّاً وخزنها وتوزيعها الى مختلف أرجاء المشرق العربي، وليس فقط الى الجغرافيا المحيطة (على مثال سكك حديدٍ تنقل المستوعبات من المرافئ البحرية القريبة الى «مرفأ بري» في البقاع، تتقاطع حوله حركة التجارة والشحن الى مختلف الجهات). هنا، تصبح لديك قاعدةٌ اقتصادية حقيقيّة في سهل البقاع، ومصدر دخلٍ مستمرّ يمكن أن تبني عليه وتطوّره، وتنشأ حوله خدمات وصناعات ومصالح متشعّبة.
ولكن، حتى في هذا السيناريو، ستصدمنا الجغرافيا بمشكلةٍ اسمها بيروت. المطار هناك والمرفأ هناك؛ وبين العاصمة والداخل اللبناني، على قصر المسافة التي لا تتحاوز العشرين كيلومتر، جبالٌ شاهقة تمثّل سدّاً يرتفع أكثر من ألف متر خلال بضعة كيلومترات، وعليك أن تعبر من بيروت الى البقاع عبر ممرّات جبليّة يقارب ارتفاعها الألفي متر، وتسدّها الثلوج والانهيارات في الشتاء. أيّ نقلٍ بين بيروت والدّاخل (للبشر أو للبضائع) سيكون معقّداً ومكلفاً، وانحدار الجبال يعني طرقات طويلة ومتعرّجة، ويستلزم قطارات خاصّة لا تستوعب حمولات كبيرة وتنقصها السرعة والفعالية. في الحقيقة، حتّى لو أردنا يوماً ما بناء خطٍّ تجاريٍّ دوليٍّ عظيم بين البصرة والمتوسّط مثلاً، مع نظام شحنٍ وتبادل وقطارات وكلّ شيء، فإنّ الوصول الى بيروت تحديداً سيكون عقبةً ومشكلة ويزيد كلفة العمل. في وسعك أن تبني طرقات جبليّة أفضل، أو أن «تهزم» الجغرافيا وتحفر نفقاً في الجبال، ولكنّه سيكون حلّاً جزئياً ويكلّف المليارات. من الأفضل أن يبدأ السؤال من مكانٍ آخر: لماذا بيروت، أصلاً؟

لماذا بيروت؟
حقيقةً، كما مع المطار، يمكنك أن تستنج بسرعة أنّه لا سبب لأن يكون المرفأ الرئيسي على ساحلنا في بيروت. صيدا أو طرابلس هي احتمالاتٍ منطقيّة من كلّ النواحي: بين صيدا وسهل البقاع، وبعده الداخل السوري، طريقٌ سهلةٌ نسبيّاً وقصيرة، ولا تضطرّك الى عبور جبالٍ شاهقةٍ وقمم ألبيّة، وهي أقرب من بيروت الى دمشق. طرابلس، ايضاً، لها موقعٌ مثاليّ بل هي، فعلياً، أمام خيارٍ بين أن تكون مرفأً لحمص أو أن تصبح مرفأ صيد. من هنا نفهم لماذا كانت مدنٌ مثل صيدا وطرابلس وعكّا، متّصلةٌ بالدّاخل وحولها ريفٌ وموارد، هي المدن الرئيسية على السّاحل، وهي ــــ تاريخياً ــــ المراكز التجارية والإداريّة وعواصم الولايات، وليس بيروت قطّ (وقد كان هذا هو النمط المعتاد حتى أواسط القرن التاسع عشر).
كان سمير قصير يحذّر طلّابه من أن يأخذوا دعاية شركة «سوليدير» عن بيروت على أنّها حقيقة، ويصدّقوا أسطورة «المدينة الرومانية» والماضي الفينيقي. كان قصير يذكّر بأنّ بيروت التي نعرفها اليوم هي، أساساً، مدينة عثمانيّة متأخّرة وفرنسيّة، وفرنسيّة أكثر مما هي عثمانيّة (المباني المتبقية من الحقبة السلطانية لا تتعدى أصابع اليدين). وهي وليدة سياقٍ محدّد خلال القرن التاسع عشر، هو سياق «الاندماج» في السّوق العالمي والهيمنة الغربية على التجارة الدولية، وصعود مدنٍ مرْفَئيّة «حديثة»، ازدهرت تحديداً لأنها أصبحت قناةً للتواصل مع اوروبا والاستيراد والتجارة، وتركّزت فيها المصالح الأجنبية والقناصل والامتيازات. قبل حلول ابراهيم باشا في بيروت وتحديثه لمخطّط المدينة ومرافقها، وقبل أن تصبح بعدها المعبر الأساسي للسفن الأوروبية والأجانب، يصعب أن تجد للمدينة دوراً كبيراً، وأي مقارنة بينها وبين صيدا أو طرابلس (حتى نظلّ ضمن خارطة لبنان) لن تكون عادلة. حتّى قصّة «مدرسة الحقوق الرومانية» (التي استخدمت بكثافة في مرحلة الإعمار لإعادة تعريف بيروت وتسويق هويتها)، يقول قصير، ليست مؤكّدة وحولها شكوك. حتّى بالمعنى الأثري «السياحي» البحت، فإن التراث الفعلي لبيروت «القديمة» هو عبارةٌ عن مبانٍ فرنسيّة عمرها أقل من مئة عام، جميلةٌ وتعبّر عن حقبتها، ولكنها مستنسخة وستجد أشباهاً لها على طول حوض المتوسّط؛ فيما طرابلس وصيدا تملكان مدناً مملوكيّة كاملة وضخمة لا تزال على حالها تقريباً، وخصائص هندسية ومعمارية فريدة في العالم الإسلامي، وخانات كبيرة وأسواقاً وقصوراً مدهشة، تروي عن سلالاتٍ وحقبات ازدهارٍ توالت عليها.
