لا تنحصر عوامل فشل استراتيجية التحالف الدولي ضد "داعش" على ضعف نظامه التشغيلي، بل تتعدى إلى الشروط التي يجب توفّرها في أي استراتيجية، ولم تُوفّر لأسبابٍ ترتبط بطبيعة الأهداف التي توخّاها الآباء المؤسسون لهذا التحالف. فهؤلاء، الذين كان لهم ضلع في كل هذا المعمعان والمساق الخطير من جولات العنف الأسود التي لم تهدأ حتى الساعة، لم يضعوا في أهدافهم القضاء الكامل على "التنظيم الإرهابي المتشدد"، وإنما أرادوا تثبيت خطوط تمدده ومساحات همينته على مناطق محددة، تخدم الحضور الحيوي لبعض الدول الإقليمية والغربية، وكذلك النظام الجيوبوليتيكي الذي تشكّل على خلفية الصراعات الدائرة في المنطقة. لكن نعمة "داعش" على تكثيف التناقضات والنزاعات بين دول المنطقة وإغراق شعوبها بوحل التناحر المذهبي وتشكيل خرائطها على مبدأ التنافر الطائفي والعرقي، سرعان ما تحوّلت إلى نقمة عندما بدأت الدائرة تدور على أوروبا، وتحديداً حين وقعت الواقعة في قلب العاصمة الفرنسية. كان كل القتل والدمار والوحشية الذي تسبب به "داعش" في بلداننا كامناً في صفحة مرآة يعلوها ضباب الانحيازات العمياء والمصالح السوداء وغبار الحرب التي تجري في عالم آخر! لم يكن "داعش" يثير أحداً في الغرب الأميركي والأوروبي، ولا يخيف بلداً هناك أو يخلق أحزاناً وفواجع للتصدي له والتعامل معه! فلمّا مُسحت الغشاوة ظهرت على الصفحة صورة الحقيقة. حقيقة تتعدى التنازع بين اتجاهين، واحد مع بشار الأسد، وآخر يتشبث بأماني وأوضاع ومقتضيات ما بعد "الربيع العربي" ولو موّهته شعارات تكسبه جاذبيات ديمقراطية أو إنسانوية. كانت "غزوة" باريس كافية لتغيير طبيعة المواقف ونبضها وسقفها من هذا الوحش الذي ترعرع في أحضان ماقتيه الغربيين وحان وقت التخلّص منه، لا لأنّه لم يتقن أداء دوره وإنما لتجاوزه وجهته ومبادرته إلى ترسيخ قدمه في ميادين محرمة عليه. لم يفسد "داعش" ظروف الإبرام الأولى، وظلت الدول الداعمة له تعمل على إنمائه وإطلاق يده ليأتي على أخضر البلاد العربية ويابسها بلا تأسّف، واستمر يحظى بالمقبولية رغم وحشيته وإجرامه ما دامت الأشلاء المقطّعة والدماء المُسالة ليست لبشر يحملون الجنسية الأميركية والأوروبية.
لم يكن «داعش» يثيرأحداً في الغرب
الأميركي والأوروبي
بيد أنّ تحوّله أخيراً، على ضوء المعادلات التي يجرى إنضاجها في فيينا بين الدول الكبرى، إلى كلب "بيتبول" يغدر مربيه، دفع بالدول تلك، التي زوّرت لشعوبها حقيقة الأزمة السورية وما يقوم به داعش وأخواته من صنوف البربرية، لتعبئة الرأي العام ضد ما يمارسه هذه التنظيم من ترويع وهمجية، بعدما تغاضت سابقاً عن ألف ألف حالة واعتبار تطعن في استقامتها وخطورة أنشطتها. وعلى وجه السرعة صدرت مجموعة من البيانات عن المسؤولين الغربيين انطوت على تبرؤ واضح من هذه المنظمة وأفعالها، ودعت إلى التنسيق وتضافر الإرادات للنيل منها، فيما يشبه السيناريو نفسه الذي جرى بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وإعلان الولايات المتحدة الأميركية الحرب على "القاعدة"، حالما خرجت "القاعدة" من أسرها وبالغت في الافتراق عن الجادة التي رسمتها لها أجهزة الاستخبارات الأميركية والسعودية والباكستانية حين كانت الدواعي تقتضي مواجهة الاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي. والحال أنّ ما كان يُشتكى منه أميركياً واليوم فرنسياً وأوروبياً بعد الهجمات الإرهابية من قبل "القاعدة" و"داعش" إنما هو الصورة الطبيعية لسياسات وممارسات متبادلة من سنخية واحدة، تبدو عند النظر فيها قلّباً خلّباً، استوت على الدموية المفرطة سواء وقعت في الشرق أو الغرب وسواء كان المتسببون بها حليقي الذقن أو بذقون طويلة. وبالتالي لا يمكن لأميركا وأوروبا مجافاة الواقع وإحالة كل هذه الفظائع على هذه المنظمات وحدها، بل الانصاف يفترض أن تتوزعها كل الأطراف والدول التي أوجدت كل هذا المساق الجنوني في المنطقة والعالم. إذاً، الدول التي غضت النظر عن نوازع "داعش" وتركته يعمل على سجيته وسكتت عن مجازرها بحق المدنيين الأبرياء في سوريا والعراق ولبنان واليمن ومصر، أو تلك التي أسلست القياد لها ودعمتها لتؤول شعوبنا وبلداننا كلها على مزيد من التفتت والانقسام، والتي تلعن اليوم حظها وتعيش حالة ذعر واضطراب مما يحصل، لا يسعها أنْ تلقي اللوم على غيرها تبرئة للذات، وتملصاً من مسؤولية كان يحسن بها أن تتحمل جانباً منها إن كانت تزعم حقاً بأنها حريصة على السلام والأمن في العالم بأسره. فمن يقف على خريطة مواقفها السابقة من المسائل التي افترق فيها أهل بلداننا في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن سيجد أنها تتخطى نطاق التعبير عن الآماني والرغبات ببناء أنظمة ديمقراطية منفتحة على التعددية السياسية والثقافية والدينية، وتتصل بالفعل بسياسات تبرر الهيمنة لتأبيد استعمار هذه المنطقة واستغلالها وسرقة ثرواتها. ولعلنا لا نجور على أحد إن قلنا: إنّ من كان راغباً بالفعل باتقاء أذى "داعش" وشره، يُستحسن به أن يفتح الجرح على أسئلة مسكوت عنها ومنها شبكة الصلات المشبوهة بين دول مؤسِسة للتطرف تلبس لباس الوداعة، وجماعات شأنها وديدنها التطرف والجنون، يأتلفان معاً في الشر ونشر الفوضى. وهذه خصال ليست مقصورة على داعش وحده كما قال بوتين مؤخراً: "إنّ 40 دولة تموّل الإرهاب من بينها دول مشاركة في قمة العشرين". مع فارق أنّ العنف إن وقع في الغرب يحظى بأعظم اهتمام بينما في الشرق فهو من طبيعة الحياة وبالتالي لا حاجة للاعتناء بمخاطره. "داعش" كان لعبة مغرية ولكنها خطيرة وهذه هي نتائجها. فهل من يستمع، هنا وهناك، إلى دوي هذا الخراب !