إذا كان تعبير المارونية السياسية لا يزال معمولاً به، وبما يوازيه في البلد، فإنّ رمزاً أساسياً من أبنائه هو رئيس «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع. فهو عندما خرج من لقاء الرئيس ميشال عون خلال فترة مشاورات تكليف رئيس الحكومة استلهم الشيعية السياسية، مطالباً «التيار الوطني الحر» بمعاملته بعد الانتخابات كما يتعامل «الثنائي الشيعي» أحدهما مع الآخر. كأنّما «المارونية السياسية» التي انبنت في لبنان سنوات طوالاً، وكانت محكومة بمجموعة من الخلافات السياسية الحادة التي منعت التقاء حتى زعيمين أو أكثر منها في تحالف جدّي وحقيقي إلّا نادراً جداً، باتت تعترف بأن هناك «طائفة سياسية» أخرى حققت ما لم تحققه هي، لا بل تريد استلهام هذه الطائفة في الاعتراف بالآخر والتوازن والمنطق.
يعرف الدكتور جعجع طبعاً أن «الثنائي الشيعي» وصل إلى هذه الحال من التماسك والتنسيق والثقة شبه المطلقة بينهما، تحت معمودية النار، أو معمودية الفوضى التي ضربت لبنان منذ 2005 ساعة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وخلال وقت قصير جداً، واستثنائي في كثافته، أدرك رئيس مجلس النواب نبيه بري (كحركة أمل) والسيد حسن نصر الله (كأمين عام لحزب الله) أن الخطر يتجه نحو المقاومة (وطائفة المقاومة) في لعبة دولية مفزعة كشّرت عن أنيابها منذ لحظة الاغتيال، وكان لزاماً عليهما، كثنائي كبير، له قواعد واسعة جنوباً وبقاعاً وضاحيةً أن يباشرا بخطة مواجهة رسمت فوراً مهمات كل طرف، بحيث ظهر أن كل التعاون والتنسيق السابق بينهما كان «تدريباً» و«تمريناً» على ما ينتظرهما داخلياً وخارجياً (حرب 2006، وتعرّجات المحكمة الدولية، وحكومة السنيورة المعفاة من الشيعة، والعقوبات الأميركية والعربية وغيرها كثير)...
ثلاثة عناصر فعلية أوصلت العلاقة بين الثنائي الشيعي إلى هنا:
أولاً: الكيمياء، فهناك علاقة شخصية تخلت عن كل شك أو ريب أو غموض بين بري ونصر الله بحيث يغيب أحدهما عن الآخر حوالى سبع سنوات كاملة، كما قيل بعد آخر لقاء لهما ولا يتأثر حرف واحد من الاتفاق بينهما الذي يجب القول إنه ضمني لا ورقة فيه ولا رؤوس أقلام!
ومع الكيمياء احترام متبادل يشعر به كل من يسمع أحدهما متحدثاً عن الآخر في الخطابات والمناسبات العامة وفي الصالونات الخاصة التي يذكر اسماهما فيها.
ثانياً: هناك طرف في هذا الثنائي هو حزب الله، مقتنع والقناعة عنده راسخة بأنه عندما سلّم الرئيس بري راية الطائفة الشيعية في البعد الداخلي اللبناني كان يتخفف في المشاكل مع القوى السياسية الأخرى قدر المستطاع، تاركاً المسؤولية بين يدي بري العارف بطلاسم هذه الدولة. لكن بري لم يكن يوماً إلا مركز استقطاب ايجابي لجميع الفئات اللبنانية (التعاون بشرف والتخاصم بشرف) من دون استثناء، فالذين يحبونه يقولون ذلك، والذين يخاصمونه يقولون ذلك... ومنذ 2005 كان ضابط الإيقاع الوحيد الذي ما ارتبك ولا تقلقل في إدارة البلد.
ثالثاً: هناك ما يمكن وصفه بتوزيع الأدوار بين بري ونصر الله. فبري عين على الداخل اللبناني وعين على الخارج المرتبط بالداخل، ونصر الله عين على الخارج الإقليمي وعين على الخارج الدولي ووجوده فيهما مؤثر وفعال. وصاحب كل دور يؤدي السيناريو الذي يؤلفه ويراه مناسباً في الوقت المناسب، وفي القضية المناسبة بدعم من الآخر.
إن الاغراءات التي طرحت بين يدي الرئيس بري من جهة، وسماحة السيد حسن نصر الله من جهة أخرى، ومن مصادر مختلفة ومتناقضة أحياناً من أجل فك التحالف بينهما قادرة على هز الجبال، لكنّ الجانبين تصرّفا حسب حكمة الإمام علي: كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب.
لم يحدث في تاريخ الشيعة اللبنانيين أن أدّوا الدور الأبرز والأهم في تاريخ لبنان. هم الآن يؤدّونه بجدارة «الثنائي الشيعي» الذي كان مخاصموه يتّهمونه باحتكار «الشيعة» وإفشال «المعارضين» فيهم، على المنابر والإعلام، فباتوا يتمنّون من الآخرين أن يعاملوهم بهذا الأسلوب الذي لا نستبعد أن يسمّى «الأسلوب الشيعي»، شرط أن تحفظ الملكيّة الفكريّة لبرّي ونصر الله في زمن تمويه الملكيّات.
أين كان الشيعة في لبنان في بداية الحرب اللبنانيّة 1975؟ وأين أصبحوا في المعادلة في 2018؟ ربّما أكثر القادرين على الإجابة هو الدكتور سمير جعجع، لأنه ذاكرة تحلل الماضي والحاضر، لكن اتفاق «أوعى خيّك» الذي كان حديقة أمل وطنية لا مسيحية فحسب، حيّرنا بين أنه قادر، بعد أيام من توقيعه على إنجاب رئيس قوي لجمهورية لبنان، أو أنه غير قادر بعد سنة ونصف سنة على إنجاب... مدير لتلفزيون لبنان.
* إعلامي لبناني