الهدف هنا هو ليس المقارنة أو التنابز، بل للقول إن هناك أسباباً وجيهة حكمت بأنّ بيروت لم تكن مدينة ضخمةً في السابق ولا عاصمةً لأيّ شيء. فكّروا في الأساسيات: مدينةٌ تقع في سهلٍ ساحليّ ضيّق على شكل مثلّث، ليس حولها ريفٌ منتجٌ تندمج فيه ولا مجال وأفق للتوسّع العمراني والمديني. وهي، فوق ذلك كلّه، محاصرةٌ من شرقها عبر جبالٍ تناطح الغيوم، يسكنها تاريخيا فلّاحون فقراء وتجذب الهاربين من السلطة وقطّاع الطرق. من يجعل عاصمته، وبوابته الى العالم، في مكانٍ كهذا؟ العملية هنا ليست غريبة، فعلى طول التاريخ (وبخاصة في إقليمنا) تتوازى الحقبات مع صعود مدنٍ واندثار أخرى على حسابها، وذاك يجري لأسبابٍ مختلفة، سياسيّة واقتصادية وغير ذلك.
يُقفل المعبر الشمالي لـ«طريق الحرير» عبر العراق والمتوسّط، ويمرّ الطريق البديل في مصر والبحر الأحمر، مثلاً، فتزدهر الاسكندرية ودمياط وجدّة وتتقلّص انطاكية وطرابلس؛ تنشأ سلطة مركزيّة تدمج الأقاليم وتربطها ببعضها البعض وتخلق «اقتصاداً قاريّاً»، فتصعد مدنٌ «داخلية» مثل صفد ودمشق والموصل. أو تنعكس الآية ويصبح التبادل مع الغرب هو التجارة الأساس، في ظلّ اندثار الاقتصاد المحلّي، فتضعف المدن الداخلية وتبرز مكانها المدن الساحلية ذات المرافئ الحديثة وبوابة الجمرك، كبيروت وحيفا.

الاستغلال والتمييز والمدينة الفاشلة
يستخدم الكثيرون مفهوم «اللامركزية» في لبنان بشكلٍ يضرّ بقضيته، فتحيل «اللامركزية الادارية» في لغة السياسة اللبنانية «ما بعد الطائف» الى التحاصص ورشوة نخب الأقاليم واستنساخ مؤسساتٍ متشابهة لا حاجة لها، وتوزيع سلطة الدولة وإضعافها (والسبب المضمر خلف الكلام عن «اللامركزية»، غالباً، هو التطمين الطائفي وليس تحقيق العدالة). من جهةٍ أخرى، فإنّ «اللامركزية التنموية» تنطلق من البحث عن التناقضات التي تؤدّي الى انعدام العدالة والحرمان، وتركيز الثروة والفرص في مكانٍ وتهميش ما تبقّى ومنعه من ممارسة دوره الطبيعي. هذا التفاوت هو جزءٌ أساسيّ من القصّة الاقتصادية لأيّ بلد، والعامل الجغرافي هنا لا يختلف جوهرياً، في فعله وفي أسبابه، عن التفاوت الطبقي او التمييز بين الرجال والنساء أو أيّ شكلٍ آخر من أشكال التناقض التي تنجب انعدام العدالة. توزّع الثروة في إقليمنا العربي، بين دولٍ نفطيّة «محظوظة» وأخرى فقيرة كثيرة السكّان، هو شكلٌ رئيسيّ من هذا التفاوت. صعود نموذجٍ من قلب هذه المنظومة اسمه «دبي»، ايضاً، لا يتحقّق الّا لأنّ دبيّ قد أكلت دور البصرة وعدن، وأصبحت هي المرفأ والعقدة وبوّابة التجارة العالمية ـــــ أو المعبر الوسيط ـــــ صوب افريقيا والهند والشرق الأوسط (مع أنّ الجغرافيا والميزات التفاضلية ليست في صالحها، أي أنها لا تكتسب دورها الا مع أفول منافساتها وخرابها، بل وبفضل ذلك تحديداً). في دول الجنوب خاصّةً، حيث رُسمت الخارطة الاقتصادية في مرحلة استعمارٍ واختراقٍ خارجيّ، ثمّ عزّزت هذه الفوارق النخب «الوطنية» بعد الاستقلال، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً وحراجة.
