بدأت أفواج المقاومين الجرحى من قطاع غزة تصل إلى المدينة الطبية في الأردن لتلقي العلاج وإجراء العمليات الجراحية. وصل عددهم إلى 31 جريحاً يعانون من إصابات متعددة، أغلبها بسبب رصاصات متفجرة في الساق؛ رصاص يستمر في العبور في طيات اللحم إلى أن يصطدم بعضو صلب كالعظم فينفجر محدثاً إشكاليات في الأعصاب والأنسجة تقود في أغلب الأحيان إلى إجراء بتر الساق.تلكم رصاصات تحمل رسالة صهيونية موحدة مفادها؛ هكذا نمارس نحن فعل القتل، وهكذا تنجح مهمتنا في منعكم من الوقوف مجدداً، أو المشي إلى سواترنا الترابية، وأسلاكنا الشائكة. ولكن رد الغزيين وهم على سرير الشفاء يوحي بنتائج مختلفة، فأحدهم ينتظر العودة على جمر ليشارك في مسيرات العودة مجدداً، ولو بساق واحدة، أو ساق اصطناعية، لا يهم. وآخر بملامحه الهادئة والساخرة يرى في كل ما يجري تراكماً وفعلاً يحتاج لنفس طويل كي تُنجز مهمة التحرير، وثالث يتحدث بشوق عن تجربة قص الأسلاك الشائكة وسط ساتر دخاني منبعث من الإطارات المحروقة، ورابع يتوعد من فراشه برد المقاومة التي لن تنكث عهدها، لا لشيء إلا لأن المقاومة في غزة ليست تنظيماً أو حزباً بالمعنى المتعارَف، إنما هي مجتمع بأكمله؛ مجتمع مقاومة.
لم يكن إبراهيم أبو ثريا حالة استثنائية بمعنى الندرة، ولكنه عبّر عن حالة استثنائية تمثلت في غزة، لدى الغزيين عدد كبير من نسخها الأصيلة، وما وصل إلى عمّان لم يكن سوى عينة بسيطة منها. إنها ببساطة الحالة الاستثنائية لمجتمع غزة في محيطه العربي.
الحوار مع هؤلاء الشبان المقاومين يشعرك بما هو أبعد من الخجل، فذلك يمتد أيضاً إلى حيرة معرفية في تحليل سيكولوجيا المقاوم الغزي. هم غادروا عالم الطموحات الصغيرة، وعالم الحقوق البسيطة في العيش في بيت تصله الكهرباء، وعائلة تتجول أسبوعياً في المولات لجلب طعامها، وأطفالاً منشغلين بالألعاب الإلكترونية والتواصل عن بعد، وحوارات تطول في التحضير لقضاء إجازات نهاية الأسبوع، غادروا كل ذلك والتزموا كونهم كائنات وطنية تحررية تدافع عن وجودها، ومع ذلك تحمل داخلها معنويات وطموحات وأحلاماً مستقبلية وسخرية وهدوءاً لا يتمتع بها الإنسان الضامر الحديث المتجول في المدن الصاخبة، التابعة والمركزية.
كيف أصبح الغزيون على هذه الشاكلة؟ ربما يشاكس ذلك المختصون في علم الاجتماع، والتاريخ، وعلم النفس الاجتماعي؛ فننطلق مرة من قاعدة عادات المجتمع وتقاليده، ومرة ثانية من التنوع الغني لثقافته الذي جمع ما تحمله الشام ومصر في آن واحد، ومرة ثالثة من المزايا النفسية التي قدمها لهم الساحل، ومع أهمية ذلك كله، قد نجد إجابة مركزية في عالم البيولوجيا، وبالتحديد «التحدي والاستجابة».
مع حجم التحدي الكبير الذي فرض على الغزيين، كان من الممكن أن يكونوا نسخة أخرى من الهنود الحمر، الذين عرفوا الدائرة الهندسية ولم يصنعوا عربة، فعجزت اللاما عن الاستجابة لتحدي العربات التي نقلها غزاة أوروبا إلى الأراضي الجديدة. أما في غزة فالحال مختلفة تماماً، فهي تصنع من الإطارات ساتراً دخانياً، ومن الأدوات البسيطة مواد متفجرة، كل ذلك -مضافاً إليه وفاء الحلفاء- كان جسراً لامتلاك القدرة على الرد بالصواريخ، وأن تصلنا أخبار ابتكار طابعة ثلاثية الأبعاد من تصميم شباب غزة. شعوب لا تتعرض لتحديات ولا تفرض تحديات على نفسها فتمسي مثل طائر الدؤدؤ الذي سمن وأصبح اصطياده سهلاً إلى أن انقرض تماماً، وشعوب تخضع لتحديات خارجية وتعجز عن الاستجابة لها، فتنقرض، وشعوب كغزة وجنوب لبنان تبتكر استجابتها الخاصة أمام التحديات الكبرى، وهذا هو بالتحديد الذي يجمع غزة بجنوب لبنان، باعتباره صورة المستقبل القريب؛ الاستجابة عبر جعل الأدوات البسيطة أكثر فعالية، والانتقال لاحقاً إلى موقع الندية، محمولاً بالقبول بمبدأ التراكم.
ما يجمع بين غزة وجنوب لبنان، أن مبدأ الاستجابة هذا يُعمّم، يصبح حالة عامة في المجتمع، فيمسي الحديث عن ولادة مجتمع مقاومة، يتمتع أفراده، واحداً واحداً، بمزايا الاستجابة! مع كل هذه الاستجابة للتحديات الضخمة، ربما يسهل تفسير ملامح الغزي على فراشه في المشفى؛ مبتسماً وهادئاً دون أن يجر عربة مشترياته أمامه بكل خدر!
غادر معتز قديح وقريبه جهاد المشفى منذ أيام؛ وظهرت صورهم مشاركين في الاحتجاجات مجدداً، فمن الجوار على أسرة الشفاء، إلى الجوار في درب الكفاح.
* كاتب أردني