لن أناقش هنا النظريات المتطرّفة، على طريقة المماليك، التي تعتبر أنّ كلّ سياقٍ يحتاج الى عمرانٍ خاصٍّ به، وانّك إن شئت تغيير شروط المرحلة، فلا يكفي أن تقلب رجال السلطة والسياسات، بل أن تهندس مدناً وعواصم جديدة، تحتضن ثقافتك وتلبّي حاجياتك وأهدافك. يكفي أن نقول إنّ العلاقة بين الحرمان والثراء ليست عرضيّة، وليست صدفةً أن تفيض بيروت بالمصالح والادارات ومقار الشركات، ويُساق الناس اليها للعمل من أرجاء البلد، فيما مدنٌ مثل طرابلس أو صيدا، بعد عقودٍ من الوعود والاستثمار السياسي والانفاق، لم يُخلق فيها قطاعٌ واحدٌ منتج، يصنع قيمةً وينافس، ويمكن أن تبني حوله مدينة. مثيرٌ أن الثريّ الصيداوي مرعي ابو مرعي قد تنبّه، منذ سنواتٍ، الى هذه الإمكانيات، وأنّ مرفأ شحنٍ في صيدا، مع تحسين الطريق الواصل الى البقاع وسوريا، مؤهّلٌ لهذه المهمّة أكثر من بيروت. رفيق الحريري، بالمقابل، أوصى على مخطّطٍ (تمّ تنفيذ أجزاءٍ منه) لـ«تأهيل» واجهة صيدا البحريّة على طريقة «سوليدير». ابو مرعي، الملياردير ذو الخلفية المجهولة، وقع على فكرةٍ تنمويّة حقيقيّة، فيما رئيس الوزراء والمسؤول عن الإعمار بعد الحرب كان يرى في كلّ شيءٍ مشروعاً عقارياً.
ما زال البعض يحمل رومانسيّةً ما تجاه عالم القرن التاسع عشر ونُظُمه وجمالياته، وفكرة «سلالم المشرق»، والمدينة الكولونيالية البحريّة الهادئة، التي تعجّ بالأجانب والقناصل والجواسيس (يسمّونها «كوزموبوليتيّة»، كوزموبوليتية منفتحة على أيّ تأثيرٍ خارجيٍّ، ولكنها تخاف من أهل بلدها). حتّى أنّ هذه الرومانسية تتحول الى نموذج، انطبع في أذهان العديد على أنه الشكل الوحيد للمدينة والثقافة والعلاقة مع الآخر. هم لا يستطيعون تخيّل عالمٍ مختلف، تتّصل فيه طرابلس وحمص وبعلبك ودمشق وبغداد وتترابط مصالحها، وتختصّ كلٌّ بما تتقنه ضمن هذه الدورة، وينتقل الناس بينها بيسرٍ خلال ساعات، وتنتج المنطقة مراكز ثقلٍ جديدة وتأثيرات ثقافية محدثة وأشكال مختلفة من التواصل والانتاج والهوية. هم يفضّلون البلد الصغير والمدينة الفاشلة، ببساطة لأنهم وجدوا لنفسهم مكاناً فيها ومركزاً وأصبحوا نخبها، وهنا معنى القول المعاند لمادحي بيروت «نحبّها رغم كلّ شيء» (أي نحبّها لأنّها كريمة معنا شخصياً، رغم أنّها تسحق أبنائها، وتخنق لبنان، ورغم أنها تجمّعٌ لانتاج البؤس من ناحية، وطبقة المحظيين وثقافة الفساد من ناحيةٍ أخرى).
الكذبة الأكبر هنا تكون في الكلام عن «أهل بيروت»، وهي فئةٌ أصبحت أشبه بأسطورةٍ انتخابيّة. فأهل بيروت الأصليون كانوا الضحيّة الأولى لبيروت الحديثة، وتقلّبات بيروت ما بعد الحرب. هل جرّبتم السّير في بيروت يوم الانتخابات؟ كلّا لم تجرّبوا، لأنني سرت بها وكنت وحدي، فالمدينة فارغة اذ عاد كلٌّ الى «مكانه» لكي يقترع. مدينةُ بلا أهل، مستوى الحياة فيها بائسٌ إن لم تكن ثرياً، و يهرب منها قاطنوها عند أوّل فرصةٍ ويحلمون بالتقاعد بعيداً عنها. مدينة من اللاجئين، أهلها الأصليون قد أُخرجوا منها، ويكبر أولادهم في مدنٍ محيطةٍ بنيت بعشوائيّة وبلا نسق؛ فيما قلب بيروت أكلته الرأسمالية وأدارت عليه قوانينها، حتّى أصبح للمستثمر الخليجي الغائب «مكانٌ» في المدينة، وأبناؤها عنها غرباء. الخدمة الوحيدة التي يمكن أن تسديها لهذه العاصمة هو في أن تهمّشها قليلاً، وتعطي غيرها الفرصة، وتتركها تذبل علّها تتنفّس، وتعيد انتاج نفسها من جديد على أساسٍ أفضل.